عبر أفواههم أتت الفضيلة الدائمة

ترجمة: حسين ناصر الدين

الصورة 1: آسيا ودود. نقطة مقابلة ، سبعة في واحد. صور مجمعة رقمية. 2021.
الصورة 1: آسيا ودود. نقطة مقابلة ، سبعة في واحد. صور مجمعة رقمية. 2021.

تغرق اللحظة المقعرّة الثابتة عشرات

لا أقل بأعبائها

خلاص ثلاثي الأضعاف ما لم يُجمع

ثم صرير ليلي و

مغمور بالرمال حتى

يتلألأ انكشافه لنا لنشهد

مُحدَّق فيه،         لا اعتراض في خط الرغبة

رد الفعل كريشندو اخضر تتأتى حركته

مبتورة مجددًا داخل منطق دائري

يُنسج على الطرف الخارجي ويعلق، بتوتر يقاوم السقوط الحر

مشدود على الحافة

خط الأفق يُدرّب مجددًا، يدور ويوجه

اسمعوا الآن، تكاد الشبكة تنتهي

كل رباعي غرافيت يتاخم باحتوائه

الحدود والإطار     

لكن كلّ شيء قابل للالتواء،           طاعن أملس

رأيناه كلّنا، زئبقي يقطع أخاديده

فلينتهي المُنحطون وليأكل الخراب عروقهم

كل الأناقة واقعة الآن في المصيدة

الترف في الولاء – تُكتنز وأيدينا إذ تتشابك

التأمين في عجيزة عمودية

احم بلاطات الأرضية العتبة الملحة

وعالج التدفق على الأرض

جميع الممالك القاحلة أتت الليلة الماضية

وفي حلم أرض منخفضة يظهر المضيف والظهور

صامتين إلا عندما يتحدثان

عبر أفواههم أتت الفضيلة الدائمة

وقد أدرنا ظهورنا لكي نسمع عقائدهم

ينهمر الكرشندو كلّه

تنادينا كلّ الأجراس الملحة مجدًدا

لقد نطقوا

وقد طُعّمت كل الأحطاب التي انجرفت

أنا ثلاثين يوم تمر من ديسمبر

فلم ندع القمة تنجرف؟

بنيت مهدًا ورافعة كأدوات مثبتة

قاوم الوزن وانظر إلى دمعه الرصاصي، أرتخي وأخضرُّ

كل العقود نهاية تتبجح

على مرثية من انتهت الشبكة؟

وما الذي اقترفته؟

أربعة زوايا، معقمة في نهجها                    

زوايا مضيّقة

            قوية ومحكمة، ربّ ترتيبات مغرة

تندلق عبر الطرق الواسعة

تتقدم بشكل وردي لزج

كنا نختبئ في غشاء السحابة الماطره التي تغطي المكان 

وعبر تشققاتها، غدت السماء الخلوية الخفية

ثم تداعى مستقبلها القرمزي

إذ يكاد يغامر عند نقطة الحياة الجامدة

ويتفاخر كي يرفع أعبائه

                                    أزهرت الطحالب الزرقاء ثم وقعت القمة

العندليب والتلوّن والحدة

القرمزية بشكل سهل الآن

يبتلع مزامير ثابتة وشرائط تنحني

الصورة 2: آسيا ودود. الخطابة باللون الأخضر 1. مناديل ورقية مصورة وممسوحة ضوئيًا. 2022.
الصورة 2: آسيا ودود. الخطابة باللون الأخضر 1. مناديل ورقية مصورة وممسوحة ضوئيًا. 2022.

عالج الدفق على الأرض

            وأعمال الهيكل في الأرضية

عشرات-أشباح ومنطق ثلاثي المفعول

                      ما يحلّ في الأسفل

نأخذ الثلاثيات المتسلسلة وقتًا مثل اليشم العرعر أو السرعوف

أو اقتراح بأن تكون         حتى تتمكن من العطاء

فلتنحنِ وليتراجع الكورس

وليأخذ طرفًا بطرفًا ليغطي تبجحه

تراتيل منقسمة ومزامير مفلطحة

أثلاث تُقرع حول الرف

لا يزال الانجراف قوي ومحكم، رُبّ ترتيبات مغرة، وحي

والإلحاح داخل صناديق الصنوبر يستسلم لـ

اليشم العرعر أو السرعوف

السرعوف ثم إلى الإفراز، ستارة مطوية بعكس

المنطق الأوبرالي

            تستضيفها الأحطاب غير المقطعة

                      تتيح لها الرنين

                      تتيح للطمي أن يردد الوحي

جميع الممالك الثلاثين أتت الليلة الماضية

وفي حلم أرض منخفضة يظهر المضيف والظهور

            حواف خشنة ثم ترتاح، تستدير

تُقطف في آخر ديسمبر

وتكسو جدول الوقت وصناديق الصنوبر

سبعة وثلاثون مرّة السؤال

ركّب الأحجار وليكن صوت الكورس

دائري المنطق في الغرفة الصامتة

إذا كان القبو جاهزًا فليدخلوا

جاء المنطق المُذهب في الليلة الماضية

وقال لي ما قال

            كل الإسناد والعهد

            كلّ الأساس والوعد

            كل الأساسات ومن أسفل لأعلى

عطشان في منطقه

الصورة 3: آسيا ودود. الخطابة باللون الأخضر 2. مناديل ورقية مصورة وممسوحة ضوئيًا. 2022.
الصورة 3: آسيا ودود. الخطابة باللون الأخضر 2. مناديل ورقية مصورة وممسوحة ضوئيًا. 2022.

مزامير ثابتة وشرائط تنحني لكي

يصبح التشابك هو المعطى

            عالج المنطقة واجعلها ناعمة

مبتورة في الحاحها، لذا تعلّق الدعوة

عالج الدفق على الأرض

            عشرات-أشباح مستقبلية ومنطق ثلاثي المفعول

         منطق مشع وقمم شعاعية

                                    تُترع الطرق الواسعة بالمياه الحريرية

ارسل كل شيء مع تلميحه

قمة راديكالية وابريق يحوم

في حلم الليلة الماضية

تم التخلّص من كلّ الممالك

                        كان الأمر أوبراليًا

في النهاية، حكمت بالضعف الأخير

يركب المستقبل التنور، المملكة حجرًا حجرًا ثم سقط

منطق هوسمان أو قرن مضى وانقضى

يشمع كل مصباح مضاء النهايات

كان كلّ ما أرادوه هو أن يحفظوا

كان الخراب يعلو وكلّ ما بقي كان أغنية صفارات الإنذار

فلتنطلق وتتحمس، ولتطوى في رثاء واتساع

تستسلم الأنفاس والقمة مع الموجة القادمة

تحمل البنية منطقها الوحيد، رغم أن الجنة أرادت الشعور بالفعل

 وعبر النسيج المخملي صار مستقبلًا

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢
العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من “هومو فينيس”, فيلم, ٢٠٢٢

برّاد

العمل الفني: ألين ديشامب، "سيارة مدمرة جزئيا بالانفجار في الجميزة تنتظر انتهاء التضخم الجامح لعل يتم اصلاحها". تصوير فوتوغرافي، 2021
العمل الفني: ألين ديشامب، "سيارة مدمرة جزئيا بالانفجار في الجميزة تنتظر انتهاء التضخم الجامح لعل يتم اصلاحها". تصوير فوتوغرافي، 2021

مقطع من رواية “من قتل عصام سكّر؟ أو: لحوم طريّة”

            في المقطع التالي، تنزل إحدى الشخصيّات الرئيسيّة إلى قبو أختها في بلدةٍ لبنانيّة على الحدود السوريّة، لتجد جثّةً مدسوسةً في البرّاد. من هذا الشخص، ومن وضع جثّته هناك؟ هل قتلته العائلات السائدة في البلدة الحدوديّة مثلاً، أم جرّته إلى القبو إحدى المجموعات المسلحة القادمة من وراء الحدود؟ أو هل وضعت الأخت تلك الجثّة في البرّاد بنفسها؟

            تبدأ نفيسة بالبحث عن القاتل، وتبحث الرواية بدورها في العلاقات بين الجنسانية والعمل، الهجرة والكوارث البيئيّة، الوطنيّة والعنف. وما يجمع تلك الخيوط فهو اللحم: العلاقة بين الظاهر والباطن، بين المادّة وما عداها.

            فكلمة “بشر” بالعربيّة متعلّقة بالبشرة، أي غلاف الجسم المساميّ، إلّا أنّها باللغات الساميّة الأخرى كالأوغاريتيّة والآراميّة والعبريّة، تشير إلى اللحم تحت الغلاف: لحم الإنسان أو لحم الحيوان، لحمٌ يؤكل ويهضَّم، لحمٌ يوخز ويتحلّل ويُخرق.

            متى يصبح الإنسان مساميّاً؟ متى يتحوّل البشر إلى لحم؟

***

كان عدد الملاحم ومحلاّت الألعاب ومغاسل الموتى كبيراً في البلدة الحدوديّة “ن”، بحيث أنّه يبدو لكلّ عابرٍ فيها أنّ سكّان تلك البلدة لا يولدون إلّا ليَذبحوا خاروف العيد، ويفرقعوا ليلةً على سطح بنايةٍ منخفضة، ثمّ ليرحلوا عن دنيانا، عابقين برائحة ماء الزهر ومطاعم الفول المجاورة لمعظم المآتم المحلّيّة.

            لكنّ سكّان البلدة الحدوديّة “ن”، في الحقيقة، نادراً ما يولدون، ونادراً ما يحتفلون بالأعياد، فلا يخدّرون أنوف جيرانهم برائحة اللحم المشويّ وثاني أوكسيد الكبريت، لأنّ هواء بلدتهم مثقلٌ أصلاً بمازوت السيّارات والمركبات العابرة لنقطة الحدود بين لبنان وسوريا. فالبلدة الحدوديّة “ن” هي آخر استراحةٍ للمسافرين المتزرزبين عرقاً في الصيف، والمتجمّدي الحلمات في الشتاء، قبل عبورهم إلى البرزخ الممتدّ بين جمارك البلدين.

            تلك الليلة، ليلة بدأ كلّ شيء، قدمت نفيسة إلى بيت أختها سوسن في البلدة بقنّينة ويسكي خبّأتها في جيب عباءتها، ودخلت البيت غامرةً بطّيخةً كبيرة. وقبل أن يلحق أحد الأولاد أن يخلّصها من الثقل، فكّت أزرار العباءة، فظهر بنطلونها الذهبيّ وقميصها المطبوع بجلد نمر وحزامها المندسّ بين طبقات السمنة في خصرها.

“كل عام وأنتِ بخير، يا سوسن!” صاحت نفيسة في فضاء البيت الضيّق.

وقفز ضجيج النشرات الإخباريّة بين الجدران، وارتفعت كركرة بطون السكّان إلى دهاليز آذانهم، وحلّقت الصحون المكوّمة طعاماً من المطبخ إلى طاولة السُفرة، وتشابكت الأرجل المسرعة في المعابر الضيّقة، ولم يجب أحدٌ بشيء على كلام نفيسة.

ولمّا امتلأت البطون، وأنزلت نفيسة طبق البطّيخ البارد على شرشف الطاولة البلاستيكيّ، حرّكت أختها سوسن ذراعها، وتزحزح كمّ قميصها، وسجّلت عينا نفيسة رضّة على الرسغ الأيسر، سرعان ما اختفت في طيّات القماش.

            “ما هذا؟” سألتها نفيسة، هامّةً بأن تمسك بكمّ سوسن لتعيد الكشف عمّا رأته. إلّا أنّ سوسن ابتعدت عن يد أختها الفاحصة، وقامت عن كرسيّها، تاركةً حزّ البطّيخ الدامي على صحنها، واتّجهت إلى المطبخ لتعيد ملء كأس ابنها عصيراً.

            “ماذا حدث لكِ؟” تتبّع إلحاح نفيسة خطى أختها المبتعدة.

            لكنّ سوسن لم تجب، فأصرّت نفيسة وأصرّت، حتّى تنهّدت سوسن أخيراً واعترفت بأنّها انزلقت البارحة على قشرة بطاطا في المطبخ ووقعت، خابطةً معصمها بالمجلى. إلّا أنّ نفيسة شمّت في جوابها رائحة التفادي، خصوصاً لأنّ موسم البطاطا كان ناشفاً هذه السنة، فصعب عليها لذلك أن تتخيّل أن يكون قشرها زلقاً بهذه الخطورة.

            “كل عام وأنا بخير!” قالت سوسن أخيراً، ناهيةً الحديث عن معصمها بدقّة قنّاص.

وأنزلت سوسن الشموع في بطن كعكة العيد بطعناتٍ سريعة ثمّ أضاءتها، فبرقت السماء وانطفأت الكهرباء وتوهّجت عيون الجالسين حول الطاولة، ونزل المطر حجارةً على الأسقف والسيارات والطرق والأرصفة والقطط الشاردة، واستمرّ تطبيله على قوالب الصفيح فوق ساحات البيوت حتّى بعد أن كوّر دسم الشوكولا بطن نفيسة.

            حينئذٍ، تراخت نفيسة على الكنبة، ورفعت ساقيها، وفتحت زرّ بنطلونها الذهبيّ، وقرّرت أن تبيت عند سوسن ليلتها.

(وكانت تلك غلطتها الأولى).

            “عودي إلى بيتكِ يا نفيسة”، قالت سوسن، لكنّ نفيسة لم تسمعها لأنّها غطست في سباتٍ عميق.

             ولم تخترق سباتها هذا أصوات الرعد والمطر، أو اعتراضات والدتها الحجّة على حمّامها الأسبوعيّ، ولم يدغدغه أزيز باب القبو المجاور للمطبخ، وصوت خطواتٍ ثقيلة على باطون درجاته. ونام الجميع، فانتشر شخيرهم بين الغرف، وهبّت ريحٌ من باب الشقّة الأماميّ لمّا فتحته ابنة أختها رشا وخرجت. حينئذٍ فقط شقّت نفيسة عينيها ونظرت إلى تلفونها، فإذا بها الثانية بعد منتصف الليل، فتنهّدت وقالت في نفسها:

            “أمور غريبة عجيبة تدور اليوم في هذا البيت”.

وأجابت بطنها مكركرةً، فتجاهلتها نفيسة في البدء، إلّا أنّ البطن أصرّت، فقامت نفيسة إلى المطبخ وفتحت البرّاد. فصفق خدّيها الهواء المكبوس داخل الهيكل المعدنيّ، ولذع عينيها ضوء لمبته الجديدة الموفّرة للطاقة.

“أفّ،” تأفّفت نفيسة، كاشّةً ذبابةً حامت بتوتّر حول وجهها.

كانت قد تخيّلت، في سهوتها، أن يكون برّاد سوسن محشوّاً بألذّ الأطايب: الخضار بالبشاميل، والسباغتي بالصلصة الحمراء، والبيتزا بالفطريّات والفلفل، والأرز البسماتي بالكاري، والبطاطا المقليّة، والسمبوسك بالجبن، والسمبوسك بالفطريّات والبصل المفروم، والفتّوش. فقد تناست نفيسة أنّ أختها سوسن قلّما طبخت شيئاً شاءت نفيسة أن تهضّمه، أمّا طوابير الخبز فقد التفّت حول البنايات واخترق الرصاص دوائر الأرغفة.

وأفراد عائلتها الفجاعنة، فقد شفطوا عشاءهم الصغير كالمكانس الكهربائيّة، ولم يُبقوا شيئاً لعابر سبيلٍ قد يسري في المطبخ تحت ضوء القمر. فهدر البرّاد فارغاً، وتدحرجت على رفّه السفليّ نصف خيارةٍ منسيّة، وأحسّت نفيسة بطنها تمتلئ بالخيبة، فملأت كأساً بالماء وسكبته في حلقها، وكركرت معدتها وقالت:

“هيّا بنا يا نفيسة إلى القبو”.

ففي بيت أختها سوسن برّادٌ ثانٍ تقاعد من مجلسه في المطبخ، تملؤه سوسن بوجباتٍ طبختها وسكبتها في علب بلاستيكيّة، وثلّجتها لليوم الأسود: أي لمّا ينقطع الموتور عن الحيّ ويجلس الجميع في العتمة جائعاً.

ارتدت نفيسة عباءتها فوق البيجاما القطنيّة التي أعارتها إيّاها سوسن ليلتها، والتي كانت تنحشر على نحوٍ قاهرٍ في مؤخّرتها، وبرمت مسكة باب القبو، دافعةً إيّاه بكتفها. لكنّ الباب بقي مغروساً في مكانه، فلم يتحرّك مهما شدّته نفيسة ومهما دفعت.

“غريب”، همهمت في نفسها.

فسوسن نادراً ما تقفل هذا الباب، خاصّةً بعد أن كبر التوأم وقلّ تدحرجهما على الأدراج كالتفّاحات المتساقطة. وتذكّرت نفيسة أنّ أختها تخبّئ أثمن أشيائها في علبةٍ وراء آظان المياه على التّتخيتة. فكركرت معدتها بإلحاح، ووقفت نفيسة على أطراف أصابعها، وتحسّست بكفّ يدها أرض التّتخيتة، فإذا بإحدى البلاطات تتزحزح، وإذا بمفتاحٍ ملفوفٍ في منديلٍ حريريّ، أصبح الآن بين أصابعها.

أدخلت نفيسة المفتاح في باب القبو، فاحتكّ بالثقب الصدئ، واستدار الباب على نفسه وتمرجح على رسغيه مصرصراً.

“لن تنجحي في تجويعي اليوم، يا سوسن”، قالت نفيسة في نفسها، وابتسمت.

 خلّفت قدماها الحافيتان آثاراً رطبةً على باطون الأدراج البارد. ثمّ فتحت البرّاد، فأسقط مستطيلاً ضوئياً على الأرض الباطونيّة، انعطف وجرى مرتفعاً على طول الحائط وراءها.

وفي وسط مستطيل الضوء الضيّق، وقفت نفيسة شاهقةً. ووقع التلفون من يدها المهتزّة، فقرقع على الأرض الباردة، ثمّ سكن.

ما هذا؟

فقد أنارت لمبة البرّاد كتلة لحمٍ تحدّبت وحدها على الرف البارد، فكادت أن تملأ الهيكل كلّه:

إذ

انطوت الساقان عند الركبة،

وتهدّل الكتفان،

وجلس الرأس على الركبتين.

أمّا الوجه، فقد كان مداراً نحو نفيسة،

            فحدّقت فيها عينٌ واحدة، دون أن تغمز أو تنغلق أو يتعبها التحديق.

وفتحت نفيسة فمها هامّةً بأن تقول شيئاً، لكنّ الكلمات لم تأت، وانزلقت كفّها فوق فمها المفتوح بصمت.

            ثمّ استدركت فجأةً، فأمسكت باب البرّاد ودفعته بكلّ قوّتها. انغلق مدوّياً، وانقطع ضوء اللمبة، فوقفت نفيسة في العتمة مفتوحة العينين.

لا، لم يكن ما رأته صحيحاً. لا بدّ أنّها تخيّلت كلّ شيء.

 لم تجرؤ نفيسة أن تعيد النظر، لكنّها جمّعت قواها أخيراً، وعادت وفتحت الباب. فإذا بكتلة اللحم ما تزال متحدّبة على الرفّ المتسقّع، وإذا بالضوء ينسكب أمواجاً من اللمبة في السقف المعدنيّ. وأنارت اللمبة طيّات بشرة نفيسة: زوايا لم تر ضوء النهار سنينا.

في البرّاد، كانت الساقان مطويّتين عند الركبة، وتهدّل فوقهما الكتفان، وحدّقت العين المفتوحة في نفيسة كعين السمكة، دون أن تغمز أو تنغلق أو يتعبها التحديق.

أمّا العين الثانية، فقد اختفت في فجوةٍ عميقة بين الصدغ والذقن، كشفت عن لفافات العضل تحت الجلد المقشور.

ثمّ تحرّكت الجثّة: انزلقت الذراع اليسرى إلى الأرض، وتفتّحت الأصابع، وردةً، على الباطون البارد. ولمعت على الرسغ ساعةٌ ذهبيّة ذات عقارب خضراء، لم ترَ نفيسة مثلها من قبل.

            “لا حول ولا قوّة إلّا بالله”، وشوشت في اضطرابها، وفي اضطرابها أيضاً تصلّبت.

            وخطت إلى الوراء، واصطدم ظهرها بأحد حيطان الغرفة، وأحسّت أنّ رجليها تحوّلتا إلى شيءٍ كالهلام، وانطوت ركبتاها وانزلق جسمها حتّى جلست على الأرض الباردة. كان باب البرّاد ما يزال مفتوحاً، فحدّقت نفيسة في الجثّة، وحدّقت بدورها في نفيسة عينٌ واحدة: عينٌ مفتوحة، كعين السمكة.

***

            صعدت نفيسة درجات القبو قفزاً، وأقفلت بابه بالمفتاح، ثمّ حشت المفتاح في بوليستر صدريّتها، واتّجهت إلى غرفة نوم أختها سوسن.

            لكنّها ما إن حاوطت بأصابعها مقبض الباب الدائريّ، حتّى لاح في بالها رسغ سوسن، فأزلقت نفيسة يدها عن المقبض عابسةً. لا، قرّرت في نفسها، لا داعي لإيقاظ سوسن الآن، ولا داعي لأن تزيد على مصائب أختها واحدةً أخرى.

            (ما الذي أكّد لنفيسة أنّ أختها لا تعرف شيئاً عن الجثّة؟ كانت تلك غلطتها الثانية).

وقرّرت نفيسة في صمت منزل أختها أمراً واحداً: أنّها سوف تتخلّص من الجثّة بنفسها، دون أن تنتبه سوسن إلى شيءٍ.

وتلك كانت غلطتها الثالثة.

***

النهار التالي، انتظرت نفيسة ريثما تحوّل الظهر إلى عصر وشخرت والدتها الحجّة في كرسيّها في الصالون، وخرجت سوسن إلى عملها في الملحمة. فغطّت نفيسة والدتها الغافية بلحافٍ منمّر، وسحبت مفتاح القبو من صدريّتها.

واقتربت من الباب، فإذا ببصماتٍ سوداء تمرّغت على المقبض، وبخدوشٍ في خشب الباب الأبيض، لم ترها نفيسة ليلة البارحة، أو ربّما لم تنتبه.

“لحظة”، شهقت في نفسها. فماذا تفعل إذا التقت الآن بأحدٍ في القبو؟

وتذكّرت أنّ ابنة أختها رشا قالت لها مرّةً: إن أردتِ أن تردّي معتدياً، فاطعنيه بقلمٍ في الوريد. لم تسأل نفيسة البنت المراهقة وقتها من أين تعرف ذلك. أمّا الآن، فقد وجدت قلماً مرميّاً على طاولة المطبخ فأمسكته في قبضة يدها كالحسام.

“افتح يا سمسم”، قالت للباب وبرمت فيه المفتاح. فأجاب الباب بأزيزٍ حادّ أوقف الشعيرات على طول ذراعيها، وانفتح.

انزلقت نفيسة على الأدراج كالشبح.

كان القبو مظلماً، لكنّ عينيها بدأتا بتمييز الأشكال في العتمة، حتّى بان أمامها هيكل البرّاد المستطيل كجبل الجليد المقترب.

لحظة ــ قالت نفيسة في نفسها ــ هل كان ذلك صوت حرتقةٍ في إحدى الزوايا؟

وجال نظرها في القبو، لكنّه صعب عليها، في العتمة، أن ترى شيئاً. فحبست نفسها وانتظرت، لكنّ القبو بدى فارغاً، فزفرت نفيسة طويلاً وأقفلت الباب من الداخل. هكذا، لن يزعجها أحدٌ في عملها، ولن يدخل أحد لنجدتها أيضاً، إلّا إذا كسر الباب بأكمله.

كانت الكهرباء مقطوعةً عن الحيّ، فإذا بالهواء في البرّاد أدفأ ممّا كان ليلة البارحة، لكنّ الجثّة المحشوّة فيه ما تزال باردة. أضاءت نفيسة تطبيق المصباح في تلفونها، وصوّبته باتّجاه البرّاد المفتوح.

            “هاي،” قالت للجثّة، لكنّ الجثّة لم تجب.

            كانت نفيسة قد أمضت ليلة البارحة محدّقةً في شقٍّ كبير في سقف صالون سوسن، ومعيدةً في بالها لحظة فتحها البرّاد للمرّة الأولى. فتقلّبت على كنبة أختها كسيخ الشاورما حتّى بلّلت الشرشف الدقيق بعرقها. وأحسّت نفيسة أخيراً، في ساعات الصباح الأولى، لمّا اندلق الفجر على البلدة الحدوديّة “ن” كقسطل الشطف المكسور، بأنّ حواسها بدأت تتخدّر.

            “تمْسحْنا،” قالت في نفسها، وتثاءبت.

            لكنّ شيئاً تفتّح عندها في قلب ذاك الخمول، شيئاً يشبه الغضب: ومض كالبرق البعيد ثمّ اختفى.

            وقد أحسّت نفيسة بذاك الغضب يملؤها الآن مجدّداً، كالماء الضاخّ في حوض استحمام. وكان عليها الآن أن تعمل بسرعة، قبل أن تستيقظ والدتها الحجّة أو تعود سوسن من العمل.

ولكن أين تبدأ؟

“قبل كلّ شيء”، قالت في نفسها أخيراً، “يجب إخفاء الأدلّة”.     

            كانت نفيسة تشاهد البرامج البوليسيّة بانتظام، وقد عرفت لذلك ضرورة أن تفرغ الجياب، لعلّها تجد فيها محفظةً أو بطاقة هويّة، أو عنواناً، أو أيّ أثرٍ لاسم صاحبها، أو حتّى دليلاً يشير إلى من يكون. وعرفت كذلك ضرورة التخلّص من الثياب وباقي الأغراض الشخصيّة. إلّا أنّ الجسد التفّ حول نفسه في هيكل البرّاد الضيّق، فاضطرّت نفيسة أن تقلبه لكي تصل إلى أحد الجيوب.

            أغرقت أصابعها في قماش البنطلون، لكنّ الجثّة كانت أثقل ممّا توقّعت. فشدّت نفيسة ذراعها اليمنى، وشدّت كفّي رجليها، وقرصت صدرها حتّى تكوّم الجلد داخل قبّة قبضتها، وانزلقت نقطة عرق على طول صدغها، لكنّ الجثّة لم تتحرّك.

            “عندنا مشكلة،” أعلنت نفيسة أخيراً، وبدى لها أنّ الجثّة هزّت رأسها بالإيجاب.

            فإن صعب عليها إخراجها الآن من البرّاد، فكيف تحملها إذن على أدراج القبو؟

***       

بعد أن انتهى كلّ شيء، فكّرت نفيسة في هذه اللحظة بالذات: لحظة وقفت أمام هاوية تورّطها في الحادثة كلّها. فقد سهل عليها الآن أن تغيّر رأيها، فتعود إلى المطبخ، وتدسّ المفتاح في التّتخيتة حيث وجدته، ثمّ أن تسرع إلى بيتها في أعلى بنايةٍ في البلدة الحدوديّة “ن،” كأنّ شيئاً لم يكن.

فإن فعلت نفيسة الآن، لكانت منعت انفجار سلسلة أحداثٍ أدّت بها إلى جثّةٍ ثانية، فثالثة، ثمّ إلى تحقيقٍ وطنيّ نشر وجهها في الإنترنت كالجرثومة المدبقة، وألصق شبهها على سطح كلّ سيّارة في البلدة الحدوديّة “ن،” ورشّ صورتها على بنايات المدن الساحليّة البعيدة والحيطان فوق تنكات الزبالة.

لا، لم تتخيّل نفيسة أن تقذفها الحياة إلى الشهرة هكذا.

فمنذ عقدين، حين اعتزلت الغناء اضطراراً بعد أن اقتحمت الشرطة أحد الأعراس وسحبتها وباقي فرقتها الموسيقيّة عن المسرح ثمّ حشتهم في سيّاراتٍ مدنيّة واختفت، تمنّت نفيسة أن يتزحلق اسمها على جميع الألسنة كما فعل قبل جلوسها في السجن. لكنّها لم تتخيّل، في أسوأ أحلامها، أن يحدث ذلك في هذه الظروف بالذات.

***

 اهتزّ الضوء في البرّاد بترقّب، ووضعت نفيسة كفّيها على حزامها بحزم.

“لا،” قالت في نفسها: “لا يمكننا أن نستسلم الآن.”  

فغمّست أصابعها في الشعر النامي بكثافةٍ على قفا الرأس البارد، وأرخت وشدّت، وشدّت وأرخت، حتّى خرجت من بطنها صرخةٌ شقّت الصمت في القبو كالحجر المرميّ عبر شبّاكٍ مغلق، وتزحزح الجذع أخيراً، وزحف الجسد ببطءٍ باتّجاهها.

“أخيراً”، قالت نفيسة، وشدّت الشعر خفيفاً مرّةً أخيرة. فازدادت سرعة الجسد فجأة، وانزلق باتّجاهها كالقطار المسرع. وخطت نفيسة خطوةً إلى الوراء، وتهاوى الرأس نحو الأرض الباطونيّة، وارتطم بها ككرة السلّة بأرض الملعب، وتماوج صداه الأجوف بين الحيطان، ثمّ اختفى.

            أرخت نفيسة كفّيها، فإذا في يدها اليمنى كتلة شعرٍ، علقت جذورها برقعةٍ ضيّقةٍ من فروة الرأس.

            وتدلّت الجثّة الآن بين البرّاد والأرض:

فقد تهدّل الرأس

 والكتفان

والصدر

عن الرفّ السفليّ،

وتكوّم الجذع والساقان في الداخل.

حشت نفيسة فروة الرأس في جيب عباءتها، وقبضت على قماش البنطلون، بين الفخذين تماماً، وشدّت، حتّى تلألأ البرّاد إلى الأمام وإلى الخلف، ثمّ استفرغ أخيراً باقي الجسم على باطون القبو البارد.

            حينها، أسندت نفيسة بالحائط ظهرها المتوهّج ألماً، وتنهّدت.

وتساقطت نقاط عرقها على الأرض: مجموعة نجومٍ رطبة، مجرّة إفرازاتٍ سرعان ما تبخّرت عن سطح الباطون الرماديّ دون أن تترك عليه أثراً.

تعالت في القبو تكّاتٌ ملحّة، لكنّ نفيسة لم ترتد ساعةً.

            فقامت وسحبت كومة الأضلع مبعدةً إيّاها بضع خطواتٍ عن البرّاد. وانتبهت إلى أنّه لم يكن يرتدي حذاءً، فتساءلت لماذا، ثمّ رأت أنّ سبّابته اليمنى مبتورة.

            “من فعلَ لكَ ذلك؟” سألته نفيسة، مداعبةً فروة الرأس في جيبها.

            ثمّ قلبت الجسم على بطنه، فالتصق الوجه بالباطون البارد.

وقشرت البنطلون عن الفخذين، وعن الكاحلين، إلّا أنّ جيوبه خلت من أيّ دليلٍ على هويّة لابسه، فلم يكن فيها غير بعض العملات الورقيّة المجعلكة، وبطاقة طبيب، طُبع عليها بحبرٍ أسود عنوانٌ في بيروت ورقم تلفون. ووجدت كذلك أغلفة علكة قديمة، وبعض كتل الغبار، وكباتيل محارم، ولا شيء أكثر.

من كان ذلك الشخص؟

فكلّ ما استخلصته نفيسة عن الجسد خلال حملتها الاستطلاعية تلك، هو أنّه لرجلٍ في منتصف الثلاثينات. فقد بدأ الجلد يتهدّل عند الحنك والذقن والذراعين، وبدأت التجاعيد تنحفر في الجبين وحول العينين، وبدأت السمنة تترسّب عند البطن والفخذين والرقبة.

            “طيب،” قالت أخيراً حاشيةً كومة الثياب في كيسٍ بلاستيكي. “سوف ندفئكَ، على الأقل.”

ولفّت الجسد العاري في لحافٍ سحبته بسرعةٍ من إحدى خزائن سوسن (لم تكن سوسن قد عادت إلى البيت بعد). وثبّتت اللحاف بحبل مصّيصٍ أخذته من أحد جرّارات المطبخ (كانت والدتها الحجّة ما تزال شاخرة في كرسيّها). وبدت الجثّة، بعد أن انتهت منها نفيسة، أشبه بأضلع الموز العملاقة التي تشتريها سوسن خضراء من الحِسبة، وتلفّها في لحاف لكي تستوي بدفء غازاتها.

غود قرر الرحيل

العمل الفني: سجاد عباس, "بلا عنوان", رسمة, ٢٠٢٢

إنّه يوم الوداع، حزمت حقيبتي ووضعت فيها الهدية التي أعطتني إيّاها سجى، زوجتي، كانت نسخة من رسمٍ لي مثبت على لوحة. مخلوقٌ نصفه جاموس ماء ونصفه الآخر إنسان. أسميته “غود”، لم يكن خيّراً ولا إلهاً… كان كبيراً بحيث قطعت أجزاءً منه ليتّسع في الحقيبة. ودّعت الجميع، لكن الأصعب كان وداع طفلتي التي لم يتجاوز عمرها سنة واحدة، والتي بالكاد بدأت بلفظ كلمة بابا.

كانت مرارة الوداع مؤلمة وموجعة وما تزال حرقتها ترافقني إلى يومنا هذا. أتذكر كيف بكيت عندما حضنتها. بكيت كثيراً ولم أستطع تركها، كلّما حاولت إبعادها عني أنهار من البكاء. خرجت من غرفتي التي كانت في الطابق الأوّل في بيت عائلتي وجلست على السلم. أجبرتني سجى على استجماع قوّتي، حضنتها بقوّة وذهبت، مسرعاً أثناء نزولي السلم كان أبي ينتظرني في الأسفل مكسور القلب، واضعاً يده على حافة الباب. كان يرتدي دشداشة لونها نيليٌّ غامق. ودّعته، بينما كان يخفي مشاعره خلف قناع خلقته الحياة له لجعله أقوى في مواجهتها. عانقت جسمه الكهل وشعرت بروحه النقية.

أخذت سيارة أجرة وتوجّهت الى المستشفى لأودّع أمّي التي كانت ترعى زوجة أخي التي أنجبت للتو. كانت مشاعرها مزيجاً من الحزن والفرح، أخفت عني الحزن تحت عباءتها. بعد هجرة أخي الأكبر إلى ميامي، حان عليّ الدور لكي أسافر بعيداً من أجل صنع حياةٍ كفنان.

أنا أصغر أفراد عائلتي المكوّنة من عشرة أطفال. كان والداي يواجهان صعوبة في تذكر الأسماء مع تقدّمهما بالعمر. كانوا كلّما أرادوا المناداة على أحدٍ منا يأخذون وقتاً ليتذكروا أسماءنا. دائماً ما كانت أمّي تقول لي: “اصنع فنّك هنا. لدينا جامعات ومدارس ولديك عائلتك وباستطاعتنا رؤيتك في أيّ وقت، لم أفكّر بكلامها، بل كنت أفكر كيف يمكنني أن أشرح لها عن الفن وتطوّره أو عن الحياة المتهالكة هنا. بدأ الوقت ينفذ، لم تخرج أمّي معي لتودّعني، باركتُ لشقيقي بمولوده الجديد وذهبت مسرعاً.

كانت الشمس قد بدأت بالانطفاء، خلف أشجار النخيل والبنايات رمادية اللون المتسخة بالأتربة. شعرت بالبرودة وبحرقةٍ في عينيّ من كثرة البكاء. كان الهدوء يسود الجو. كلّ ما كنت أسمعه هو صوت الهواء الذي يتسلّل من نافذة السيارة، وكلّ تفكيري منصبٌ على الطفلة التي تركتها خلفي والزوجة التي تتطلّع إليّ. بعد تفتيشٍ دقيقٍ ركبت الطائرة المتوجّهة إلى قطر ومن بعدها إلى مطار شارل ديغول.       

“اللجوء تجربة خطيرة قادرة على تمزيقك إرباً وتحويل أجزائك إلى غود؟”                      

إنّه الشهر الثالث لي هنا في مدينة ليون، بعيداً عن العالم الذي جئت منه. وضعت سماعات الأذن ولبست جاكيت أسود اشتريته لتحمّل البرد، بعد أن ادّخرت طوال ثلاثة أشهر من الراتب الذي تعطيني إيّاه الحكومة الفرنسيّة، والذي بالكاد يغطي مصاريف الطعام.

مشيت في أنحاء ليون كلّها من دون وجهةٍ محدّدة، وكنت أستمع لأذانٍ كان يبثّ يوميّاً على القناة العراقية الرسمية، ومن ثم إلى شارة بداية مسلسل الرسوم المتحرّكة “سندباد”. فجأةً شعرت بأنّ هناك شخص فوق كتفي، عبارة عن كتلةٍ سوداءٍ مخيفة يحاول السيطرة عليّ، ويحاول السيطرة على جسمي، ويحاول السيطرة على مشاعري. كنت خائفاً وحزيناً وبدأت الألوان تبهت من حولي. وضعت يدي في جيبي وأخرجت هاتفي. كانت الساعة 12 ليلاً، شاهدت الباص الأخير يغادر. اتصلت بصديقي ليث الذي كان يسكن بالقرب مني، وسألته ما إذا كان يوافق على مبيتي في شقّته التي لا تتحمل سوى شخص واحد، وبالفعل وافق، اتّجهت إليه بعد أن كنت قد مشيت 14 كيلومتراً من دون توقف.

كانت ابنتي تتخيّل أنّني أعيش في شاشة الحاسوب. في كلّ اتصالٍ مع العائلة، يتملكني الشعور بالعجز وانعدام القدرة على التعبير عن مشاعري. لم أقدر على سماع بكائها، لأنّني كنت أعرف أنّني غير قادر على المساعدة، وأنّني لن أكون أبداً قادراً على مواساتها. كنت مجبراً على إنهاء سنوات اللجوء، لكنّني لم أقدر أبداً على تقبّل حرماني من رائحة ابنتي، والقدرة على معانقة حبيبتي. كم هو مؤلم ألّا تكون قادراً فعل ذلك، وكم هو مؤلم أن تشاهد أطفالاً يخرجون ليلعبوا في متنزهاتٍ مثاليّة وابنتك محرومةٌ من ذلك، وكم هو مؤلم أن تشاهد الأطفال يخرجون من المدارس المهيئة بكلّ أسباب الراحة وأنت تفكر في مستقبلها هناك.

كم هو مؤلمٌ أن تحزن على نفسك، وأن تشعر بأنّ الحنين يستنزفك إلى الأرض المنبسطة والشمس الحارقة.

في ديرٍ للقساوسة كان آخر محطة لي في فرنسا، وفي التنقل من مسكنٍ إلى آخر من برنامج إيواء اللاجئين التابع للكنيسة، أخذت حقيبةً من أحد الأصدقاء بعد اهتراء حقيبتي، هذه الحقيبة كانت أصغر، مع ذلك وضعت جميع أغراضي، لكن بقي الشعار الذي أهدتني إيّاه سجى “غود” والذي لم يسع في الحقيبة. ذهبت إلى القبو الخاص بالدير وقطعت منه مرّة ثانية ليساع في الحقيبة، هل من الممكن اجتزاء تفاصيل منك لتتسع في حقيبة السفر؟

انتقلت من مسكنٍ إلى آخر مع برنامج إيواء اللاجئين التابع للكنيسة. في ديرٍ للقساوسة كان المحطة الأخيرة لي في فرنسا، أخذت حقيبة من أحد الأصدقاء بعد اهتراء حقيبتي. كانت الحقيبة الجديدة أصغر، لكنّني نجحت بوضع جميع أغراضي فيها، باستثناء “غود”. عندها، ذهبت إلى قبو الدير، وقطعت هدية سجى إلى قطع أصغر.

“أيّاً كان ما سيختاره غود في النهاية، في خضم هذه التساؤلات، يحترق ويحترق كلّ شي معه”

التجربة التي مررت بها غيّرتني تماماً لم أعد أشبه نفسي كأنّني تشظيت، أو كأنّني سافرت عبر ثقب زمني لأجد أن كلّ شيء ما زال على حاله من عداي. لقد كبرت كثيراً صرت كهلاً بالرغم من جسمي الشاب إلّا أنّ روحي قد اهترأت، فقدت الإحساس بالمكان لم أعد هناك ولم أعد هنا.

كنت أشاهد الدخان يتصاعد في سماء بغداد، هناك مظاهرات، والطرق مغلقة، وأريقت الكثير من الدماء. كانت هذه أولى المظاهرات التي أشارك بها، تملّكني شعورٌ غريبٌ وجميلٌ جدّاً، كمّ الحريّة التي شعرت بها يومها لم أشعر به في حياتي، كأنّ حياتي اختصرت بلحظة واحدة ضمّت كلّ شيء: الفرح والحزن، الموت والحياة، الفن والدمار. كنت أهتف حينها متّجهاً للخطوط الأمامية في المظاهرة بعد أن تعبت من إطفاء القنابل الدخانيّة المتّجهة إلى ساحة التحرير. وبعد أن هربت بأعجوبةٍ من قنبلةٍ كانت متّجهةً نحوي، وجدت نفسي في منتصف الجسر. مرّت قنبلةٌ تحت قدمي وعبرت أخرى عالياً وسقطت على رأس مراهقٍ مات في لحظتها. هربت إلى حافة الجسر وسلّمت على صديقٍ لي كان يطفئ القنابل الدخانية. كان يضع على وجهه وشاحاً لكنّني عرفته من شعره الكثيف. جرى كلّ شيء بسرعة.

استشهد صفاء السراي. كنت وقتها في العمل وشاهدت المنشورات على منصّات التواصل الاجتماعي، بكيت كثيراً بالرغم من أنّني لم أعرفه إلّا من خلال شعره ونشاطه السياسي. بكيت على أحلامنا التي تضيع، وعلى هذا العمر الذي يهدر. كتبت منشوراً بعد مدة على بدء المظاهرات أدعوا فيه الفنانين للمشاركة بأعمالٍ فنّيّةٍ في ساحة التظاهر. قمت بتنفيذ أوّل عمل لوجه صفاء السراي في أمكنةٍ عديدة في ساحة التظاهر. وفي اليوم التالي بدأ كلّ الشباب بالمشاركة برسومات في كلّ مكان، ومن ثمّ انتقلت العدوى إلى كلّ ساحات التظاهر في وسط وجنوب العراق.                                

“غود جالسٌ على كرسيّه يتأمّل الفراغ والنار تلتهم جسده من دون أن يعيرها أيّ اهتمام”

لا توجد هناك خطط للمستقبل. نعيش يوماً بيوم، من أجل الساعات القليلة التي لا نستطيع استيعابها، لكن حتّى هذه الساعات لا يمكننا الوثوق بها. نأخذ فقط ما تقدّمه لنا الحياة ونكون ممتنّين لذلك، ليس هنالك وقت لنعترض.توقظك معزوفة العراق كلّ صباح، تنسلّ إلى رأسك وتجبرك على الرقص على أنغامها كمجنون. تمسك برأسك وتضربه بالإسفلت لتخرجها منه، وتكرّر فعل ذلك. توقظك معزوفة العراق كلّ صباح، تنسلّ إلى رأسك وتجبرك على الرقص على أنغامها كمجنون. تضرب رأسك بالإسفلت لتخرجها منه، ثم تكرّر ذلك من جديد… إنّها فوضى عارمة.

مقاطع "حقارة" للمشتق

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢
العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢

ترجمة: حسين ناصر الدين

تنيكني بيدك، كلّها، في غرفة مليئة بالأموات. الأموات في صناديق خلف الزجاج. تنيكني لكي نُحسّ للحظة، بأنّ أصدقائنا ليسوا أمواتاً، بل أنّهم يعيشون داخلنا. يأتي السكيوريتي فتتوقف. أسحبك عن الأرض من ياقة سترتك الجلدية. الوجه مغطّى بالمني. أتنفّس، وأستنشق أصدقائنا الميتين إلى رأتي كأنّما أنت فتحت باباً لمجيئهم. أستنشقهم إلى جسدي وآمل أن يبقوا هناك، سعداء ودافئين لا يمسهم مطر وبرد. أتخلّى عن احتمالية النوم، لأحاول أن أصنع مكاناً لأصدقائي الميّتين. مكان اجتماعي. عالم مغلق.

.

تلعب أغنية بطيئة في المدى، أغنية للرحيل إسمها. يندفع الحشد نحو الأمام، إلّا أنّه لا أمام ليذهبوا إليه.
يحاولون حتّى ترتفع قدماي وقدماك عن الأرض وأضغط بيدي على أيرك إذ أُحشر في ناس كُثر وناسٌ كثر يحشرونك / منهم من هم ومنهم من هو أكثر وأقدامنا فوق الأرض تتأوّه يخاف عليك البعض من أن تغيب عن الوعي أنَّ (تفرّداً ينحلّ) وأنّ انحلال التفرّد صار أبعد من اللحظة الواقعة تلامس أقدامنا الأرض ويدفعنا الحشد يأتي منيُك على يدي فيما يحشرنا الباقون وأحسّ بعرقهم على رقبتي ثم تهوي واسحبك لكيلا تهوي تحت أقدام أنفُسنا المتوسّعة

.

التناص بين الجسد والأرض

أحفر (هو)ة لكي أوصد على نفسي
أحفر (هو)ة كي تكون وعاءاً لأجزاء نفسي
تلك التي تخرج من المبنى، عبر
الرصيف
أحفر (هو)ة كي أجد ظلمة
أستطيع النوم فيها
أحفر هو(ة) ثمّ أفجرها
لعلّها تسع كل
أجزائي
حتّى تلك الخارجة عبر الرصيف
عليّّ أن أجمع
أجزائي كلّها
أوّلاً
قبل أن أعرف إن كانت تسعني
أحفر هو(ة) في خاصرة الجبل
لكنّها عصيّة على
أحفر هو(ة) على الأرض لها شكلي
لكنّني لا أسع فيها
أحفر هو(ة) ربّما تكون واسعةً بما يكفي لكنّني حين أتركها
لأبحث عن باقي أجزائي
لا أجد طريق الرجوع إليها
ثمّ أتلمّس خطاي في التراب نحوها
لكنّني كلّما اقتربت أوقع أجزائي قربها
ثمّ أرى الدخان فأظنّ بأنّني وصلت
ثمّ ما إن اقترب حتّى أجد حدود جسمي المرسومة
وقد اختفت عن الأرض
وأنا لا زلت أفقد أجزائي أسرع فأسرع
وهي يصبح ترتيبها
أصعب فأصعب
تجلس الأجزاء المكسورة من حدود جسمي المرسوم على
الأرض مبعثرة، تنتظر أن تلتئم
أملي أن يكون كافياً، ما تبقّى منّي

////

.

عليك أن تنتشلني
لربّما تسلّقت إلى الداخل
وفرّقت بين ضلوعي
كي أرقد بشكل مسطح

ماذا بعد الشاشة / ماذا بعد المشهد

.

أسمع راحة يدك تنسحب على الحائط
الحبر الأحمر يحتبس في أصابعك

أسحب يدايّ من أعلى
رأسي / ولا تتلامس الأيدي
دائماً عند نزولها / في نفس المكان / مع مسارها

علامة دم / دمٌ داخل / دمٌ خارج

أن نحفر / تشويه / خطوط / أن ننقش / أن نتوق

أن نترك

عتم ومُشوه

أن نتسلّق

داخل

شاشة في الأخضر
شاشة خضراء
أحمر فيلم رعب
يُبثّ في جذع الشجرة

.

ليس

على

هذا

أن

يكون

ثقيلاً

على

جسدك

.

في الأعلى والأسفل

في الداخل والخارج

نتسلّق

نقع نتفرّق

رأسي معوجّ لكني لا أنفكّ لا أنظر إلى الخلف لكنّه
ليس وقتاً للعبور لكنّني

لا أنفكّ فيَّ شيءٌ من الانغماس

في الخطأ لكنّني

لا أنفكّ في الخطوط الخاطئة دائماً

لا أنفكّ

فيَّ شيءٌ من الرحيل المنغمس في العالم الخطأ
أنظر عبر تشوّهي و

أغرق حتّى النخاع


مقاطع من:
ابي كرم ، اندريا. حقارة. Nightboat Books ، 2021.

ليس المكانُ بالمكان

العمل الفني: ألين ديشامب، "عاملتان منزليتان سابقتان من سيراليون تتسكعان في منزلهما المشترك في طريق الجديدة (بيروت، لبنان). أكثر من عشرين امرأة يعشن في هذه الشقة الصغيرة - حيث يواصلن الترحيب بـ «الأخوات» الأخريات من بلدانهن الأصلية اللائي هربن من الانتهاكات أو تركَهُنّ أرباب العمل في الشارع، وسط جائحة وانهيار اقتصادي في البلاد". تصوير فوتوغرافي، 2020
العمل الفني: ألين ديشامب، "عاملتان منزليتان سابقتان من سيراليون تتسكعان في منزلهما المشترك في طريق الجديدة (بيروت، لبنان). أكثر من عشرين امرأة يعشن في هذه الشقة الصغيرة - حيث يواصلن الترحيب بـ «الأخوات» الأخريات من بلدانهن الأصلية اللائي هربن من الانتهاكات أو تركَهُنّ أرباب العمل في الشارع، وسط جائحة وانهيار اقتصادي في البلاد". تصوير فوتوغرافي، 2020

ترجمة: حسين ناصر الدين

انبثق هذا النصّ من محادثة انطلقت بشكل غير رسمي منذ عشر سنوات طوال أيام وليالٍ في بيروت، غير أنّها حدثت بشكل رسمي في أيار (مايو) ٢٠٢٢ خارج بيروت، بيني، وقد كنت في برلين، ألمانيا، وبين بيزا جيرما في هواسا، إثيوبيا.

من وحي ثيمة محور “ب.ش.ر”[1] ناقشنا المدن المتعدّدة لبيروت والبشر المتنقّلين فيها: كيف يتحرّكون، ما هي الشروخ في مساراتهم، وكيف يتعرّج طريقهم ذهاباً وإياباً بأشكالٍ غير متوقّعة.

بينما يشقّ عليّ الحديث عن حاضري الشخصي، كان هذا النصّ هو الأصعب على الإطلاق لسببَيْن. أوّلهما- وهو مشترك مع كثيرين على ما أظنّ- هو أنّني نسيت كلّ شيءٍ ما عدا لغة الكليشيهات في الحديث عن بيروت. ثانيهما هو ضيق صدري من القوّة غير المتكافئة في حديثنا.

بيزا وأنا التقينا لسنواتٍ خلت، وكنّا نقضي صباحات الأحد في المنزل، نطبخ ونتحدّث. الكثير من أحاديثنا كانت حولنا، كنساءٍ في بيروت، والطرق المتعدّدة التي نسكن بها المكان. صحيح أنّ القمع واقعٌ على اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، إلّا أنّه لا يقارن بنظام الكفالة الذي يتحكّم بحيوات مجتمعات العمّال المهاجرين في لبنان. نظراً لمواقعنا البنيوية الفرديّة كلاجئة فلسطينية من الطبقة الوسطى وعاملة أثيوبية مهاجرة، دائماً ما كنت أتردّد في التعبير عن شكاواي. وبالمثل، فقد تردّدت في أن أضع تجربتينا جنباً إلى جنب في النصّ، خشية أن أشير سهواً إلى ديناميكيات السلطة بيننا، بالمقابل، لم يقيّد ذلك حواراتنا البتّة، ولم يمنع انخراطنا في تأمّلاتٍ تتقاطع ما بين الشخصي والسياسي.

وبهذه الروحيّة كتبت هذا النص: محاولة لرواية كيف سكنّا بيروت، معاً وكلاً على حدة، وما حملناه معنا ونحن نمضي قدماً. إنّه ينطلق من المحادثة التي أجريناها في أيار (مايو) ويشتبك في الأسئلة والأفكار التي أثّرت علينا لأكثر من عقد من الزمن.

البلد ما بتكرهك بصراحة، بيكرهوك الناس يلي بيعيشوا فيها’.

لماذا نحبّ الأماكن التي تمارس القمع علينا؟ ظلّ هذا السؤال يلحّ عليّ أثناء حديثي مع بيزا جيرما. على الرغم من عيشها أكثر من عقد في ظل نظام الكفالة، إلّا أنّ بيزا غدت أكثر ولعاً بلبنان. عندما اضطرَت إلى المغادرة منذ أكثر من عام، شعرَت، مثل الكثيرين منّا – مواطنين ولاجئين ومهاجرين – بالخراب. تتوق إلى الحياة في شارع الحمرا، حياة الصداقة والعشرة المنزلية التي أنشأتها ورفيقاتها بالدم والعرق والدموع.

قَصّت بيزا عليّ قِصة شابة تبلغ النضج في بيروت. لم يكن الأمر متعلّقاً بالكفالة وأهوالها، ولا العيش في عبوديّةٍ منعزلة (بالرغم من تشبّع قصصها بهذه التجارب). روت بيزا قصّة امرأة إثيوبية تشقّ طريقها في العالم. كان الأمر يتعلّق بالإثارة والانهيارات العاطفية في العشرينات من عمرها، والانتقال إلى مراحل مختلفة من البلوغ، ومسألة ما إذا كان يجب إنجاب (المزيد) من الأطفال، وكيفية إصلاح علاقة المرأة بوالدتها، وقبل كلّ شيء، قصّةٌ عن كيف أنّ الصداقات بين النساء هي ملح الحياة وطعمها.

لنصل إلى هذه القصة، لا بدّ أن نبدأ بها من نهايتها.

في العام ٢٠٢١، وبعد عقدٍ في بيروت، عادت بيزا إلى موطنها في هواسا، أثيوبيا، لتضع مولودتها الثانية. كانت قد تركت مولودها الأوّل مع أختها حين سافرت للمرّة الأولى كمراهِقة إلى بيروت، وأرادت تجربة مختلفة لابنتها الثانية. لم تستطع أن تتخيل إنجاب طفلة سمراء في بيروت، ولا أن تتحمّل الحياة في أعقاب العاصفة التي اجتاحت لبنان ابتداءً من العام ٢٠١٩: ثورة وانهيار مالي وانفجار. على الرغم من أنّها سردت العديد من القصص عن العنف العنصري الوحشي، إلّا أنّ هذه الأشياء لم تكسر عزيمتها. كان العنف المعيشي المستمرّ هو الذي يجرّ نحو الحضيض.

روت لي عن أوّل موعد طبي لها في التصوير الصوتي في مستشفى في بيروت، حين أخبرها التقني أنّها حامل: «انتِ منّك جاي لتحبلي، انتِ جاي لتشتغلي». قبل بضعة أشهر، كانت قد واجهت صاحب عملها بشأن زيادة الأجور: ببساطة، ٢٥٠ دولارًا (بالشهر) مقابل ١٢ ساعة عمل يومياً لا تكفي نظراً للأزمة الاقتصادية في لبنان. «قولي الحمدالله أنّك عايشة»، قال، «ابن البلد وما عم يشتغل».«هي الكلمة كسرتني، انكسرت أنا بهي الكلمة»، قالت، «لو عشتي عشرين سنة وطول عمرك عندهن، انتِ بتضلي أنه واحد غريب… انكسرت».[3]  كانت بيزا منفعلة وهي تسرد ​​هذه القصص، مثلما كان حالها حين روت كيف أنّها كعاملة منزلية، وبعد إزالة كيسٍ من صدرها، عادت إلى العمل بعد ساعتين والدم يسيل من ضلوعها.

بعد أن رفض صاحب العمل زيادة أجرها، قرّرت أن تغادر، وأن تنجب طفلة مع شريكها والعودة لتربيتها في هواسا. وصفَت بيزا الاستحالة المطلقة لتربية “أولاد سود” في لبنان. روت قصصاً عن أولياء أمور لبنانيين يطلبون أن يجلس طفل إثيوبي بعيداً عن أطفالهم، وعن أطفال إثيوبيين-لبنانيين يتمّ نقلهم إلى مدارس أخرى، بل وحتّى إرسالهم إلى مدرسة في إثيوبيا لتجنيبهم الرعب. تقول بيزا، “لو هلق أنا بدي بدي فل بتركها وبفل… أنا غصبن عني تقبّلت وتعوّدت وصرت عايشة مع هاد الشي، هي بعدها صغيرة شو بدها تعرف”. لكن لماذا تحبّ بيزا بلداً على هذا القدر من العنف؟ بلد لا يمكنها البتّة أن تربي مولودتها فيه؟ بلد يكرهها؟ «بعدني بحب لبنان». تضيف، “أنا راسي اتغيّر، نفسياً اتغيرت، جسدياً تغيرت… عرفت كتير اشيا… فأنا كتير بحبها، هيك، الناس”.

 «البلد ما بتكرهك بصراحة، بيكرهوك الناس يلي بيعيشو فيها».

والعكس أيضاً صحيح: الأماكن لا تحبّك – الناس يحبّونك. وصفت بيزا الصداقات القليلة التي غيّرت وجهة نظرها حول «الناس البيض» (في إشارة إلى اللبنانيين والعرب الآخرين على الأرجح)، النساء اللواتي عملَت معهن، وتفاعلنَ كصديقات، كأشخاصٍ ينتمون إلى مكان ما، على قدم المساواة. لذا فالأمر استثنائي بقدر ما هو فاضح. نحن نعيش في المدينة ذاتها، ومع ذلك نادراً ما نتعامل مع مجتمعات العمال المهاجرين خارج إطار تقديم الخدمات أو التضامن السياسي. نادراً -وربّما أبداً- ما ننخرط كأصدقاء أو جيران أو غرباء فضوليين مع أناسٍ يمكن أن تنشأ معهم خصومات وحميميات غير متوقعة. هذا بالطبع أمر طبقي وجندري بالإضافة إلى كونه عنصريّاً، لكنّه أمرٌ مخزٍ وغير مبرّر. إنّه جزء من العنف المعيشي اليومي الذي نمارسه جميعاً ضدّ العمّال المهاجرين.

على الرغم من الاختلافات العرقية التي وصفتها بيزا، فإنّ الجالية النسائية الأثيوبية هي التي جعلت من بيروت موطنها. المرأة التي استقبلتها بعد أن هربت من منزل صاحب عملها ووجدت أوّل وظيفة «مستقلّة» لها. النساء السبع اللواتي تقاسمت معهن شقة من ثلاث غرف نوم، طَهَون معاً وتشاجرن وتواسين، وبنين أُسرةً ومنزلًا. قالت “[4] ما حدا بكون جوعان إذا واحد بيشتغل”. لكنّ البيت مفهومٌ شائك. «[5] في قانون عليكي غير… أنا بدفع الاجار البيت بس أنا مني حر اسمع موسيقى متل ما بدي… إذا لا تلفون واحد بجيبولك ١١٢ (الشرطة) عالبيت… اجا ١١٢ انت رحتي على السجن، ما في رحمة، ما فيكي تحكي معه شي”. قالت إنّهن يحمين أنفسهنّ من خلال المراقبة الذاتيّة المستمرّة. “شو ما عملت برّا بعمل بس بالبيت بنتبه كتير”. المنزل هو في الخارج، الساعات القليلة في اليوم التي لا تعمل فيها أو تنام. لحظات الفرح العابرة التي تجعل حياة المرء جديرةً بالتذكّر واحتمال المشقة.[6]  لماذا إذن سيبقى المرء هنا؟

نحن الجميلون، وليس المخيَّم.[2]

في منزلها في هواسا، لا تتابع بيزا الأخبار الإثيوبية البتّة. تستمع فقط للأخبار اللبنانية. إنّها غير قادرةٍ على التواصل مع المجتمع الذي عادت إليه ولا ترى فائدةً تذكر من بناء حياة كاملة هناك. «بضل مع ولد اختي مع بنتي، ابني كلّ النهار بالمدرسة. وعم بعمل علاقة جديدة مع امي… فتحت متل كافيه صغير وعم بشتغل». لكنّها تقول إنّ الأمر صعب.

قالت لي صديقتي فرات مؤخّراً أنّها كلّما انتقلت إلى مدينةٍ جديدةٍ يتطلّب الأمر منها سنتين كي تتصالح مع المدينة السابقة. من أجل إنهاء الأمور العالقة، وفقدان الأمل وقتل الحنين، من أجل بتر آخر الروابط. سألت بيزا إن كان هذا يلقى صدى في نفسها، فقلبَتْ السؤال ببساطة، “انتِ بشو بتحسي؟ انتِ عندك كل شي، بس انتِ بعد اكيد عندك شي (برجعك) عن لبنان صح؟”.

إنّه تقدّم والديّ في العمر، قلت لها. كما كلّ الفلسطينيّين، عرفتُ أنّه يتوجب عليّ الخروج في وقت ما إن كان مقدّراً لي أن أصنع حياة.

قررت أن أبتر ذلك الرابط في العام ٢٠١٨، بعد سلسلة من الخيبات العاطفية والاضطرابات «البيروقراطية». أنجزت المهمة بنجاح (أو ظننت أنّني فعلت) صيف العام ٢٠١٩. بعد انتفاضة المخيّمات، وقبل «الثورة الحقّة». كان سقوط انتفاضة المخيّمات من سرديّة الثورة اللبنانية القشة التي قصمت ظهر البعير، لكنّي سأعود إلى ذلك بعد قليل.

“إنّهم لا يريدوننا. لا يحبون الفلسطينيين”. قلت لها (حتّى لو أنّ كثيرين منهم يحبّون فلسطين. يمتلك لبنان ماركته المسجّلة المشؤومة في معاداة الفلسطينيين، سواءً في المجال العام، أو في المساحات البديلة).

صورة لأحد جدران مخيم نهر البارد من حساب ناستوبيا (Facebook) تصوير: مروى لوباني
غرافيتي: مخيّم نهر البارد، الصورة لمروى لوباني، على صفحة ناستوبيا على فيسبوك

“شفتي؟ انتِ بعدك بدك شي منن”، قالت بيزا. من ناحيةٍ أخرى، هي لا تنتظر منهم اعترافاً بها. “أنا مني لبنانية، أنا إثيوبية. لو شو صار، لو ظلم أو أيّ شي صار أنا رح عيش بهيدا البلد متل ما أنا. ما رح انطر واحد لبناني لحتّى يفكرني متله. هيدا شي أنا حطّيتها براسي عشان هيك يمكن ما حدا بيقدر يأذيني… لإلك صعب بعرف أنّه أهلك بعدن هونيك، حتّى انتِ من جواتك بدك تعيشي مطرح تربيتي”.

بعد بعض المماحكات الدفاعية اعترَفْت. “معك حق. بدي شي منهن. للأسف”.

أريد تصريح عمل. الحق في التملّك. قضاء وقتٍ أقلّ في قاعات ومكاتب الوزارات. توظيف وسائط واستدعاء خدماتٍ أقل. البيروقراطية هي الدائرة العاشرة من الجحيم للاجئين، وهي طبقة من الوجود البشري يجهلها كثيرون (لحسن الحظ). على مدار ٧٤ عاماً، فصّلت الدولة على قياسنا ترسانة من القوانين الإقصائية والممارسات التعسّفية التي تحكم حياتنا. كيف يمكن للمرء أن يبني حياة كريمة من دون أن يكون له الحقّ في العمل أو امتلاك منزل؟

أريد للجدار المحيط بعين الحلوة أن يختفي. لمعاملة المخيّمات كغيتو والتعاطي الأمني معها أن ينتهيا. كنت أريد لنهر البارد ألّا يتدمّر، أن يتصرّف بعض «الرفاق» كما لو كانوا رفاقاً بحق. هذا إلى حدٍّ بعيد هو أكثر المواضيع حرمةً على الفلسطينيين في لبنان. يوماً ما، سنتكلّم حول هذا الأمر. أريد لهذا اليوم أن يأتي اليوم قبل الغد. 

أريد أن تكون احتجاجات عيد العمال التي تجمع اللاجئين والمهاجرين والمواطنين أكثر من مجرد احتفالٍ سنوي للفولكلور التقدمي. أريد إجراء محادثةٍ حقيقية بين غير المواطنين، ربّما حتّى (تجرّأت أن أحلم يوماً ما) إنشاء حركة جامعةٍ لنا. أريد أن تكون دوائرنا أقلّ تلوّثاً، وأقلّ شوفينية، وأقل رهاباً للمثليين، وأقلّ كرهاً للنساء، وأقلّ شلليّة. أريد أن تكون المدينة أقلّ عنفاً ووحشية.

أريد لانتفاضة المخيمات في العام ٢٠١٩ أن تكون مرئيّة. لكي تكون جزءاً من رواية الثورة، مهما كانت هذه الرواية (إذا كان من الممكن محو الاحتجاجات العماليّة الفلسطينية بسهولة، فأيّ أملٍ يمتلكه المهاجرون؟).

قبل ثلاث سنوات بالضبط، كانت المخيمات الفلسطينية في لبنان تغلي باحتجاجات شعبية تطالب بالحق في العمل. اندلعت انتفاضة المخيمات في ١٥ تمّوز (يوليو) ٢٠١٩ واستمرّت لثلاثة أشهر فتزامنت مع بداية ثورة تشرين الأوّل اللبنانية. من الملفت للنظر أنّ معظم التحليلات عن الثورة في لبنان تؤرخ الأحداث ابتداءً من تشرين الأول (أكتوبر)، ممّا أدى إلى طمس الاحتجاجات الجماهيرية في ١٢ مخيّماً فلسطينياً وفي بعض المدن اللبنانية.[3] الملفت للنظر أكثر هو حذف الأسس العمالية والطبقية لثورة المخيّمات عند تحليل الجذور الاقتصادية للثورة اللبنانية.

يمكن للمرء أن يجادل بأنّ الأزمة في المخيّمات كانت بمثابة إنذار مبكر لوصول لبنان بشكل نهائي إلى نقطة الانهيار، لأنّ أولئك القابعين في الأسفل هم الذين يشعرون بالأزمة بشكلٍ أكثر حدة. من بين المجتمعات العديدة الموجودة في القاع – الفقراء اللبنانيون واللاجئون السوريون ومجتمعات العمّال المهاجرين وغيرهم – كان الفلسطينيون أوّل من أطلق شرارة الاحتجاج. وأكثر من ذلك، فإن انتفاضة المخيّمات لم تكن مجرّد إنذارٍ مبكرٍ للأزمة، بل كانت أيضاً الشرارة الأولى للثورة ضدّ الأوضاع المزرية. إنّ غياب هذا عن معظم التحليلات لثورة أكتوبر يقول لنا ما يقوله عن الطبيعة اللبنانية القومية والمواطنية للخطاب الدائر حول هذه الثورة – لكن هذه قصة ليوم آخر.

الكثير من سكان لبنان انسحقوا تحت وطأة الأزمة. لكنّني لست مهتمّةً بالكثرة. أنا مهتمّةٌ بالقلّة. نحن الذين نزلنا إلى الشارع في أكتوبر ٢٠١٩، على الرغم من الشوفينية السائدة، وقلوبنا تقفز من صدورنا حبّاً واعتزازاً. نحن الذين عملنا بجدّ، كلّ صباحٍ قبل النزول إلى الشوارع، لإسكات هذا الصوت في داخلنا. اليقين بعدم الانتماء، وبأنّ كفاحنا لا يهم، وبأنّ مطالبنا لن يتمّ التعبير عنها، وبأنّنا لن نكون من المكان أبداً. يمكننا فقط أن نكون فيه.

لن نكون من المكان أبداً، يمكننا فقط أن نكون فيه. لماذا إذن نحبّ المكان؟ لخّص نصري حجاج الأمر ببلاغة: «لم يكن في المخيّم ما هو جميل غيرنا. نحن الجميلون، وليس المخيّم»[4].

رسم لأمل كعوش: عمل كوميكس عن عين الحلوة والحبق )بموافقة الفنانة(
رسم لأمل كعوش: عمل كوميكس عن عين الحلوة والحبق (بموافقة الفنانة)

المكان ليس جميلاً. نحن نسقط جمالنا على المكان. نحن نسقط عليه حيواتنا – تناقضاتها الحلوة المرّة، الحبّ والضحك والأمان الذي عشناه، الذكريات الأساسية التي نحتت ذواتنا. نحن نجعل المكان جميلاً. نوع من الجمال يفلت من أنظار معظم الناس. جمال منطقة الدورة عصر يوم الأحد. جمال عين الحلوة من شرفتنا عند غروب الشمس. لحظات عابرةٌ من الصفاء والسموّ تعترض سنوات من العنف البنيوي.

في مقالٍ عن انتفاضة المخيمات، كتبت معيدة صياغة أودري لورد، موني مكاوي، “أولئك الذين يعيشون في منزل الأسياد يعرفون عن كثب شبكة القوى التي تحدّد الشروط المادية لحيواتهم اليومية. عند الحدود الفاصلة بين القلق والغبن، يعرف الفلسطينيون أكثر من غيرهم المطالبة بهذه القوى وإعادة تشكيلها”[5].

في حين يعيش الفلسطينيون والسوريون في منزل الأسياد الرمزي، فإن عاملات المنازل المهاجرات هنّ من يسكنّ حرفيّاً في هذا المنزل، وتوفّر تجاربهم نظرةً ثاقبةً عن الشوارع والمكاتب والمنازل على طول جغرافية البلاد. هل اهتممنا بما رأينه؟ هل نظرنا في تلك المرآة لنرى انعكاسنا في أعينهنّ؟ إنّه لأمر مخيف أن نفكّر في مدى قبحنا.

كيف سنرى أنفسنا إذا استمعنا إلى قصص العديد من سكان لبنان – مواطنين، ولاجئين، ومهاجرين، ومكتومي القيد؟ ماذا لو فكّرنا في هذه القصص لا كمرآةٍ أو عدسةٍ لرؤية المجتمع اللبناني، ولكن باعتبارها الخيوط التي تشكّل نسيجه؟ طرحي هذا ليس قراءةً متعدّدة الثقافات للبنان عكس نسيجه القومي. كمّا أنّه ليس انتقالاً من الهامش إلى المركز في محاولة لاستعادة الأصوات التي تمّ محوها من السرد التاريخي.

على العكس من ذلك، إنّها دعوةٌ للتصالح مع ما نحن عليه. للتصالح مع المكان الذي خلقناه بشكل جماعي.

المكان هو نحن. إنّه لا يكرهنا. إنّه ليس جميلاً. إنّه نحن، وفي بعض الأحيان، نحن الجميلون.


[1]  في مقدمتها الافتتاحية لفصل ب.ش.ر في العدد الثالث من المشتق، كتبت سمية قاسم علي أنّ النصوص بدأت بالاستفزاز التأملي، «ماذا سيكون رأيك إن التقينا في بيروت تسمح لنا بمعاملة بعضنا البعض كبشر؟». بالإضافة إلى التوجيهات التحريرية لسمية، فقد أوجدَت المساحة التي دارت فيها هذه المحادثة مع بيزا والتي امتدت عقداً من الزمن. هذا النصّ يسترشد بشكل كبير برؤيتها الشخصية وعملها الأكاديمي.

[2] إعادة صياغة لقصيدة نصري الحجاج أتذكّر، الواردة أدناه.

[3] لمزيد من المعلومات حول الثورة، انظر:

مكاوي، منى. “قرارك وقرارنا”: الضربات الفلسطينية في لبنان والحقوق الحضرية المعاصرة. العمران العربيّ، 14 آب / أغسطس 2020 [إنجليزي] www.araburbanism.com/magazine/your-decision-and-ours

هنا سليمان وإسلام الخطيب. “حراك المخيّمات الفلسطينية في لبنان: محاولة جديدة للخروج من الهامش.” 7iber حبر ، 9 أغسطس 2019 [عربي] حراك المخيّمات الفلسطينية في لبنان: محاولة جديدة للخروج من الهامش – 7 iber | حبر

[4] حجاج ، نصري (1951-2021). “أتذكّر”. لبنان: غير مؤرّخ. نشرت أصلا على صفحة المؤلف الراحل على الفيسبوك https://www.facebook.com/nasri.hajjaj.3

أتذكّر

المخيم ليس جميلاً
لا شيء فيه
يدعو إلى زعزعة الروح سحراً
ولا حتى دوالي العنب
وأشجار التين
والحواكير الصغيرة الفخورة
بالبصل والنعناع
والفجل والمردقوش
والحبق سارق انتباه الأنوف
والشهوات
المخيم لعنة
كنا نعتقد بأنها مؤقتة
لكنها استوطنت أرواحنا
فرحنا نبحث عن الجماليّ في
أزقتها وسقوفها الهشة
غافلين عن الجمال الخفيّ،
لم يكن في المخيم
ما هو جميل
غيرنا
نحن الجميلون
وليس المخيم

– نصري حجاج

[5] مكاوي ، م.

قال\ت

ترجمة: حسين ناصر الدين

انقر هنا (PDF) لمطالعة أمثل.

قالت

ان ثمة ذاك النهر الجميل الجميل
النهر الخطير
تيارات سريعة
مكان خطر
ماؤه عميق عميق

كانوا واعيين سياسيًا
شعروا أنهم يرزحون تحت نظام قمعي
كانوا جزءًا من الحركات السرّية
وكانوا متفائلين جدًا 
وكان رائعًا
ذاك الأمل والوعد
لكن الذي صار فيما بعد كان رهيبًا

الحرس في كلّ مكان
والبوليس السري يراقب في الشارع
ما كانوا يريدون أن يراهم أحد
بعض أقاربه أرداهم البريطانيون بالرصاص
هو والثوار الآخرين كانوا مسلحين
طاردوا الشرطي
ثم وقع بين الثوار وأصيب برصاصة
عُلّقوا
كما عُلّق رجال قبلهم
كلّهم علّقوا تحت هذا الجسر

عندما جاءت الطائرات
أدركتُ أن الحال في تقلّب شديد
وتوتر يتكاثر في كلّ مكان
الناس قلقوا
وكل هاتيك الأماكن دُمّرت
وكان حزنًا
روّع الجميع بشدة
فقد رأوا كل تلك الفظائع
ومرّوا بأشياء لم نمر بها نحن
كلّ ذلك الحزن

مقتطفات من سلسلة مقابلات أجريت عام 2021 مع والدتي التي عاشت في العراق من عام 1964 إلى عام 1980

قال

نحن على دجلة
وقد بلغنا ضفة النهر
ورأينا الجسر يحترق
ثم ظهرت كتيبة من الرشاشات وخبراء المتفجرات
قتلنا ما لا يقل عن ٢٠٠

ليست لدي المؤهلات على الإطلاق للعمل السياسي
أنا غريب في أرض غريبة
الناس يكرهوننا، يأملون أن تقتلنا القبائل
تسقط البلاد كلّها في أيام الشر
رأيت رجال القبائل وأفرغت مسدسي في جماجمهم
فنزعُ عيونهم
أهون عليهم من نزعِ بنادقهم

المعارك في كل مكان
جعلتُ من شخصين عبرة لمن اعتبر
إذ أمرت بجلد واحد منهما في السوق
وحكمت على الآخر بالسجن لمدة سنة
أمرت بربطه وضربه
وإرساله إلى بغداد مقيّدًا بالسلاسل
أطلقوا النار علينا
وقُتل شرطي آخر
بالشرع كان يجب أن يشنق
يستحق ما نابه من العقاب

رأيت طيّارَين، كانا رائعين!
وقدّ سلّمَت المدينة المطاليب الذين أردناهم
مرّت الطائرات لتُغير على المدينة في الصباح
نجحنا بإيقاف أربعة منها
لكنّني أخشى أن الخامسة أفلتت منّا
عم الرعب في نفوس الناس، أشفِقُ عليهم
هم يعرفوني، وأنا أعرفهم ولا بدّ لي أن آنس في المكان
الإعتماد على النوايا الحسنة للناس سياسة خطيرة جدًا في الشرق
أضحيت متشائمًا حيال مستقبل بلاد ما بين النهرين
أرجوا ان يظل كلّ ما قلت بيننا

مقتطفات من رسائل كتبها مسؤول سياسي بريطاني إلى زوجته. تمركز في العراق من عام 1917 إلى عام 1925

العمل الفني: جنان العاني، لقطات من “المخططات الزمنية”، فيلم، ٢٠٢٢.

يركّز الفيلم على صينية نحاسية مزخرفة صُنعت في العراق، و أضحت الآن في مجموعات متحف فيكتوريا وألبرت في لندن.  يُقال أنّ الصينية تعود إلى فترة يوم الهدنة، في العام ١٩١٨، لكنّ الطائرات المنقوشة عليها، ورسم إعدام رجلٍ عربيٍ على يدّ القوات البريطانية، تشير  إلى أنّ ما نُقش عليها هو  أحداث الثورة العربية في العام  ١٩٢٠، وهي صفحة مهملة، قلّ العارفون بها، من كتاب التدخلات البريطانية في العراق. شكّلت هذه الثورة تهديداً حقيقيّاً لمخطّطات إقامة الدولة العراقية الحديثة تحت الإنتداب البريطاني، بُعيد انهيار السلطنة العثمانية. ولولا تدخل سلاح الطيران لطمس الثورة والإغارة على المدنيين – وهي شكلٌ من أشكال الحروب الحديثة التي كان البريطانيون من “روّادها” في العشرينيات- لكانت الثورة قد نجحت، وكان لتاريخ الشرق الأوسط الحديث أن يكتب بطريقةٍ مغايرةٍ اليوم.

ابنة الجنّيّة

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢
العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢

تنبيه: قد يتراوح هذا النصّ أحياناً بين الفصحى والعامية مثل ما أنا بتراوح بين الذكورة والأنوثة، كما الجنّ كائنات حيّة ولكنّها بدون هيئة ملموسة. فيما يخصّ الكتابة عن أمّي، لا يمكن أن أكتب إلّا “بلغة أمّ”، ولا يمكن أن تكون لغة الأمّ عندي لغة فصحى منمّقة (على روعة جمالها) ولا فيها تكون لغة عربية دارجة صرفة لأنني ما تعلمت العربية من النساء اللي لعبوا دور الأمومة في حياتي.

أستذكر كلمات حسين البرغوثي، ذلك الشهاب الذي انطفأ (مثل أمّي) قبل موعده في كتابه عن الشعر الجاهلي: “ليس هذا بحثاً أحفظ فيه شيئاً (عن الجن) وتغيب عنّي أشياء” بل ما تقرأونه “حدوس وتخيّلات وشطحات مزروعة في التاريخ الفعلي”[1]، أمّا هنا، فهي مزروعة في تاريخ أمّي، المرأة التي ولدتني ثم تلاشت، ومع ذلك ظلّت تطوف حولي بأشكال شتى طيلة حياتي. والطيف ما يطوف بالإنسان، أي يدور حوله من الوساوس أو الخيال…أو الجانّ، ما يدفعني إلى الربط بين الجنّ وبين جنون عقلها.

عندما تمّ استكتابي لهذا الملفّ، أوّل ما طُرحت عليّ فكرة الغوص في موضوع الأشباح والجنّ تحديدًا، خطرت أمّي على بالي. في بادئ الأمر استغربت إيجاد هيك صلة. إلّا أنّ الجاحظ يقول: “كلّما كان [الشيء] أغرب كان أبعد في الوهم، كلّما كان […] أطرف، وكلّما كان أطرف […] كان أبدع”[2]. بعد أن تعمّقت في انشغال التراث العربي بكائنات خارقة تُسمى الجنّ وتمتاز بكونها حاضرة وغائبة في آن واحد، صار عقلي يبتدع صلة بين جنون أمّي وهذه الكائنات. إذ في حياتي كذلك هي التي تمتاز بالحضور-الغياب في آن. 

أمّي التي عانت من الفصام من قبل ما أولد بأكثر من عقد، والتي لم أنشأ معها لأكثر من شهرين بعد ولادتي قبل أن تنتكس حالتها الصحّية فتودع مصحّاً للأمراض العقلية وتنزلق رويداً نحو انفصال تامّ عن الواقع، فالموت السريري، فالموت الجسدي من السرطان الذي أبتْ أن تتلقّى العلاج له. تُوفيت الوالدة وأنا في الـ 24 من عمري. يعني أنّي أمضيت 24 سنة وهي على هذه الحال – حاضرة غائبة عندي. كنت أحتار كيف أعبّر عن هذا الحضور – الغياب، إذ يبدوان لي وجهين لنفس العملة. كأنّ الجنّ والمجانين يتشاركون هذه الخاصيّة، وكأنّهم جنّ محبوسون في قفصٍ اسمه الجسد. 

هذا ما خطر لي وأنا واقفة عند جثّتها قبل أن تدخل إلى فرن الترميد. كان وجهها بارداً جامداً عندما لمسته. نقزت ولم أقدر على الاستمرار بوداعها. فقط بعد عِقد صرت أرتاح، لأنّه استوعبت أنّ النار عتقتها من قفص الجسد. ربّما هذا أيضاً ما يفسّر شعوري بالاغتراب عن جسدي فعنصر النار يتوق إلى الانعتاق من عنصر الصلصال الذي خُلقنا منه. نقرأ في رسائل إخوان الصفا الباطنيين: “(نحن) الجانّ أرواح خفيفة ناريّة وبنو آدم أجساد أرضية ثقيلة (…) نحن نراهم ولا يَرونا، ونسير فيهم ولا يُحسّون بنا، ونحن نُحيطهم وهم لا يمسّوننا”[3]. عند رحيلها ما تفجّعت ولا استطعت أن أكتب عنها شيئاً إذ كان حضورها في غيابها عني. شحّ التفاصيل والفراغ اللامتناهي الذي شعرت به تجاهها جعلت الكلمات عندي كالجانّ تستعصي الالتقاط، فهي حاضرة وتراني ولكنّي أراها تسير فيّ وتحيط بي وأستصعب الإمساك بها فتتهرّب الأفكار عند جلوسي للكتابة وكأنّ الجنّ يتهرّبون فقط لما أحتاجهم.  

إذاً الجنّ كائنات موازية لنا تتعايش معنا وتشاركنا نفس الفضاء. هنا، ألجأ إلى الاشتقاق اللغوي الذي لطالما فتح لي أبواباً في العربيّة كانت موصدة أو لم أكن أعلم بوجودها حتى. فيما يخصّ مادّة ج-ن-ن، لنمعن النظر في ما يسميه اللغويّ ابن فارس مقياس المادّة وهو يقصد الاشتقاق الكبير أي المعاني التي تشترك فيها مفردات كلّ جذر، فالعرب تشتقّ بعض الكلام من بعض[4].

ويصعب الحديث عن الجنّ بدون ذكر نقيضه الإنس وبحسب مقاييس اللغة الأنس هو ظهور الشيء، ولهذا الإنس خلاف الجنّ لأنهم سُمّوا لظهورهم، وأنس الإنسان بالشيء أو الشخص إذا لم يستوحش منه. إذاً نحن بإزاء ثنائيّة الظهور والخفاء التي توحي لنا أيضاً بأنّه يستحيل أن نستأنس بالجنّ. لم يتسنَّ لي أن أستأنس بأمّي إذ لم يكن لها أيّ حضور ملموس في حياتي سوى ثلاث أو أربع زيارات كانت أوّلها وأنا في سنّ الثماني وبضعة مكالمات هاتفيّة. 

تنوّه شريكتي في الألسُن رنا إلى هذا الرابط اللغويّ بين الجنون والأمومة، من خلال الجنين، وهو الولد الآخذ بالتكوّن في رحم أمّه، والذي لا يصبح إنسيّاً ما دام في الرحم. الجنين مرتبط جذراً بجنون الأمّ التي قرّرت أن تجعل من جسمها طنجرة لجِبِلة بشريّة لا شكل محدّد لها بعد ولا يعرف أحد بالضبط ما ستكون عليه عندما تكبر[5]. إذا تمعنّا في اشتقاق لمادّة ج-ن-ن نجد أنّ “الجيم والنون أصل واحد وهو الستر والتستّر” فجنّ الشيءَ يجنّه جنّاً أي ستره وكلّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك وجنّ عليه الليل أي ستره وأخفاه فجنون الليل ظلمته واشتداد حلاكه. منه الجنون أي الخبل يتغشّى العقل حتّى يفسده والمجنون من يتّصف بذلك. وكذلك جنون النَبت استطالته والتفافه والمجنون أي النخل الشديد الطول. والجنّة هي الحديقة ذات الشجر والنخل الكثيف فمنها تُدعى دار النعيم في الآخرة جنّة.

وتتابع رنا قائلةً إنّ الجنين هو المستقبل بامتياز. قد يكون ذلك صحيحاً إلّا أنّ اشتقاق الجنين من كونه مستتراً في البطن أيضاً يفضي إلى اشتقاق آخر فالجنين في اللغة ما كُفّن وقُبر والجَنَن هو القبر والكفن فالجنين هو المقبور أو المدفون الذي انتهى مستقبله وأصبح ماضياً بالنسبة لنا نحن الأحياء فيقال مثلاً الحقد الجنين. كنت جنيناً في رحم أمّي التي صُنّفت مجنونة رسميّاً فجُنّت عنّي بعد ما بطّلت جنين، بل صارت هي الجنين. وكونها لم تُدفن بل ترمّدت فلم تصبح جنين قبر بل جنّها البحر إذ نثرنا رمادها في الخليج العربي من على شاطئ في بومباي حيث عاشت هي وأبي أوائل السبعينيات. بحبّ أتخيلها جنّية تحرّرت من قفص الجسد الإنسي المتعب الذي عمره ما كان يليق بها لتعيش في جَنَنها البحري بدل تراب الأرض. في هذا التراب بدوره تنمو الأجنّة فالجنين هو أيضاً أوّل النبات في الحبّة المنغرسة في بطن الأرض. لذا الأرض إذا أزهرت يُقال جُنت أو تجنّنت فهي مجنونة إن لم يرعَها أحد. منها تُشتق اسم الفردوس بالعربية – الجنّة – الأرض المستترة بالشجر والنبات وورقها، التي نحن محجوبون عنها لأنّها ثواب مستور عنّا حتّى يوم القيامة. أجنّةً نبدأ الحياة، وننهيها على أمل في جنّة لسنا متأكدين من وجودها. أليس من الأجدر أن نسعى إلى أن نصير جانّاً بعد فناء الجسد فعنصر النار أبقى وأخلد إذ لا يحتاج سوى الهواء. لا يمكنني أن أجزم من المصادر بما فيها القرآن إذا كانت الجنّ فانية كالإنس. بالنسبة لي أمّي تعيش بجنّيتها وإن مات قالبها الإنسي. لا أؤمن بأنّها في جنة من الجنان بل أني بضل حسّ فيها ملازمتني أنا جنينها من المَجنّة بالفتحة وهي المكان الكثير الجنّ.

 الفصام الذي عانت منه أمّي عصاب يجنّ وعي المصاب عن واقعنا ويزيح به إلى واقع من التخيّلات والفانتازمات المروّعة تُبقيه حاضراً جسديّاً وتغيّبه أو تنفيه عقليّا. وإذا نظرنا إلى مادّة فصم له أصل أو معنى واحد وهو انصداع أو انكسار الشيء من دون أن يبين. يا للصدفة عدنا إلى الاستتار في الجنون. كان فيها انكسار غير مرئي لا يمكن تحديده ولذا يصعب جبره وترميمه. يصيب ما لا يبين للإنسي الذي من طبعه البينونة، ما يصعّب على المجتمع التعامل مع المفصومين ورعايتهم ضمن علاقات مستدامة مبنيّة على الودّ، ناهيك عن علاجهم.

إذا كان الجنين مربوطاً بجنون الأمّ، كما تقول رنا، فكنتُ جنيناً مخفيّاً داخل جسدها الذي جُنّ عقله ثم جُنّ عنّي جنونها. والجنون بهذا المعنى أي خبل العقل واختلاله هو أيضاً إحدى حالات الحب، هذا المعنى يتعدّى العربيّة ويوجد في الفارسيّة فكلمة “ديوانِه” تدلّ على المجنون والعاشق كلاهما. لا عجب في ذلك إذ الجَنان هو القلب لأنّه مستتر ومخفي داخل الجسم. ظلّ أبي بجنانه مجنوناً بحبّه لأمّي رغم جنون عقلها. أبي هو العاشق المجنون بكل معنى الكلمة. وكيف؟ لقد لمح أبي، الإنسيّ بدون شك والقادم لتوّه من دلهي[6] لإعداد الدكتوراه في الفيزياء، امرأة أميركيّة بيضاء من أصل يهودي اسمها جون Joan (لاحظوا مجدّداً التشابه اللفظي بين اسمها والجنّ)[7] وهي تغنّي في جوقة فأخذ صوتها بجَنانه بعد أن استجنّ صوتها أي استطربه فأصبح مجنوناً أي مولعاً بها حتّى كاد يذهب عقله. بحسب الجاحظ فالغول اسم لكلّ شيء من الجنّ يعرض للمسافرين متلوّناً في ضروب من الصور والثياب.[8] لقد تعرّضت أمي لأبي المهاجر لكنّها فتنته بدل أن تفتك به. أمّي طبعاً كانت إنسانة من لحم ودم ولكن كان عندها صفات قد نطلق عليها خارقة، كالقدرة على استيعاب وتشرّب لغات وثقافات إلى درجة تربك من تحادثه، خاصة بمعرفتها في السينما والموسيقى.[9]

ثمّ الجَنَن هو الموضع الذي يُستتر به أي المخبأ. حاول أبي أن يوفر لها جَنناً من أذى المجتمع واحتقاره لمن يزعجه. في عصور مضت كانوا يعتقدون أنّ أصحاب العُصابات والأمراض العقليّة ممسوسين بالجانّ فكانوا يضربونهم لكي “يطردوا” الشياطين من أجسامهم. حاول أبي أن يحميها بشتى الطرق فجنّ على جنونها وعاد بها إلى أمريكا فقد كان حبّه لها جِنّيّاً والجنّي من الأشياء ما طال وامتد إلى يومنا هذا!

خفت أن أثير سخريته، هو الذي يقول بالماديّة الجدليّة ولا يتمسّك بأيّ عقيدة دينيّة إلّا أنّه فاجأني باتفاقه معي عندما طرحت عليه فكرة ربط جنونها بالجنّ قائلاً إنّ فيه شيء من صحّة القول وهو يشير إلى تذوّقها لشعر طاغور الذي بلغ عمقاً لم يبلغه معارفه من أبناء اللغة البنغاليّة أو كيف كانت تتحرّك في أسواق بومباي لشراء الأغراض بخفّة عجيبة وكأنّها نشأت هناك. يقول بأنّه كان فيها شيء خارق. وعلى سيرة خفّة الحركة فالدابّة المجنونة هي التي تتحرّك بخفّة من نشاطها فتذهب في كلّ وجه، ربّما لأنّ حركتها تشبه حركة الجن؟

ثم نكتشف أنّ الجانّ نوع من الحيّات سريع الحركة شديد الاهتزاز. عادةً تحمل الحيّة (كالجنّ) تداعيات سلبيّة، فنتخيّلها حيواناً مؤذياً تفعل عكس اسمها – تميت ولا تحيي. الجنّ والحيّات كلاهما يقترنان بالعالم الماورائي، فبحسب الجاحظ قتل الجانّ من الحيّات خطير لدرجة أن العرب إذا رأى إحداها عالقةً في قعر بئر عليه أن ينزل ويخلّصها “وكأنّه يريد الإخلاص في التقرّب إلى الجنّ”[10]. لا أعلم كيف كانت أمّي تتحرّك عندما كانت صحّتها أحسن فعندما التقيت بها بدا لي وكأنّ جسدها ليس لها أو أنّها منفيّة عنه. والحيّة بفضل رخاوة جسمها تصل إلى حيث لا يتوقّعها أحد. وكذلك أمّي، فقد ظهرت في پيانوبار بڤيينا مرّة وهي على سفر مع أبي لتغنّي أغنية ألمانيّة من العشرينيّات من مسرحية لبريخت برفقة العازف وكأنّها عندها وصلة في المحل كلّ مساء! لقد أسقط عنها مِجنّ الحياء، والمِجنّ بالكسرة نوع من الدروع تُتّقى بها ضربات السلاح في القتال وأسقط مجنّ الحياء أي فعل ما شاء تملّك أمره. واجهت قسوة العالم تجاه أصحاب الأمراض النفسيّة كالجنّ الذين يجيدون المواجهة مجرّدين من كلّ درع وترس ويطوفون أينما يحلو لهم.

كانت أمّي رسّامة لمّا كانت قادرة تشتغل. لم أتعرف على معظم لوحاتها إلّا أنّه من اللوحات اللي صحّلي أشوفها لوحتين كل واحدة بتصوّر فيها زوج بهيئات غرائبية. الرؤوس والأجساد بلا قسمات وما فينا نصنّفها بشر ولا نصنّفها حيوان. كذلك الملامح والتعابير لا يبدون لنا سعداء ولا حزانى، بل لا كلمات في معجمنا الإنسي العاطفي لوصف تعابيرهم. وأتساءل شو منعرف عن مشاعر الجنّ، هل تشبه خارطة مشاعرهم مشاعرنا هل تفرح وتحزن مثلنا ولنفس الدوافع؟ المصادر لا تخبرنا كثيراً عن عالم الجنّ العاطفي سوى نواياهم الشريرة، ومن وجهة نظري هذا اللي عم تحاول تبحث فيه هاي اللوحتين.

لوحتان زيتيتان بلا عنوان لِجون فيلدمان موباي، عام 1979.
تعودان إلى الأرشيف الشخصي لوالد الكاتبة

ثم أنظر إلى صورة مبكرة لها ولأبي و هما في منتصف العشرينات وبلاقي نفس الغموض الشبيه بالجنّ بعينيها فلا أستطيع أن أميّز هل هي سعيدة أم تتصنّع الابتسامة. أتذكّر ما قالته لي حبيبتي مرّة بأنّها لا تستطيع أن تستقرئ شيئا من عينيّ وأنّ عينيّ كبيرتان جميلتان لكنّهما لا تشيان بأيّ شيء على عكس معظم الناس اللي بتعرفها، وكأنّني قد أكون جنيّة.

كنت بفكر كل حياتي إنّه ضيعان حياتها لأمّي، وكم بدت لي بائسة وهي في هذيان الاحتضار عندما تمتمت لأبي ببعض كلمات لأغنية من أحد أفلامها الهنديّة المفضلة. نحن نعلم أنّ اللغة هي التي تعرّف الإنس وتميّزهم عن سائر المخلوقات، إلّا أنّ أمي هون وهي تحتضر انتزعت لنفسها بعض الكرامة والفعاليّة بقدرة جنّية على تذكّر لغة لم تسمعها ربّما منذ عقود فقدرت تطغى ولو للحظة على الجنون. كأنّ اتصالها باللغة هنا جعلها تنتمي للجانّ بشكل من الأشكال.  أدرك الآن أنّ أمّي فرجتنا آنذاك أنّه ما في شي اسمه إنسي أو جنّي نقي وأنّ هذيك الثنائيّة كمان قابلة للخرق. للغة الأم أن تكون (أحياناً) لغة جنّية، رغم أنها كانت من صلصال وليس من نار، فكان نطقها هنا بفضل العنصر الجنّي الكامن فيها.[11] 

أعود أدراجي من الجنّ إلى الجنين. عندما حبلتْ أمي بي، قرّرت هي والوالد إبقائي لأنّ حالتها النفسيّة تحسّنت. ثم سرعان ما انتكست بعد ولادتي، إذ صارت تتوهّم (وأوهام الفصام مؤذية وخالية من الطرافة الجاحظيّة) حليبها مسموماً فأرادت أن تحميني وامتنعت عن إرضاعي. والحماية فعل معتلّ ناقص بحرف العلّة الياء في لامه وهكذا لم يمكّنها عقلها المعتلّ حماية هذه الجبلة البشريّة التي عزمت على نموّه في رحمها بعد الولادة. والولادة كذلك فعل معتلّ ولكنّه فعل معتلّ مثال أي الذي يكون أوّل فاءه حرف علةّ كوَجَد ووَلَد. بينما الهمزة والميم، أي الأمّ فمضعّفة كالجنّ والجدّ. المضعّف هو الذي كان أحد أحرفه الأصليّة مكرّراً لغير زيادة وتُعتبر الأفعال المضعّفة أقدم الألفاظ في اللغة العربيّة.[12] ومادّة “أمّ” تدلّ على الأصل المكوّن لأشياء أي أنّ جذر الأمومة متأصّل في اللغة صرفيّاً وحرفيّاً لا علّة فيها. وأن يؤمّ الشيء أو الشخص يعني يقصده أو يتولى أمره، فمنه إمام الصلاة. وإذا أمَّ ظهرَ البعير أحدث فيه جرحاً. أحمل جروح الأمومة مجنّنة داخلي، وُلدت لها ذكراً لكنّي مع الوقت تحوّلت بكل قصديّة من ابن المجنونة إلى ابنة الجنّيّة. يُقال إنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات، بس لأنّه جنونها نابع كونها جنّيّة، سأقول إنّ أمّي ساكنة في جنّة الجنّيّات.

صورة من الأرشيف الشخصي لوالد الكاتبة، منتصف الستينيات.
الصورة مجاملة من الكاتبة.

إلى أمّي: بفضّل أتذكّرها جنّيّة على مجنونة، وإلى أبي المجنون الذي لم يكفّ يوماً عن الغناء على ليلاه.


[1] حسين البرغوثي، السادن والناقة: قصص عن الزمن الوثني، ص. 23. كان عرب الجاهلية يعتقدون بالعلاقة بين الجنّ والشعراء، أي أنه لكل شاعر كبير جنّيً يؤلف أشعاره ويمليها عليه لينشدها هو. بحسب كتاب جمهرة أشعار العرب للقرشي، كان هؤلاء الجانّ يسكنون مكاناً خرافيّاً يدعى وادي عبقر (التي تُشتقّ منه كلمة عبقري)، كما قسّمهم ابن شُهيْد الأندلسي إلى فريقين، خيّر وشرّير، في رسالة التوابع والزوابع.

[2] الجاحظ، البيان والتبيين، ص. 89-90

[3] رسائل إخوان الصفا وخلّان الوفا الجزء الثاني، الرسالة الثامنة ص. 168

[4] عبد السلام هارون، مقدمة معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص. 29. من باب الصدفة المحضة أنّ ابن فارس يكمل جملته بضرب المثال: “… وأنّ اسم الجنّ مشتقّ من الاجتنان (أي الاستتار)”. استجمعت المعاني الواردة بعد مراجعة أمهات المعاجم كلسان العرب والقاموس المحيط ومقاييس اللغة بشكل رئيسي بالإضافة إلى موقع معجم الدوحة التاريخي

[5] رنا عيسى، أمّيات. الجمهورية ك2 2021

[6] “لُقّبت دلهي بمدينة الجنّ لكونها مدينة دمّرها الغزاة مراراً ثم أعيد إعمارها فبُعثت كالعنقاء من الرماد، فأحب الجنّ دلهي لدرجة أنهم لم يطيقوا أن يروها مقفرة مهجورة”. William Dalrymple, City of Djinns: A Year in Delhi, p. 35 

[7] نرى هكذا تشابه لفظي لدى ابن جِنّي، اللغوي الكبير من أصل رومي وصاحب كتاب الخصائص، فنسبه لا يشتقّ من الجنّ بل من كلمة genus الإغريقية أي جنس الشيء.

[8] كتاب الحيوان، ت. محمد باسل عيون السود، الجزء السادس ص. 398

[9] للأمانة يجب أن أوضح أنّ اهتمام أمّي بالثقافة الهندية لم يكن بتاتاً مدفوعاً بارتباطها بأبي بل كان قد بدأ قبل تعارفهما وكان تذوّقاً جدّياً لا علاقة له بموضة الروحانية الهندية التي درجت في الغرب خلال الستينيات.

 [10] كتاب الحيوان الجزء السادس ص. 341

[11] شكر خاصّ لهيثم الورداني على الإضاءة على هذه النقطة.

[12] هذا ما يذهب إليه أحمد فارس الشدياق بخصوص المضعّف بصفته أصل الاشتقاق في الكتاب سرّ الليال في القلب والإبدال
لاحظا كذلك التقارب اللفظي بين الجدّ والجنّ، وكأنّ حرف الدال يُقلب ليُجلس على مؤخرته ثم تتكوّر هذه المؤخرة لتصبح نونا، ما يوحي بأنّ كلتاهما ملتفّتان كالنبت المجنون على بعضهما البعض. ستكون جدّتي الهندية التي لعبت دور أمّي بالوصاية طوال طفولتي موضوع نصّ منفرد. 

بشر شارع الحمرا

العمل الفني: ألين ديشامب، "امرأة تنظر إلى إهراءات مرفأ بيروت من سطح منزلها، بعد مرور عام على تفجير بيروت" ، تصوير فوتوغرافي. ٢٠٢١

ترجمة: حسين ناصر الدين

ظاهريّا، لا تتعايش المصارف والحانات في شارع الحمرا. تضجّ المصارف بالزبائن نهاراً بينما تغرق الحانات في الصمت، ثم تنعكس الصورة ليلاً: تزدهر الحانات بروّادها بينما تخلو المصارف من أيّ حركة.

لكن، الحياة الليلية غير ممكنة من دون المال، والمال مصدره المصارف. وعليه، ادمن بشر الحمرا على الحانات طوعاً وعلى المصارف جبراً. إلى أن جاء يومٌ عاصفٌ في تشرين الأوّل، عندما أغلقت البنوك أبوابها، فرحل معها المرح، وتوقّف الناس في الحمرا عن الرقص وبدأوا بالتظاهر. استبدلوا رفع الكؤوس وشرب الأنخاب برفع القبضات الغاضبة. لم يكونوا الوحيدين، فقد فاضت طرقات المدينة بسيلٍ من البشر، اندمجوا سويّة حتّى صاروا كالبحر الهادر. صارت المصارف حجراً آخراً في جدار يجب أن يُهدم. علت الصرخة: في الاتحاد قوّة. اندفع البشر وتقدّموا في كلّ اتجاه.

لوهلةٍ، خاف حيتان المال وقلق أمراء الحرب والطوائف. راحوا ينفخون وينفثون على المنابر الإعلامية ضدّ “الرُّعاع” المحتجّين عند الأسوار. وعندما لم يستجب لهم أحد، استقدموا محاربيهم المرتزقة وبنوا جدراناً أعلى،ومن بينها سور عال في الحمرا لحماية رياض الجوكر الذي أمسك بكل خيوط اللعبة.

رياض الجوكر

كان رياض الجوكر إنساناً جادّاً يؤدّي مهمّة جديّة: حماية الليرة اللبنانية. في زمن الحرب الأهلية، دأب بقليلٍ من العرق ومن دون أيّ نقطة دم، على إبرام الصفقات المالية لحيتان المال، وبعدها، في زمن السلم، سيطر على نقود الشعب بأكمله. تربّع لأكثر من ربع قرن على عرشه المحصن عند مدخل شارع الحمرا، وفتح الصنبور سامحاً بتدفقٍ ثابت لسعر الصرف، 1500 ليرة للدولار الواحد، وقد بدا الجميع راضين. يملأ الأغنياء وأصحاب السلطة خزائنهم، في حين ينشغل الباقون بالفتات. أو هذا ما ادّعاه الأغنياء وأصحاب السلطة. وحين شعر الباقون بالقلق، أكّد لهم رياض الجوكر أنّ الليرة باقيةٌ طالما بقيت برعايته. ذكّرهم أنّ المصارف مفخرة بلدهم، وأنّه سيّد العارفين.

سار الأمر على هذا المنوال إلى أن جاء يوم عاصف في تشرين الأوّل. عندها كرّر رياض الجوكر نكتة “الليرة بخير”، لكن لم يضحك أحد. لقد انهارت الليرة، وأُزهِقت أرواح ودُمّرت سبل العيش. تحوّل رياض البطل الخارق إلى رياض المجرم الشرير. ارتدى قناع لاعب البوكر وأطلق المزيد من النكات السمجة. بتواطؤ من الأغنياء وأصحاب السلطة، حوّل البلاد إلى كازينو داخل سيرك. أضحت أجهزة الصراف الآلي ماكينات قمار محطّمة، وتحوّل الدولار في خزائن البنوك إلى لولار، وتحوّل اللولار في جيوب الناس، ومنهم رضا المغمور، إلى ليرات تذوب في الهواء.

رضا المغمور

منذ الصغر، كان رضا المغمور مستمعاً جيّداً وتلميذا مجتهداً. كان ينام، وهو طفل، بين غلاف كتاب لأنيس الكاتب. استمع رضا لقصص أنيس عن ذكريات بعيدة عن حياة القرية. أحبّ رضا الريف لكنّه عاش في المدينة. وعندما اندلعت الحرب الأهلية، كان أصغر من أن يقاتل لكنّه كان أكبر من أن ينسى. استمع إلى صوت القنابل وإلى أغنية زياد الفنّان عن ارتفاع سعر الخس. وعندما كبر رضا المغمور وجد نفسه غير قادرٍ على تحمّل تكاليف الجامعة، فعمل في الحانات. كان يستمع لروّاد الحمرا يتبادلون أطراف الحديث بينما يقدّم لهم المأكولات والمشروبات. لقد عاملوه بنديّة، لكن بالمحصّلة، كانوا يتسامرون بينما كان هو يعمل، ويقودون السيارات بينما يسير هو على قدميه، ويسافرون بينما يعيش هو في الضواحي.

إلى أن جاء يوم عاصف في تشرين الأوّل، وشعر أن الحمرا أصبحت بيته الثاني. توقّف رضا المغمور عن الاستماع، وأراد أن يروي قصّته هو. لم يعد يريد أن يبقى مغمور الهوية. فسار جنباً إلى جنب مع المحتجين في الحمرا. أصبح الزبائن رفاقاً، وقاموا معاً بشتم السياسيين وتحدّوا الغاز المسيّل للدموع وتجنّبوا الرصاص سوية.

ستحرّرهم الثورة، أو هذا ما اعتقده. لكن بعد فترة وجيزة، بدأ يستمع مرّة أخرى إلى جدالات روّاد الحمرا حول كلّ شيء. فقال في سرّه: في الانقسام هزيمة. سئم رضا المغمور من الاستماع، فعاد إلى منزله والتزم الصمت. فقد إيمانه بروّاد الحمرا، لكنّه لم يفقد حبّه لريتا الثائرة.

ريتا الثائرة

منذ الصغر، كانت ريتا المتمرّدة قارئة نهِمة ومُحِبّة للنوم العميق. نشأت في المنزل وهي تستمع إلى مواعظ أبويّة عن الحياة الآخرة وتحلم بقصصٍ مثيرة عن الحياة الليليّة. كانت كرضا المغمور، أصغر من أن تقاتل في الحرب الأهليّة وأكبر من أن تنسى. ولكنّها كانت، على عكس رضا، قادرةً على تحمّل تكاليف الجامعة، ولو بصعوبة. كانت قادرةً على تحمّل تكاليف السفر، وإن بمشقّة. كانت من الجيل الضائع. أولئك الذين عاشوا بين الريف والمدينة، وبين التقليدي والحديث، وبين المحلي والعالمي.

كانت الحمرا كذلك مساحة ضائعة بين عالمين. نصف فقّاعة ونصف حقيقيّة. مزيجٌ من الأشخاص والأماكن التي يصعب العثور عليها في مكان آخر. كان للحمرا تاريخ. في الماضي طرد روّادها جنود الاحتلال من المقاهي، واستضافوا الشعراء الشباب في المنفى، وقادوا الانتفاضات الطلابية.

في الحمرا، كانت ريتا الثائرة تمضي نهارها في المكتبات وليلها على مقاعد الحانات. كانت تعلم أنّ الحمرا مثل جيلها، محاكاةٌ منقوصة  للماضي، وملجأ مؤقت للحاضر.

إلى أن جاء يوم عاصف في تشرين الأوّل، عندما أعيد إحياء أحلام الثورة. حوّلت ريتا القول الى فعل. وقفت في الخطوط الأمامية إلى جانب رضا المغمور، بدلاً من التحدّث أمام الكاميرا مثل بولا المدّعية، أو الكتابة في الصحف الرجعيّة مثل حازم المنافق.

اعتقدت ريتا للحظة أنّ الجدار سوف يسقط وأنّ رياض الجوكر سيُطرد من برجه الذهبي في الحمرا. لكن حيتان المال وأمراء الحرب والطوائف ردّوا بالعنف والانتقام. تضاءلت الحشود، وانسحب الراديكاليون من بين المتظاهرين، واحتلّ الصدارة أولئك التواقين إلى السلطة، ممن نصّبوا أنفسهم من الإصلاحيين.

توالت المصائب. تحوّلت الحمرا بعد الجائحة وانفجار المرفأ إلى برزخ. أصيبت ريتا بخيبة أمل ولكنّها لم تصبح غير مبالية. وبينما كانت تجوب الشوارع المتداعية بشكل متزايد وتبحث عن وجوه مألوفة، ضاق صدرها بالألم وملأت الشكوك عقلها. هل تبقى أم ​​تهاجر؟ لم تكن تعرف الجواب. ولكنّها كانت واثقةً من أمرٍ واحد. إنها تكره رياض وتشتاق إلى رضا.

****

على مدى ثلاثة عقود، تعايش أناس من أمثال ريتا ورضا ورياض في الحمرا. فعلى عكس الحال في وسط بيروت، لم يعاد اختراع الحمرا كمحاكاةٍ ساخرة لنفسها، خلال عمليّة إعادة إعمار لبنان بعد الحرب.

أغلقت العديد من المقاهي والحانات والمسارح والمكتبات الشهيرة أبوابها في الحمرا بعد الحرب. لكن مع مرور الوقت، افتُتح غيرها، وظلّت المنطقة ملتقى لجيلٍ جديدٍ من الصحافيين والفنّانين والكتاب والناشطين، وصارت بعد الانتفاضات العربية، ملتقى للاجئين السياسيين.

كما استمرّ الطابع اليساري والانتماء إلى الطبقة الوسطى لدى العديد من روّاد الحمرا بعد عمليّة إعادة الإعمار بعد الحرب، حتّى لو اكتسب هذا الطابع بُعدا ليبراليا، بسبب استبدال الأحزاب السياسية بالمجتمع المدني كإطار للنشاط والخطاب.

خلال فترة ما بعد الحرب، أدّى بروز المساحات التقدميّة في الحمرا إلى حجب الوجود الكثيف والتاريخي للمصارف الخاصة، و المصرف المركزي الذي يقع مقرّه في الطرف الشرقيّ للشارع.

لكن انتفاضة 17 تشرين أبرزت التناقض بين هذين الحيّزين، المالي والثقافي. اتّحد رضا وريتا ومن يشبهونهم من روّاد الحمرا ضدّ رياض، وضدّ السلطة التي يمثّلها. وانبثق من لحظة الاتحاد في الاحتجاجات وعدٌ بحمرا أكثر راديكالية يتمّ فيها التعبير عن سرديّة للصراع الطبقي تتخطّى طقوس أدائية، وتسعى لتعميم الموقف الراديكالي واستخدامه للتعبئة ضدّ سلطة المصارف.

بعد مضيّ ما يقارب الثلاث سنوات على الانتفاضة، لم يتحقّق هذا الوعد، وتلاشت حيوية الحمرا. وإن نجت بعض جيوب اللقاءات الاجتماعية والنشاط الثقافي، لكنّ الإحساس القويّ بالعلاقة الجماعية الحميمة لم يعد بعد.

الأهم من ذلك، أنّ أولئك الذين عايشوا الانتفاضة في شوارع الحمرا أدركو حدود تخيّل التغيير بمعزل عن الحقائق الصعبة خارج محيطها.

للإنصاف، ظهرت في الحمرا علامات الانحدار بشكل أوضح مقارنةً بأحياء أخرى مثل بدارو، التي باتت أشبه ببلدةٍ للمنظّمات غير الحكومية، أو مار مخايل، حيث يطغى اللون الواحد للنوادي الليلية، ممّا يعكس إحساساً عميقاً بالترابط بين الحمرا وبيروت على نطاق واسع. تُجسّد الحمرا تقلّبات بيروت. بهذا المعنى، فإنّ بشر الحمرا، بغضّ النظر عن مصيرهم، سيظلّون دائماً أحد المفاتيح الرئيسية لماضي مدينتهم وحاضرها ومستقبلها.

على خط النار يا ابن أمي

صورة لعمر الديوه جي: جسر الجمهورية، بغداد، خلال الاحتجاجات الشعبية ٢٠١٩
صورة لعمر الديوه جي: جسر الجمهورية، بغداد، خلال الاحتجاجات الشعبية ٢٠١٩

ما لا يشفيه الدواء تشفيه السكين . مالا تشفيه السكين يشفيه الكَي، وما لا يشفى بالكَي فهو غير قابل للعلاج.

_ أبقراط

 تلقينا اتصالًا من العيادة الخارجية لإبلاغنا بإدخال مريضٍ إلى قسم الجراحة.

“حالة حرق” قال المتّصل ملخّصاً الحالة، وتابع: “نجوى عبد الهادي، أنثى، في أوائل الثلاثينيات من عمرها، تمّ نقلها من مستشفى محلي مصابة بحروق تغطّي قرابة ٩٠٪ من جسدها إثر انفجار دبة غاز في منزلها”.

هرعنا، أنا ومحمد،  المقيمان الدوريان في الطابق، إلى الجانب الآخر من الجناح نحو مصاعد الخدمة وانتظرنا بفارغ الصبر والتوتر استقبال الحالة الجديدة. لم يكن قد مرّ أكثر من بضعة أيام منذ أن بدأنا، كلانا، بالمناوبة في قسم الجراحة في الطابق الثاني من مستشفى بغداد التعليمي، وهو أكبر مستشفى إحالة ومجمع طبي في العراق. أنهينا دراستنا الطبية قبل شهر واحد من الحادثة، في شهر أيّار 1997، وكانت هذه أوّل مهمة لنا كأطباء “حقيقيين”. لكن على عكس محمد الذي درس في كلية طب أخرى، كنت قد أمضيت السنوات الست الماضية من تدريبي في هذا المجمع الطبي التعليمي، ومع ذلك، كان هذا مضماراً جديداً بالنسبة لي، إذ لم أعد طالبا. كانت هذه ليلتي الأولى كـ”طبيب مناوب”، فشعرت ببعض القلق.

اعتاد الكثيرون منّا، من عايشوا حرب الخليج الأولى، مشهد الجثث المحترقة، حيث بات “الحرق” صورة شبيهة لتلك الحرب. أحد هذه الصور الشبيهة كان لجثّة الجندي العراقي المتفحمة، فيما عُرف بمجزرة “طريق الموت ” – حيث تعرّضت قوافل تقلّ آلاف الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت للهجوم من قبل الجيش الأمريكي بأسلحة اليورانيوم المخصب (DU).

صُمّم سلاح اليورانيوم المخصّب، وهو سلاح تمّ تطويره في الولايات المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، وتمّت تجربته لأوّل مرّة في ساحات القتال خلال حرب العراق، ليستعمل لحرق وإذابة الأسطح المعدنية السميكة للدبّابات والعربات المدرّعة المحصنة.

تمّ تصنيع رؤوس المدفعية من اليورانيوم المخصّب وطوّر لحرق سبائك الاليات السميكة من الداخل والخارج عند الاصطدام بها. صورةٌ أخرى من صور تلك الحرب، والتي شاهدتها بنفسي، كانت لبقايا هياكل عظمية متفحمة على الجدران الخرسانية داخل ملجأ العامرية الشهير، حيث قُتل ٤٠٨ شخص بعد قصف الملجأ باستخدام “القنابل الذكية”.

أطلق الطيارون الأمريكيون لقب “المطرقة” على هذه القنابل، وذلك لقدراتها التدميرية واسعة النطاق ولقوّة انفجارها. زرت ملجأ العامرية سنة ١٩٩١ بعد توقّف عملية القصف، وأذكر أنّني ترحمت على نعمة الموت السريع لضحايا الملجأ، حتى لا يتحملوا آثار النجاة من هذه المحنة الوحشية.

علاقة الطب باللحم المحروق علاقةٌ متعدّدة الأوجه. فالحرق هو علم من علوم الأمراض وتقنية شفاء في آن معا. يهتمّ الأطباء بجروح الحروق وقد طوّروا تخصّصات حول علاجاتها. من ناحية أخرى فإن استخدام الكي، كتقنية علاجية، هو أسلوبٌ قديمٌ يعود تاريخه إلى الإغريق ويستخدم على نطاق واسع في تقاليد العلاج المحليّة مثل الطب الغالينيكي والعربي، وكذلك في الجراحة الحديثة، إذ يتمّ استخدام تيارات كهربائية عالية تصعق بانتظام الأوعية الدموية أثناء العمليات للسيطرة على النزيف وإيقافه. كما تُستخدم تقنيات الكيّ الحراري أيضاً في علاج السرطان، جنباً إلى جنب مع العلاج الإشعاعي الذي يُطلق على الأنسجة لقتل الخلايا السرطانية والسماح للخلايا وللأعضاء بتجديد نفسها. يمكن للأطباء حالياً إدخال قسطرة رفيعة جداً عبر نظام الأوعية الدموية في الجسم، وتوجيهها إلى موقع الأورام الخبيثة الموضعية. بعد ذلك، يطلق أخصائي الأشعة كرات نانوية صغيرة عبر الأوعية الدقيقة “لحرق” الأنسجة السرطانية الموضعية بأقصى درجات الدقة. وقد وصف لي أحد أطباء العملية بأنّها أشبه بوضع “قنبلة نووية” صغيرة على الأنسجة المصابة.

يحتاج ضحايا الحروق إلى رعاية خاصة، فالجلد هو أكبر عضو في الجسم. وهو المسؤول عن تنظيم درجة حرارة الجسم وحمايته من العوامل الخارجية مثل المواد الكيميائية والبكتيريا. فالحرق مثل الجرح ، هو انفتاح محفوف بالمخاطر على العالم الخارجي. يتعرّض ضحايا الحروق الشديدة لخطر الإصابة بالجفاف، حيث يبدأ الجسم في فقدان المزيد من السوائل التي ترشح من خلال الجلد المصاب.

قد تنتقل العدوى عندما يصبح الجسم مكشوفاً. تمّ تصميم وحدات الحروق بأعلى المعايير الصحية للحفاظ على بيئة واقية، وتزويد المريض بالسوائل الوريدية، وتطبيق تقنيات مختلفةٍ للعناية بالحروق للحفاظ على نظافة الأجزاء المصابة.

يمكن أن تتحوّل الحروق الشديدة إلى ندوب وتقلصات، ويؤدّي قصور الجلد والعضلات إلى تشوّهات وتصلّب في حركة المفاصل، لذا يختار الأطباء زرع العضلات والجلد من أجزاء أخرى من الجسم لتسهيل استعادة القدرة الوظيفية والجمالية للجسد.

كان يوماً حاراً على غير المعتاد في حزيران. كنّا ما نزال على بعد أسابيع من أكثر شهور السنة حرارةً في العراق، والذي يسميه سكان بغداد ب آب اللهاب، حيث تصل درجات الحرارة إلى ٥٠ درجة مئوية احيانا. ومع اشتداد شمس الظهيرة يصبح الطابق خانقاً بشدّة في غياب التهوية والتبريد . وقد تمّ إيقاف نظام التكييف منذ ما يقارب السبع سنوات، إذ كان التكييف أحد ضحايا “عاصفة الصحراء” الأمريكية في العام ١٩٩١ وما تبعها من عقوبات الحصار.

يسعى المرضى ومن يرافقهم وطاقم المستشفى جاهدين للحصول على نسمة هواء من نوافذ الطابق المفتوحة لكن من دون جدوى. أحضرت عائلة أبو علي في الغرفة رقم ٥ “بنكه”، مروحة كهربائية خاصة بهم، بينما حوّلت شقيقة سعاد في الغرفة رقم ٧ ملفّات المستشفى إلى مروحة يدوية. لطالما شعرت في مثل هذه الأيام، أنّني أريد أن أخلع ثوبي الطبي وأقوم بجولاتي من دونه. وأنّي سألجأ في فترة الاستراحة إلى الابتكار العراقي، تماشياً مع انعدام الموارد في ظل العقوبات، وأن أشتري كمية ضخمة من الثلج، لأفراغها في خزانات المياه الموجودة على سطح المستشفى، وأغطس فيها لساعات، مستذكراً نكتة رائجة تقول: “بحرارة مثل هذه لا عجب أنّ العراقيين لا يخشون نار جهنم!”.

فُتح الباب، فرأيت فرحان، العامل الذي يشغل المصعد المهترئ بالمستشفى يدويّا، يحاول بمساعدة ممرّض الطوارئ عدنان تحريك “السدية”، نقالة المرضى، من باب المصعد من دون الاصطدام بجانبيه. كان الممرّضون في غرفة الطوارئ قد حولوا الشرشف الى خيمةً فوق جسدها لحماية جلدها المتضرر. بدى الشرشف بلونه الأبيض الباهت وبقعه الصفراء غير نظيفا على الرغم من أنّ رائحة مسحوق الغسيل الرخيص المستعمل لا تزال تفوح منه، كان من الواضح أنّ مدّة صلاحية هذه الملاءة قد انتهت.

لم تكن المستشفى تحتوي على وحدة حروق متخصصة، فهذه الوحدات حسّاسةٌ للغاية لناحية تشغيلها وصيانتها. وبالنظر إلى ما آلت إليه حالة الرعاية الصحية في العراق، أصبح المستشفى بأكمله بيئة تنطوي على مخاطر كبيرة للمرضى. صارت معظم معدّات الحجر الصحي والتعقيم والتطهير غير فعالة أو توقّفت عن العمل. كان الأطباء يعيدون استخدام القفازات والإبر أُحادية الاستعمال ولم يكن لدينا مياه نظيفة ولا مطهرات كافية. وكبديل عن غياب قسم مخصّصٍ للحروق، اختار طبيب الدخول عزل نجوى في طابقنا “العادي”. في وقت كانت كلّ غرفةٍ في الطابق تستوعب ٦ مرضى في العادة، كانت نجوى “محظوظةً” لعزلها في غرفة بمفردها.

استغرقني الأمر بعض الوقت للتكيّف مع مشهد الجسد المحروق من الرأس إلى أخمص القدمين، تم كشط طبقة من بشرة نجوى السمراء، تاركة غلفها بقع حمراء وسوداء من الجلد المحترق بلون الرمان المتعفّن. كان يصعب التعرّف على وجهها لشدّة تشوّهه. التهمت النيران معظم شعرها، بما في ذلك شعر الحاجبين.

حاولنا أنا ومحمد عبثاً على مدى أسبوعين التعامل مع حروق نجوى وتخفيف آلامها. نادراً ما تحدّثت نجوى إلينا، كانت قلقة ومعذّبة طوال الوقت، وفي حالة مستمرّة من الشكوى والصراخ من شدّة الألم والغضب، وكانت أحياناً تعبّر عن نفسها من خلال كلمات غير متماسكة ولا مفهومة. وكآنها تحاول إخبارنا قصة لم يفهمها أحدٌ منا، أو ربّما لم يكن أحد منّا مهتماً بالاستماع اليها. كنا مهتمين بشكل أساسي بإبقائها حيّة ومخدّرة وبإبقاء جلدها رطبا ونظيفا.

تناوبنا أنا ومحمد على العناية بجسدها يومياً وغسله بالماء والصابون، وتغيير الضمادات، واستبدال الخط الوريدي حالما تظهر عوارض الالتهاب على الجلد المحيط بالإبرة. استخدمنا كلّ مضادٍ حيوي تمكّنا من الحصول عليه لتعزيز قدرة جسدها على المقاومة.

لم يزر نجوى أحد سوى شقيقها أحمد. علمت أنّ لديها ثلاثة أطفال، غير أنّني لم أرهم قط، ولم أقابل زوجها كذلك. كان أحمد صيدلانيّاً وكان يزور القسم ويخرج منه كل يوم. كان مفجوعا، يقضي ساعات بجانب أخته. لم يكن يغادر سوى ليحضر لها الدواء ويعود. دأب أحمد على تأمين مستلزمات علاجها يوميّاً رغم ندرة المستلزمات الطبية في المستشفى، إذ كان يأتي كلّ صباح ومعه كيس مليئا بالأدوية والمستلزمات الطبية والتي كان يحضرها من صيدليته الخاصة أو يشتريها من السوق السوداء.

وصلت صباحاً إلى المستشفى لأستلم المناوبة عن محمد الذي كان مناوباً في الليلة السابقة، فوجدته وقد أنهى جولاته التفقدية الصباحية. مشينا معاً وأخذ يطلعني بآخر المستجدات. قال: “ماتت نجوى الليلة الماضية” بصوتٍ حزين.

كان وقع الخبر ثقيلاً عليّ لكنّه لم يكن صادماً إذ كنّا نتوقّع حتميته. عانت نجوى من حمى لا يمكن السيطرة عليها خلال الأيام الثلاثة الماضية. وقد بذلنا، كلانا، الكثير من الجهد لرعايتها. كانت هذه العلاقة سريعة الزوال مع المرضى شيئاً اعتدنا عليه كأطباء بشكل عام، وكممارسين للمهنة يعملون في مثل هذا المكان الشحيح بالموارد والمستلزمات بشكل خاص.

صادفت محمد بعد أسبوع في الممر، فاستحضر ذكرى نجوى للمرة الأخيرة: “هل تعلم أن حروق نجوى لم تكن بسبب حادث؟”، سألني وهو يحدق بي بفضول، ثمّ تابع: “لقد أحرقت نفسها، حاولت الانتحار!”. فجأة أصبح كلّ شيءٍ منطقيّا. كان حرق النفس طريقةً شائعةً جدّاً للانتحار في العراق، خاصةً بين النساء. تابع محمد: “لو علمت بذلك حينها، لما بذلت كلّ هذا الجهد لعلاجها. ما فعلته مناف لشرع الله ومخالف لمشيئته… هذا حرام!”.

كنت أعلم أنّ محمد هو شخص ملتزمٌ دينيّاً، لكنّ وقع كلماته عليّ كان اشبه بالقنابل التي قصفت الملجأ بلا رحمة. خضنا جدالاً محتدماً ، ولم نتوصل إلى أيّ نوع من التفاهم آو أن نجد نقطة التقاء في مواقفنا المتعارضة.

كان دوري في المناوبة ليلتها، فقمت بجولاتي التفقدية وأخذت استراحة لتناول العشاء، ثمّ عدت إلى غرفتي في الطابق.

في تلك الليلة، نمت مثل الأطفال.

* مقتطفات من مخطوطة كتاب بعنوان “عندما تسافر الجراح: بيئات الحرب والرعاية الصحية شرق المتوسط”


“أن أخنُقَ الشمس” لعمر الديوه چي
مستوحاة من كتاب “يوم القيامة العربي” الشعري لإيتيل عدنان
أُديّت وسُجّلت مرّة واحدة في ٢٨ حزيران ٢٠٢٢
صوت: راوية الشاب. ماسترينغ: زياد مكرزل

رسالة ثانية ضد اللغة (إلى شون بوني)*

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢
العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢

هناك أسماءٌ لا يمكن نطقها، وبالرغم من ذلك لا يمكن أن يحدث تبادل من دونها. كلماتٌ مُخيفةٌ تدور في اقتصاد كاملٍ من الأصوات التي تُسكِتُ نفسها بنفسها. هناك طريقةٌ واحدةٌ لإبطال سحر هذه الكلمات، ألا وهي الصراخ بها وليس نطقها. الصراخ إلى حدّ تمزّق الحناجر. عندها فقط يمكن للآذان أن تنتبه إلى الهمهمات المحيطة بها، والتي لم تكن تسمعها من قبل. إنّها همهمات من ماتوا وهم يقاتلون كلمات السلطة المخيفة. همهماتٌ لا تزال تنبعث من الشروخ التي أحدثها موتهم بين حروفها. ب ش ا ر. ب ش ي ر. كلّ فجوة حياةٌ كاملة أصبحت ممكنة مرّةً أخرى. عالمٌ مشحوذ الحواسّ، يمتدّ من بلاد الموتى إلى بلاد الأحياء، ومن بلاد الأحياء إلى بلاد الموتى.

حرف علّة

أسيرُ بحذاء قناة لاندفير وأنا أردّد جملَتك في الظلام: “when a specific distortion in the vowels is achieved we can hear heaven”. أسيرُ كما سرتَ أنت بحذاء القناة نفسها، وأنت تردّد بصوتك جمل من ماتوا. رامبو، ماركس، انجبورج باخمان، هيجل، بازوليني، شيلي، وليام بليك، أنيتا بيرجر، هوجو بَل، ديانا دي بريما، ارنست بلوخ، إيما جولدمان. تُعيرهم صوتك، أو تستعيره منهم. تظلّ تردّد جملهم حتى يتكسّر صوتك، فتحمل كلّ شظيّةٍ إلى طرفٍ من أطراف المدينة، وتخفيها هناك، كلعنةٍ أو تعويذة. كحرف علّةٍ قد يمكنه أن يُعيد الحياة إلى المدينة الميتة.

“تشكيل الحواسّ الخمس هو عمل تاريخ العالم بأكمله وصولاً إلى اللحظة الحاضرة”. هل كانت هذه هي جملة ماركس التي كنتَ تفكّر فيها، عندما فقدتَ صوتك في شارع سيباستيان ذات يوم وأنت تردّد سطراً قرأته عند الشاعرة موريل روكايزر؟ يقول هذا السطر: “الهزيمة تعيش بيننا، والحرب، والنبوءة”. ظللتَ تصرخ بذلك السطر متجاوزاً كلّ صوتك، وكلّ جسدك، وكلّ حدودك. لكنّك لم تكن تصرخ كنبيٍّ يحمل نبوءة، وإنّما كنت تصرخ وأنت تفكّر فيما يحدث عندما تتزعزع الحواس الخمس. إذا كان تشكيل الحواسّ هو عمل التاريخ، كما قال ماركس، فإن هذا العمل الجماعي للماضي لا يمكن أن يظهر للعيان سوى في اللحظة التي تُشحذ الحواسّ الفرديّة فيها إلى أقصاها، كما فعلت أنت. ففي هذه اللحظة ينحرف الماضي عن مساره، ويدخل مجال الحاضر فجأة، مصطدماً به في النقطة المناسبة لانبعاث شرارة المستقبل. عند هذه النقطة بالضبط قد ينحرف حرف علّة عن صوته المعتاد، محدثاً اهتزازاتٍ غير مسموعة.

العلّة في اللغة هي المرض، وهي السبب، كما تقول المعاجم. علّة الأمر ضعفه، وسبب وجوده في الوقت نفسه. والفعل المعتلّ هو فعلٌ يتغيّر تغيّراً مفاجئاً عندما يُصرّف لغويا. كأن تنقلب ألفه واواً مثلا، أو واوه ياء. الفعل المعتلّ، أي الذي تكمن في علّته إمكانيةُ تعبيره، هو الفعل الذي يمكن التعويل عليه في التغيير والتغيّر، لأنّه يستمدّ قوّته من قلب ضعفه. الثورة بهذا المعنى هي فعل معتل. والشعر أيضاً فعلٌ معتل، يراوغ ويختفي، ويظهر في اللحظة المناسبة، حيث لا يتوقّعه أحد. حروف العلّة التي سمعتَها أنت في شعر رامبو كانت حواساً انحرفت وتجاوزت نفسها بفضل “الزعزعة الطويلة المنظّمة” التي يقوم بها الفعل الشعري. حروف العلّة هذه سمعتَها تقول من الماضي: “أنا آخر”. وعثرتَ فيها على برنامج من أجل “هدم الذاتيّة البرجوازية”. هذا الهدم هو أيضاً فعلٌ معتل، لأنّه بحاجةٍ إلى دهاء حروف العلّة، لا إلى قوّة الحروف الساكنة وحدها. اللغة بحاجة إلى حروف العلّة القادمة من الماضي، لتصبح لغةً متصدّعةً لا تقبل بما يُقال فيها، ولا ترضى بما يُعطى إليها. لغة معتلّةٌ تقاوم لغة الهُلام المهيمنة.

أسيرُ بحذاء قناة لاندفير التي كنتَ تسير بحذائها، بعد أن التحقتَ أنت بركب الموتى. أسيرُ في ساعة من ساعات اليوم المخفيّة، والتي لا يمكن للشيطان أن يعثر عليها، ولا الشرطة، كما قلتَ في رسالتك “We Are The Dead”. أسير وأُفكّر في حروف العلّة. في رواية أوكتافيا بتلر “نَسَب” تعيش بطلة الرواية دانا، وهي كاتبة إفريقيّة أمريكيّة، في سبعينيّات القرن العشرين. تصيبها نوباتٌ غير مفهومة، فتجد نفسها تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر في رحلاتٍ متتالية. في كلّ رحلة إلى الماضي البعيد تجد نفسها تنقذ جدّ جدّها، صاحب مزرعة العبيد، والذي اغتصب جدّة جدتها، وباع نسلهما عبيدا. وفي آخر رحلاتها تعرّضت دانا لمحاولة اغتصاب على يد ذلك الجدّ، واستطاعت أن تعود بشقّ الأنفس إلى الحاضر، بعد معركة داميةٍ معه، طعنته فيها وهربت. لكنّها خلّفت ذراعها في الماضي، بعد أن انحشر في جدار غرفتها الذي تخترقه في كلّ رحلةٍ ذهاباً وإيابا. عادت دانا إلى الحاضر مبتورة الذراع، فأصبح لها يدان، يدّ تكتب في الحاضر، وأخرى تعمل في الماضي. يد الماضي تعمل مثل أيدٍ كثيرةٍ غيرها في مزارع تجار العبيد. تعمل في الحقل، أو في المطبخ، أو تعلّم الأطفال الصغار. دانا تقاتل الجدّ تاجر العبيد بيد، وتكتب كتباً في الحاضر بيدٍ أخرى. لعلّ حرف العلّة يشبه دانا. فهي أصبحت جسداً موجوداً في زمنين معاً، لها يدّ تكتب في الحاضر، وأخرى تعمل في الماضي. حضور غير متزامن، يظهر فقط عندما يصطدم مدار الماضي بالحاضر. وبفضل ظهوره يتجلّى عمل الماضي، الذي لم يكفّ يوماً عن العمل في قلب الحاضر. عمل الماضي هو المحاولات المتكرّرة لأصحاب الأيدي المأسورة من أجل الفكاك من الأسر. وحرف العلّة هو هذا الماضي الذي لا يريد أن يترك الحاضر على حاله أبدا.

أحجار

شُقّت قناة لاندفير في القرن التاسع عشر بموازاة نهر شبريه الذي يقطع مدينة برلين من شرقها إلى غربها. الهدف منها كان تسهيل نقل البضائع القادمة إلى المدينة. بضائع كثيرةٌ تدخل المدينة كلّ يوم، موادٌ خام للمصانع، سكّر، تبغ، قهوة. بضائع قادمةٌ من الموانئ. جلبتها السفن عبر البحار من المستعمرات. تتدفّق المياه اليوم بهدوءٍ وسلامٍ عبر مجرى القناة، ويجلس المتنزّهون والمتنزّهات في استرخاء على ضفافه العشبيّة، يحيط بهم البط والبجع. لكنّ المشهد المسالم لهذه القناة يخفي داخله عنفاً سقطت ضحيّته جثثٌ كثيرة. فهذا المجرى المائي لم تصنعه الطبيعة، وإنّما صنعه عمل كثيرين. وأثناء العمل على حفر القناة، وفي خضم ثورة ١٨٤٨، قُتل الكثير من العمال الذين احتجّوا على ظروف عملهم. وبعد أشهرٍ من اشتعال شرارة ثورة ١٩١٨/١٩١٩، قُتلت روزا لوكسمبورج وأُلقي بجثّتها في القناة. هناك أيضاً جثثٌ أخرى كثيرة، لم يسجّلها كتاب التاريخ. جثثٌ التصق كدحها القسري بالبضائع المنقولة، وبقي ذائباً في ماء القناة حتّى اليوم. وجثثٌ أخرى لفظتها حياة المدينة. القناة المائيّة هي مجرى يحمل معه تاريخاً كاملاً من العنف ومقاومته. هذا التاريخ ليس صامتاً كما يبدو. إذ ينجح صوته أحياناً في اختراق الهُلام الذي تسبح فيه حواسنا. سمعتَ أنت ذلك الصوت الذي اخترق كثافة الهلام وأنت تسير على ضفاف القناة ذات يوم، وظللتَ ترقص عليه أياما.

الهلام هو كتلة جيلاتينيّةٌ ضخمةٌ تتكوّن من نتف ونسائر وأيدي وآذان وأعين ممزقة ومنتزعة من أزمنة وأماكن كثيرة، كلّها عملت وكدّت حتى هلكت، ثم عُجنت جيداً حتى أصبحت هلاماً لا يكاد يُبقي لها على أثر. أصبحتْ عملاً ميّتا. في هذا الهلام السامّ تسبح حواسنا دائما، حتّى يحدث أن يخترقه فجأةً صوتٌ أو مشهد. حدث لك ذلك وأنت تكتب قصيدتك “Letter Against The Language”، وحدث لي ذات يوم وأنا أجلس على ضفة قناة لاندفير، يائساً من جدوى الكلام مع البشر. كنت أجلس في النقطة التي تلتقي فيها القناة بالنهر في أقصى الشرق، متذكّراً من يقبعون في السجون بسبب كلامهم، عندما خرجت عليّ يد ابن المقفّع من الماء. لمستُها وتأكّدتُ من وجودها. كانت أصابعها نحيلة، يعلوها لون أزرق، وتتدلّى نسائر اللحم من موضع بترها. لا تعرف ابن المقفّع؟ هو كاتب عاش قبل أكثر من ألف عام. استطاع أن يسمع كلام العجماوات، ثم ترجمه إلى العربية في كتابٍ يُدعى كليلة ودمنة. كتابٌ خفيف الروح، وصل إلى قلوب قرّائه وأضحكهم. وبلبلهم أيضا، إذ جعلهم يعيدون التفكير في حياتهم المشتركة. لكنّ اللغة التي زُعزِعَت للتو، لا ترحم بعد أن تستعيد توازنها. حرف العلّة الذي يُدعى ابن المقفّع، والذي تحدث مع غير البشر، مات ميتةً بشعة. فقد قُطّعت حواسّه: يده، لسانه، أذنه، عينه، وأُلقيت جميعها أمامه في أتّون مستعر. مات ابن المقفّع وظلّت ضحكته وصرخته تسكنان اللغة العربيّة منذ ذلك الحين. أصبحتا الآن بالتأكيد حرف علّة جديد. وعلى من يأتون بعده أن يبحثوا عن ذلك الحرف ويستمعوا إليه.

أيّ أنا هذه التي يمكن أن يتحدّثها من تمزّقت حواسه؟ الشاعرة فرانسيس كروك تقترح ذاتاً تسميها “الأنا المتصدّعة”. تؤدّي هذه الأنا الوظيفة الأساسية للصوت الشعري. فهي ذات متكلّمة وحرف علّة معا. أنا معتلّة. صوتها هو تهشّم الأصوات المتماسكة. والصدوع في هذه الذات هي الفراغات المجازية الضئيلة التي يتسرّب عبرها تاريخٌ كاملٌ من العنف. تاريخٌ ليس كلّه بالضرورة تاريخاً شخصيّاً. هذا التاريخ يُعالَج، ثم يُخفق جيّدا، ثم يُقذف به إلى العالم مرّةً أخرى على شكل قصائد. التاريخ (الميّت) يطلّ عبر عمل الأنا المعتلّة. وعملها هو إعادة الموت إلى اللغة، واستحضار الأشباح فيها، والدفع ضدّ كلمات السلطة المخيفة.

قناة لاندفير مسكونةٌ بالكثير من تلك الأصوات المعتلّة. وصلتَ أنت إليها قادماً من لندن بعد احتجاجات الطلبة هناك. قد تكون قد جئتَ هرباً من الجنون، أو من الإحلال الطبقي في مدينتك. أو هرباً من الهزيمة، أو من السموم التي تُبثّ يومياً في الهواء وتقتل الحواسّ. فهذه هي الأسباب المعتادة لمن يأتي لهذه المدينة. حرف العلّة الذي يُدعى شون أو بوني، أو إيما، أو إرنست، عاش في برلين في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ودرس السحر واليوتوبيا وصناعة الأسلحة، ومات قبل أن ينصرم ذلك العقد، تاركاً هذه المدينة كما وصل إليها… مدينة هاربين. يصلون إليها كأمواج، تتشكّل من جديد عند كلّ منعطفٍ تاريخي. موتى لا يريدون دفن موتاهم. برلين هي خريطة للأمل والانكسار. مجموعة نجميّة نشأت بالصدفة، على تخوم ثقبٍ أسودٍ قديم. لكنّها أيضاً مدينةٌ أطبقت فيها لغة الهلام على كل شيء. فهي كذلك خريطةٌ للفاشيّة الجديدة والإحلال الطبقي. في حي نويكولن أحرق الفاشيون الجدد مؤخّراً سيارات المهاجرين، ومحالهم ومقاهيهم. وفي شوارع ليبج وريجا وفايزه شنّت الشرطة حملات دمويّة جديدة لإخلاء منازل ومقرّات الفوضويين، وسحق مقاومتهم. في شارع أدالبيرت يأس موسيقيٌّ عجوزٌ من العثور على غرفة مناسبة يستطيع دفع إيجارها، بعد أن طردته صاحبة البيت، فانتحر. رأس المال أحكم قبضته على بنايات المدينة، وأُلقي بعائلاتٍ بأكملها في الشوارع لأنّهم لم يعودوا يستطيعون دفع الإيجارات. والشوارع الباردة التي تلقّفتهم أصبحت ماكينات لاستنساخ عمل الحواس وليس لزعزعتها.

في هذه المدينة يمكن لحروف العلّة أن تموت. وحروف العلّة إذا ماتت، أو قُتِلَت، أضحت أحجارا. وأنتَ تعرف بالتأكيد من دراستك أنّ الأحجار تصلح أيضاً أن تكون سلاحا. سلاحٌ قد يكون الزمن تخطّاه، لكنّه لا يزال صالحاً لإعطاب القناة الهضميّة الكبيرة التي ابتلعت كلّ شيء. الأحجار يمكن أن تكسر أسنان من يقضمها، ويمكن أن تنشّف ريق من يبلعها، وأن تلبّك أمعاء من يهضمها. الأحجار سوف تهشّم النوافذ، وسوف تضيء الليالي المظلمة عندما تنقطع الكهرباء. الكتل الإسمنتية سوف تقطع الطرقات. الحصى الأملس سوف يتسلّل عبر فتحات أجهزة الـ ATM ويبقى عالقاً هناك. والمذنّبات الساقطة سوف تهتزّ بتردّداتٍ قادمةٍ من نجومٍ ماتت منذ وقت بعيد، وتوقظنا من ظلام غرفنا. نحن؟ من يعيشون في قلب هذه القناة الهضميّة المُهلِكة. من اختُطفت حواسهم، من أعشت أضواء سيّارات الشرطة أبصارهم، من صمّت موسيقى الأيّام آذانهم، من اعتلّ كلامهم بسبب موت حروف العلّة. من يسيرون بحواس منفيّة في سجن بعيد، أو منقوعة في هلام كثيف.

نحن؟

ديوانُك الأخير أسميتَه Our Death. لكي نقول “موتُنا” علينا أولاً أن نتعلّم أن نقول نحن. لكن ما هي هذه النحن التي يمكن أن تجمع أحياءً بأموات؟ بشراً بغير بشر؟ أيّ نحن هذه التي يمكن أن تجمعنا أنا وأنت من دون أن تسحقنا في الهلام من جديد؟ أين هي النحن التي يمكن أن تتّسع لكلّ هؤلاء الغرباء؟ لكلّ هؤلاء المهزومين؟ لكلّ هذه الأشياء؟ لكلّ هذه الحواس؟ ما هو شكل هذه النحن التي لا هي أنا واحدة كبيرة يذوب فيها الجميع، ولا هي نقيض الأنا؟ إذا كانت هناك إمكانيّةٌ لوجود مثل هذه النحن، فإنّ المكان الوحيد الذي يمكن العثور عليها فيه هو اللغة.

كتبتَ ذات مرة: “speak the language of the dead”. ولكي نتعلّم لغة الموتى علينا أن نزعزع آذاننا، لأنّ كلمات هذه اللغة غير مسموعة، أو صاخبة حدّ الجنون. الكلام فيها لا يُقال في كلمات، وإنّما يزحف عبر حطام الكلمات. لكي نتعلّم لغة الموتى علينا أن نتعلّم الكلام بضمير النحن. لكن هذا الضمير ليس كلمة يمكن أن تُوضع على اللسان، بل لا يمكن النطق بهذا الضمير سوى عندما ينقطع اللسان، ويتصدّع ضمير الأنا الذي تتكلّم به لغات الأحياء. فقط عندما أُصبح “أنا” حرفَ علّة، يمكن ساعتها أن أقول نحن. نحن؟ ما ينزّ عبر الشقوق. من حاولوا ولم ينجحوا. من قاوموا ولم ينتصروا. من جاءوا من المستقبل. نحن؟ ١٦٦٢. ١٩٦٨. ١٧٧١. ٢٠٢٠. ١٨٣٠. ٢٠١١. ١٨٥٠. ضمير نحن لا يُحيل إلى جماعةٍ ممكنةٍ، وإنّما إلى أخرى مستحيلة، تطلّ من انهيارات الأولى. فنحن دائماً جماعةٌ من الأحياء والموتى. جماعةٌ ليست حاضرةً أمام حواسنا، بل جماعةٌ مُستبعدةٌ منها، وبحاجة إلى جهد وعمل، وزعزعة طويلة ومُنظمة للحواس حتى تظهر. علينا أن نَخرُجَ من النحن الممنوحة لنا، حتى نتمكّن من رؤية النحن التي نشترك فيها. أو نشكّلها إذا لم تكن موجودةً بعد.

لا يمكننا إذن الكلام بضمير الجمع سوى في لغة الموتى، لأنّ كلمة نحن فيها ليست مجرّد ضمير يتحدّث بلسان جماعة. أن نقول نحن يعني أن نقول نحن الأحياء الذين تخترقهم مطالب الموتى. يعني أن نتعلّم لغةً مستحيلة. والمستحيل هو المستقبل الذي حَلُم به من رحلوا، ولم نتمكّن، نحن من جئنا بعدهم، من أن نحقّقه. هناك ضرورةٌ ملحّة لتعلّم تلك اللغة ومعها النحن التي تسكنها، وإلّا ذهب عمل الموتى سدى. إنّ عملهم الذي بذلوه وهم يقاومون الهلام، قد ابتلعه الهلام. ولا يزال يعمل هناك.

لكنّ عمل الموتى يقاوم تجمّده على شكل عملٍ ميّت، يُدعى رأس المال. ماركس تعلّم ما هو العمل الميّت وهو يصغي إلى لغة غير الحيّ. فإذا كان الاقتصاد السياسي هو لغة الأحياء، كما تحدّثوا مثلا على لسان آدم سميث، فإنّ نقد الاقتصاد السياسي هو تعلّم لغة الموتى. ماركس أصغى لكلام السلع بينها وبين بعضها، وتعلّم منه الفارق بين العمل الحيّ والعمل الميّت. تعلّم منه ماذا تعني القيمة، وماذا يعني فائض القيمة. تعلّم ماركس أن السلع تتوسّط العلاقة بين البشر، مثلما يتوسّط البشر العلاقة بين السلع. يدّ السوق غير المرئيّة عند سميث، والتي تُحضّر العشاء إلى مائدة البرجوازيين بفضل انشغالهم بمصالحهم الفرديّة فحسب، هذه اليد هي عند ماركس يد عاملٍ مُستلب، تظلّ تعمل حتّى وهي ميّتة.

اللغة المستحيلة هي لغةٌ أخرى غير لغة الهلام الذي يسحق كلّ شيء. هي بالضبط لغة ما سُحِق في هذا الهلام من أيدٍ وحواسٍ ولحمٍ وعظم، ولا يزال يعمل هناك. لغةٌ معتلّةٌ بسبب تاريخ العنف، ولذلك قد تصلح أن تكون أقوى سلاحٍ ضده. ليست لغة، وإنّما ل غ ة. لغةٌ ليست موجودة، ولا قواميس لها. تلمع كلماتها فقط عندما تحترق كل لغاتنا الحيّة. لعلّ هذه هي اللغة التي علينا أن نتعلّمها حتى يمكننا أن نعيش سويّا.

لم يتم إرجاع الاقتباسات في هذا النص إلى مصادرها عملا بنصيحة شون بوني الذي كتب في نهاية ديوانه رسائل ضد السماء: “يحتوي العديد من هذه القصائد […] على اقتباسات مُجهّلة المصدر، وذلك وفقا لتقليد في الموسيقى الشعبية يُدعى في بعض المناطق “أغنية الوقواق”، حيث يقوم المغنّون بنثر كلماتهم فوق كلمات أيّ أغنية تعنّ لهم، صانعين بذلك نسيجاً أو كولاجاً تفقد فيه الذات الغنائيّة كيانها المنفصل، وتصبح عوضاً عن ذلك كياناً جماعيّا. كيان جماعة مناهضة، تمتد إلى الأمام وإلى الخلف، عبر أزمنةٍ معروفةٍ وأخرى غير معروفة. ستبقى مصادري مُجهّلة، تماما مثل الأغاني القديمة الُملهمة لعملي. وقارئي المثالي سيعرف بعض هذه المصادر، إن لم يكن معظمها”.

جزيل الشكر لكل من ساهموا في كتابة هذا النص: شون بوني، آرتور رامبو،كيستون ساذرلاند، روزا لوكسمبورج، كارل ماركس، عبد الله ابن المقفع، سيدريك روبنسون، فالتر بنيامين، سيلفيا وينتر، سي إل آر جيمس، اوكتافيا بتلر، إيمي سيزير، ملادن دولار، فريد موتون، كوجو إيشون، اميري باراكه، سويرج.


* عنوان هذا النص يلتقط الخيط من عنوان قصيدة شون بوني “رسالة ضد اللغة”، والمنشورة في ديوانه الأخير “موتُنا” الصادر عام ٢٠١٩. شون بوني Sean Bonney (١٩٦٩ – ٢٠١٩) هو شاعر أناركي، وُلد ونشأ في بريطانيا، ثم “فرّ” منها، وعاش آخر سنين حياته القليلة، في مدينة برلين. يستمع بوني في شعره كثيرا إلى الموتى، ويهتم بإيجاد أشكال أدبية للصراعات الاجتماعية التي أودت بهم. في قصيدته الطويلة “رسالة ضد اللغة” تصل أنا متكلمة إلى مدينة جديدة، لا يمكنها نطق كلماتها، ليس لأنها لا تعرف اللغة الجديدة، وإنما لأن كلمات السلطة بحاجة إلى سحر مضاد لنطقها. وتستحضر القصيدة طيف بازوليني الذي يقول في إحدى مقالاته الأخيرة إن تلك الأشياء التي “لا يمكن التعبير عنها” هي أسماء. “أسماء من قاموا بالمذابح”. هذه المدينة الجديدة التي وصلتها الأنا المتكلمة في القصيدة هي المدينة نفسها التي وصلتها الأنا المتكلمة في هذا النص. أنا متكلمة، وكاتب وكاتبة، وصلوا جميعهم إلى المدينة في أوقات مختلفة، وفي لحظات تاريخية مختلفة، ولأسباب مختلفة. وصلوا إلى مدينة برلين، التي أصبحت بمرور الوقت مأوى للكثير من الفارين من الهزائم واستحالة الحياة. ولم يكن لهذا النص أن يكتب في مدينة أخرى سواها، حيث تعرفت كاتبة النص وكاتبه لأول مرة على شعر شون بوني بعد موته. والكثير مما يرد في هذا النص هو محاولة لالتقاط خيط الكتابة من نصوصه، أملا في الحفاظ على الخيط الضعيف الذي يربط مستقبل الأحياء بماضي الموتى. 

على أرصفة بيروت

العمل الفني: ألين ديشامب, "التحديق في شاطئ الرملة البيضاء للمرة الأولى" مقتطف من سلسلة "أنا لست حيوانك" تصوير فوتوغرافي. 2021

ترجمة: حسين ناصر الدين

أحدّق به ويحدّق بي، أبتسم ثم أعبر بجانبه. أمشي خطواتٍ قليلةً قبل أن أستدير لأرى إن كانت نظراته لا تزال مثبّتةً عليّ. عندها يشير إليّ ولصديقي بالسرّ أن نقترب نحوه، فيما تعلو وجهه ابتسامة عريضة يعلوها شارب مشذّب بعناية – ذاك الشارب الذي كان شائعاً لدى الرجال في سوريا في أواخر التسعينيات، والذي لا يزال يزيّن وجوه بعض الرجال في سوريا والعراق حتى اليوم. كنّا أنا وصديقي نسير على الكورنيش غربا، كانت الساعة الثامنة إلّا ربع، وكنّا لا نزال بالقرب من مسجد عين المريسة. كان علينا أن نسرع في مشينا لكي نلحق موعد العشاء الذي دعينا إليه في المنارة عند الساعة الثامنة، كان علينا أن نسرع الخطى، ولم تكن دعوة ذاك الرجل الوسيم لنا جزءاً من خطّتنا لتلك الليلة.

أكملنا مشينا على الرصيف الواسع، ومررنا قرب العائلات التي تأركل تحت يافطةٍ لبلديّة بيروت كتب عليها “ممنوع الأراكيل”، ثمّ مرّت من قربنا عداءةٌ بلباسٍ وعتادٍ كاملٍ من ماركة lululemon. كانت أسرع منّا، نحن الذين نمشي مسرعين. ننظر إلى الصيّادين الواقفين في أماكنهم المعتادة، قرب ميناء الصيد القديم، متسائلَيْن عمّا (أو عمّن) سيصطادون الليلة. نخفّف من سرعة مشينا قرب الصبية الذين يترامون على رؤوسهم (أو بطونهم) من سياج الكورنيش إلى البحر. كم يبلغ ارتفاع هذه القفزة؟ عشرون متراً ربّما؟ تسألني الصبيّة الجالسة على الأرض ورضيعها في حضنها إن كنت أريد أن أشتري العلكة منها، كما كلّ مرة، لأجيبها “غير مرّة”.

كما أنا، صديقي فلسطينيّ الأصل، لكنّه عاش مثلي أغلب حياته في الخارج، أردت أن أشرح له كيف “يزبّط” الشبان بعضهم البعض على هذا الرصيف الواسع في المدينة، مغتنماً أصوات الموج الهائج، وزحمة السيارات التي حجبت أصواتنا وأعطت حديثنا القليل من الخصوصية.

نقطع أنفاسنا حين نمرّ قرب المجرور الذي يرمي أحماله في الماء مباشرةً، محاولين أن نقنع أنفسنا بأنّ المياه الخارجة منه ليست سوى مياه العاصفة، لكنّ الرائحة لا تترك لنا مجالاً لكيّ نصدّق ما نقول. كنّا في أواخر الشتاء، ولم يكن شاطئ الجامعة الأمريكيّة قد فتح أبوابه رسميّاَ ككلّ عام، لكنّنا عمدنا حين مررنا قربه أن نمعن النظر بالرجال الذين احتلوا الشاطئ، وهم يمارسون رياضاتهم المختلفة على أرضه الاسمنتيّة. رأينا شاباً يختبأ خلف باقةٍ ضخمةٍ من البلاوين الملوّنة التي تشع منها أضواء الـ LED. كان يبيعها للأطفال والعشّاق الذين يخرجون في موعدهم الأول، وكان يشبه شخصيات أفلام ميازاكي. بعدها رأينا شابّاً وشابةً من البشرة السوداء، يميلان على سياج الكورنيش، تارةً ينظران إلى البحر، وتارةً أخرى ينظران إلى بعضهما، ربّما لتجنّب نظرات المارّة الثقيلة. كان الإسمنت تحت أرجلنا يتزينّ بعلامات تحدّد الطريق للدراجات الهوائيّة، لكنّها إشارات لا تعني الكثير للمارّة أو حتّى للدرّاجين على الكورنيش، لكنّني رغم ذلك، استغربت بأنّ الحوادث والتصادمات بين المارّة والدرّاجين لم تحدث قط، لحد الآن.

نمسح بنظرنا الناس على الكورنيش، أفكّر: إن أمسكت يد صديقي، هل سيرانا الناس كسوريين؟ أم أنّهم سيرونا أولًا كهومويات؟ هل كنّا نريد أن نضع أنفسنا في خطرٍ كهذا؟ عمليّا، أنا سوري، لكنّني لا أظن أنّ المارّة على الكورنيش سيفطنون إلى ذلك مباشرة.

صارت الساعة الثامنة، في العادة كنت لأمشي مع صديقي مسافة الـ ٤،٨ كيلومتر من الرصيف، وكنّا لنستقبل اللقاءات التي يتيحها الكورنيش بصدرٍ رحب، لكنّنا فضّلنا أن نصعد في الباص رقم ١٥، والذي سيسرّع من وصولنا إلى المنارة. دفعنا ألف ليرة ثمن تذكرة الباص في تلك الفترة التي تبدو الآن مختلفةً بعيدة، الفترة قبل الانهيار المالي في ٢٠١٩.

***

سرعان ما أتى السابع عشر من تشرين الأوّل، واحتشد الناس في ساحات الاحتجاج وأعادوها إلى كنفهم. فجأة، لم يعد الكورنيش المساحة العامّة الوحيدة في المدينة. عاد الوسط التجاريّ لبيروت ليُسمى باسمه الأصلي، وسط البلد، وتحوّل من شوارع متصلّة إلى شبكةٍ واسعةٍ من الأرصفة. حتّى الرينغ، ذاك الأوتوستراد المكتظ، صار رصيفاً (أو غرفة جلوس، عندما افترشه المحتجّون ووضعوا فيه أثاثاً يليق بصالون حقيقي). صارت حياة الكورنيش تجري هنا أيضاً: الباعة، والاستجمام، وحتّى الرياضة والركض، ذهاباً وإياباً نحو خطوط الشرطة وقنابل الغاز المسيّل للدموع.

“التزبيط” صار يحدث هنا أيضاً، وبشدّة، لأنّنا كنّا متواجدين بكثرةٍ في الخطوط الأماميّة. رُشّ على علبة تحويل الهاتف العام تحت جسر الرينغ، مقابل الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، عبارة “ثورة قوم لوط”. لم أكن واثقًا إن كان الفنان (أم هل هي فنّانة؟) الذي رش تلك العبارة (لأن من رشّ تلك العبارة لا بد أن يكون فنانًا بالغريزة) يعلن عن جنسانيته، أم إذا كانت عبارةً تسخر من المحتجين، أم الاثنين معاً؟

في كتابه المعنون “زعزعة المدينة” (Unsettling the City)، يستقرئ نيكولاس بلوملي مثل هذه المداخلات العامة وكأنّها نوعٌ من الصلاة والترجّي، فهل كان ذلك حال تلك العبارة؟ هل هي أمنيةٌ بأن تحلّ الاحتجاجات الهائجة محل موكب فخر بيروت الذي فشل مراراً وتكراراً؟ أهي أمنيةٌ لإعادة تشكيل التوازنات الهشّة للعلاقات الاجتماعية التي شكّلت المدينة حتّى يومنا هذا؟

“من الصيفي: ثورة قوم لوط” صورة من حساب Sanaakhouri (Twitter)@

يقع هذا الرجاء، في واحدةٍ من أكثر المناطق ازدحاماً في المدينة، تحت جسر الرينغ المحاط بالأوتوسترادات وفانات رقم ٤ المسرعة، وهي منطقة تكره المشاة بشدّة. طوال أيّام حوّل المحتجون وسط المدينة إلى مكان مخصّصٍ للمشاة، بدلاً من السيارات، مبطئين حركة الناس والأشياء في نسيج المدينة، ومُجبرين الجميع على التمهل، والنظر، وتأمّل ما يحصل في الشارع. حوّل هذا الرجاء منطقة أسفل الجسر إلى مكانٍ للإشتباك البطيء، داعياً إيّانا لرؤيته، وهو يرانا بدوره، و​بطريقةٍ ما يتحوّل إلى إعادة تصوّرٍ للمواطنة الحضريّة، إذ ابتعدت عن مقاصدها الأصلية، لتحلّ محلّها مساحة من الاحتمال.

***

تعتبر الأرصفة مساحات فريدة في المدينة، لأنّها فاصل تمشي بسرعة الأنسان، وتقف بين المباني الثابتة (مع العلم بأنّ المباني في بيروت سُرعان ما تُهدم وتتغيّر)، وبين سرعة سيّارات الشارع (مع أنّ السيّارات قد تتحرّك أبطأ من المشاة في زحمة شوارع بيروت). دُفع بالمشاة، الذين احتلوا -من فترة ليست ببعيدة- الشوارع بأكملها إلى الهوامش، لذا تكون الهوامش المتبقّية ثمينةً جدا، إذ تُمكّننا، نحن البشر -المكوّنين من لحمٍ ودم، والسّائرين بسرعة أقل من متر في الثانية، بأدمغتنا التي تحلّل المعلومات بشكلٍ أبطأ حتّى- من الالتقاء.

على الطرف الآخر من طيف استخدامات الرصيف، تقع مدينةٌ أخرى من مدن البحر الأبيض المتوسط، مدينة على علاقةٍ ملتبسةٍ بالمياه التي أوجدتها، ألا وهي البندقيّة. لا يوجد في البندقيّة سوى أرصفةٌ للمشاة، عندما تمشي على قدميك للتنقل في أنحاء المدينة، تراها تكشف عن نفسها بحميميّةٍ وبألفةٍ فوريّة. يجرّك الرصيف إلى نسيج المدينة، ويحتضنك وأنت تتنقل فيها، فتصبح اللقاءات البشريّة الحال السائد في المدينة، إلى حدٍّ مزعجٍ أحياناً.

لكنّ أرصفة بيروت – حيثما وُجدت- تشتهر بأنّها غير صالحةٍ للاستعمال، لذا لا نستغرب عند رؤية الآباء والأمهات إذ يختارون دفع عربة أطفالهم في الشارع بدلاً من الرصيف، وعندما نرى الناس وهم يساعدون بعضهم البعض، لتسلّق حواجز الأرصفة المرتفعة بشكلٍ هزلي. لكنّني أتساءل أحياناً ما إذا كانت المدينة تتعمّد عرقلة مواطنيها في وظائفهم الأساسية – مثل المشي من مكانٍ إلى آخر- وبأن تحوّل نفسها إلى مساحة لصراعٍ مستمر. هل تريدنا هذه المدينة أن نعاني لكي نثور؟ هل تزدحم الأرصفة بالعقبات كدعوةٍ للتكافل؟ أم أنّها عقوبة مدفوعةٌ بنفس المنطق الذي تحرم المدينة من خلاله العديد من سكّانها الضعفاء – الفلسطينيين واللاجئين والمهاجرين – وكأنّها تجبرهم على حياة بائسة بالقوة؟

وإذا كانت الأرصفة بنى تحتيّة للرعاية، فهل يعني غيابها، تعمّد الإهمال؟

***

تتّصل ساحة الثورة بالكورنيش بعدّة أرصفة تمّت صيانتها بشكلٍ عشوائي.

أخذ طريق الرينغ عائدًا، متّجهًا نحو الغرب، ثم أمشي على الرصيف الذي يحاذي الأوتوستراد من جهة، والمنطقة العسكريّة الشديدة الحراسة من جهة أخرى. أتذكّر هنا، أن تلك المجموعات المشكّلة من مواقف السيارات، والمباني المرمّمة بشكلٍ غريب، والمنازل الفخمة، كانت فيما مضى حيّ اليهود في بيروت. أمشي -كما لم يتجرأ الكثيرون- بمحاذاة مسار فان رقم ٤، وأحسّ بالفجوة التي تركها غياب أولئك الذين عاشوا هنا منذ زمنٍ ليس بعيد جدّاً، أفكّر في اللقاءات التي كانت لتحدث على هذا الرصيف، والتي لن تحدث .

ثمّة غيابٌ ناتجٌ عن إخلاء/طرد اليهود من بيروت، غيابٌ مزّق النسيج العمراني، وحوّل حيّهم إلى مواقف للسيارات، لن نعرف أبداً ماهيّة اللقاءات التي لن نعيشها في هذا الشارع.

***

تمنحنا الأرصفة فرصةً للّقاء، سواءً كانت هذه اللقاءات ثورية أو جنسيّة بالسر (وهي أيضاً فعلٌ ثوريٌ بطريقة ما)، وهكذا، تصبح الأرصفة بنى تحتيّة للرعاية، وفي عالم تسرّع فيه السيارات تباعدنا، حيث يجلس الناس معزولين في علب موتهم الميكانيكيّة المكيّفة والمبنيّة من زجاجٍ ومعدن فوق أربعة دواليب، نحتفظ، نحن المشاة، بالأرصفة بين الأبنية حيث نمشي دون خوف (نسبيّاً). يخبرنا الرصيف بأنّنا لسنا وحدنا، نظريّاً على الأقل، وبأنّ المساحة الهامشيّة بين المباني الثابتة والطريق السريع هي لنا، لكي نتحرك على سجيّتنا، ولكي نلتقي، بالأجساد والعيون، ولكي نمسك بأيدي بعضنا البعض. وأحيانًا، لكي تعاود النظر لتتأكّد من أنّ الرجل صاحب الشارب المشذّب ما زال ينظر نحوك باهتمام.

ثلاث قصائد من ديوان ابن ثنوة

العمل الفني: سجاد عباس، ٢٠١٩
العمل الفني: سجاد عباس، ٢٠١٩

[صفاء السراي (١٩٩٣-٢٠١٩) ثوري وشاعر عراقي. قُتل على يد القوى الأمنية العراقية في تظاهرات ٢٠١٩، وأصبح أيقونة للثورة ورمزًا وطنيًا. اختيرت هذه القصائد من مجموعة شعرية نُشرت بعد وفاته.]

من فرطِ حُزني وجوعيَ للناسِ
نسيتُ طعمَ رائحة الزنبقِ الغجريّ بروحي
ورحتُ على شُباك العمرِ سكراناً بنداهُ
أرسمُ بلساني كوخاً للباقي من وجعي
وساقيةً من طَلٍّ 
يوجعُني لونُ الليلِ إذا كان ليلًا فالليلُ ليلٌ بالفراقِ
زارتني كلُّ همومِ العمرِ ووجوهُ نداماي والكأسُ

وما جاءَ العراق

الليلُ ليلٌ بالفراق 

*** 

٢

اللهمَ 
ياربَّ الأسقفِ الهشةِ
والأحلامَ الضائعة
وربَّ كلَّ السُكارى، والمحطاتِ المظلمةِ البعيدة
اللهم بحقِ عجزِكَ وضعفِكَ
ورحمتِكَ الُمعطّلةِ منذُ عطفتَ على أمّي بالموتِ
اللهمَ بكبرياءِكَ الذي خدشناهُ
بجبروتِكَ على الفقراءِ 
بعزّتِكَ على الُمعوزينَ
اللهمَ بنعمِك التي توزعُها على الأغنياءِ، الذينَ لا 
يحتاجونَ منكَ شيئًا 
ياربَّ الأسقفِ الهشةِ 
حطّمني
كما حطّمَتني من قبل
كما هي عادتُك
كي أقفَ على خرابي ثانيةً
صارخًا بوجهِكَ
ياربَّ الأسقفِ الهشةِ 
وربَّ السُكارى
اخلقْ لنفسِكَ حُزنًا 
وتحطمْ مثلي 

*** 

٣

أعترفُ الآنَ 
وقدْ خرجتُ من رحمِ الكون بريئًا
بأنني مازلتُ كذلك
لولا الشهواتِ لكلِّ الحزنِ على هذا الجسدِ الفضيّ
لهذهِ الوحمةِ بينَ النهدينِ 
لهذا الرفغِ الإسطوري
أمامَ محاكمِكُم
أعترفُ الآنَ بأني بالحزنِ وبالشهوةِ متهومٌ
بأنَّ القلبَ مقبرةٌ لفراشاتٍ ميتةٍ 
يدخلُ فيهِ الشيءُ ليخرجَ أشياء وهموم
ماكنتُ أظنُ بأنَّ الليلَ طويلٌ وأكثر من سُكري سيدوم
ذنبي 
كنتُ فصيحَ الحبِّ 
كنتُ كما التابوتِ صريحًا لا أخدعُ أحدًا 
والآن غَيُوْم
لا أُبدي الذي خلفي وإنْ شمساً
وتحتالُ الأشواقُ عليَّ
أقرأُ ما في الغيبِ من البرقِ
أزيحُ سُعالاً من صدريَّ بشذى اسمِك
وأنثرُ رملاً وطأتُهُ عصافيرٌ كانتْ في ميسانَ على عينيَّ 
وصلَ الشوقُ لحد الإفراطِ
صارَ مفاتيحًا لصناديقَ مغلقةٍ
آهٍ من حبةِ رملٍ بعيوني
شاماتُ الزندِ لقد كَبُرتْ
والعضّةُ ماعادتْ مأوى 

ترجمها سنان أنطون من العربية. من ديوان ابن ثنوة: صفاء السراي (دار التكوين، ٢٠٢١).

لا أحد سيعرف يوماً ما معنى أن تكون شبحاً

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢

ترجمة: حسين ناصر الدين

في ليلة 22 كانون الأول 1984، غابت أمّيّ عن وعيها كليّاً بعدما أبلغ طبيبها النسائي، الذي كان مخموراً ليلتها في سهرة الميلاد، توجيهاته للممرّضة عبر الهاتف لإعطاءها مخدّراً عاماً بدل المخدّر الموضعي.
عندما وصل الطبيب في الصباح وقام بعمليّة التوليد، أنجبت أمّيّ طفلاً يُطلق عليه بالمصطلحات الطبيّة تسمية “طفل أزرق”. أوضحوا لأمّيّ أنّ أخي كان أزرق اللون بسبب شذوذٍ في القلب وأنّه سيتحسن بعد وضعه في الحاضنة.
وجّهت عائلتي رسالة شكرٍ للطبيب الذي يمتلك المستشفى عبر جريدة الأهرام. لكن، وبعد أشهرٍ قليلةٍ بدأ المولود يضعف بين ذراعي والدته، ولم يعد باستطاعته أن يبقي رأسه مرتفعاً، وأخذت عظامه بالضمور. خلال وقتٍ قصير، انعدمت قدرته على المشيّ وعلى الكلام وحتّى على التعرّف على أيّ شخص.
جاءت نتائج تشخيص الأطباء في أمستردام، ولندن، ونيويورك، وبوسطن، وإسطنبول مغايرةً لتشخيص الأطباء في القاهرة: كان القلب سليماً فيما تكمن المشكلة في الدماغ المتضرّر بشكلٍ كبير إثر عملية الولادة. بسبب حرمانه من الأكسجين، ماتت الخلايا الحيّة في دماغ المولود الجديد باستثناء قلّة قليلةٍ منها. سيجعله ذلك على مدى الثمانية والثلاثين عاماً التالية يعيش عند الحد الفاصل بين الموت وأن يموت. بعد عدّة سنوات، سمعت حديثاً للفيلسوف جلال توفيق يقول فيه: “أن تموت قبل أن تموت هو أن تدرك ما أنت عليه بالفعل: ميت بينما لا يزال جسدك حيّاً، فان”.[1]
الهالك هو شيءٌ معرّضٌ للموت والموت حيٌّ فيه وهو على قيد الحياة. عندما كنت في الخامسة من عمري، كنت مثل توما في لوحة كارافاجيو “شكوك القديس توماس”، لكن عدم ثقتنا كان مختلفاً. على عكس المشكّك الراسخ، الذي اخترقت سبّابته جرح المسيح لرفضه الإيمان بدون لمس الجروح مباشرةً للتأكّد من حقيقتها، نكأت جرح أمّيّ العميق من أجل تفسيرٍ نظريٍ ومجرّد. سألتها إذا كان أخي يعرف ما هو اللون؟ أو يميّز الرائحة الكريهة؟ هل يعرف ما هو الجبل الذهبيّ؟ هل يمكنه أن يجمع في ذهنه فكرة الذهب وفكرة الجبل؟ أردت أن أسمع عن الإدراك والاعتراف والأسباب والعواقب. هل ينتمي إلى عالم الأشياء – المواد غير العضوية والخام – أم عالم البشر واللغة؟ لماذا أتعرّف عليه ويستطيع هو أن يتعرّف عليّ؟
وكيف لا يتعرّف عليكِ، أنتِ، والدته؟ كانت أمّيّ تنفجر بالبكاء أحياناً، ولكنّها في أغلب الأحيان تردّ بإجاباتٍ مراوغة. لم تتحدّث أبداً عن الإعاقة أو المساءلة المؤسّسيّة. كثيرا ما أحالتني إلى الله، لطالما قالت لي: “اذهبي إلى الله، تحدّثي إلى الله. إن شاء الله سيتحسن”. صلواتٌ وآياتٌ وخيول طروادة. صلّيت وانتظرت ولمّحت إلى الله أنّه الوقت المناسب للتدخّل. كنت أستيقظ بشكلٍ منتظمٍ في منتصف الليل للتحقّق ممّا إذا كان قد استيقظ أخيرا. كلّ ما كنت أهتمّ به هو أن أشهد حدوث ذلك أمام والديّ، لأكون رسول الأخبار السارّة والوسيط الوحيد. تغيّرت المراتب والأغطية، لكنّ جسده ظلّ في نفس الزاوية في غرفة المعيشة طوال ثمانيةٍ وثلاثين عاما.
لم تُدخل والدتي أخي إلى المستشفى يوماً لأنّها لم تثق بالمستشفيات، فتحوّلت إلى مؤسسة، إذ لم يكن بمقدور أيّ مؤسّسة أن تكون أمّاً. لم يكن لدى أخي بطاقة هويّةٍ قط لأنّه لم يقابل شرطيّاً قط. لم تلتقِ عيناه يوماً بعينيّ.
كان يعاني من تقرّحات الفراش كأنّه في التسعين من عمره، وهو ما يزال في الثانية عشرة من عمره. تتحرّك الأعضاء والعظام التي تضغط بشدّة على الجلد لتتحوّل إلى هالةٍ رقيقةٍ من اللون الأبيض الورديّ. تضغط الأعضاء الخاملة والعظام بشدّة على الجلد، فتدمغه بهالاتٍ رقيقةٍ من اللون الأبيض الورديّ.
تقرّحات الفراش علامةٌ على الانفصال تشير إلى أنّ الجسد لم يعد كتلةً واحدة، بل أصبح أجزاءً منفصلة: القلب والعظام والكلى التي تضطهد الجلد تحت وزنها. لو كان وزن عظامنا أقلّ من وزن بشرتنا فلن تكون تقرّحات الفراش ذات قيمة.
أعطاني هذا الوضع من عدم التعارف المتبادل والمعرفة من طرفٍ واحدٍ خلال سنوات مراهقتي شعوراً بالتفوّق الفطري. تكرّرت عبارة “وحش لعين” في صفحات مذكراتي. في المنزل، كنت أرفض الجلوس في غرفة المعيشة، مدّعيةً أنّ رائحة لعابه الذي يسيل من فمه تجعلني أشعر بالغثيان.

في المدرسة، كان صدى صراخه يتردّد في أذني. كنت أرتعد خوفاً من فكرة أن يرى أحد أصدقائي تشوّهاته الخلقيّة، وانحراف حوضه، وقدمه اليمنى التي انقلبت إلى الداخل وإلى الأعلى بشكل ملحوظ، فأخفيته عن كلّ عين وكذبت في كلّ مناسبة: يرتاد أخي مدرسةً مجاورة، وهو لاعب وسط في فريق كرة القدم، يستمع إلى جوي ديفيزيون Joy Division، لديه صديقةٌ لها أصول إنجليزية. في أحد الأيام، قام صديقان بجرّي إلى ملعب كرة القدم خلال زيارةٍ لإحدى المدارس المجاورة للمشاركة في بطولة لكرة القدم، فأشرت إلى صبيٍّ بقصّة شعرٍ عصريّة (سبايكي)، وشعرت بالفخر لأنّ أخي المزيّف كان على هذه الشاكلة.[2]

كنت أشغّل الأفلام الإباحيّة على التلفاز وأرفع الصوت، ثمّ أحلّ حفاضاته لأرى ما إذا كان سيحصل لديه انتصاب. الكذب هو افتراض موقفٍ أفقي، لكنّه خداع أيضاً.
اعتقدت في بعض الأحيان أنّه كان يتظاهر، أنّ وجوده بالكامل كان مجرد كذبة. في أحيانٍ أخرى، استلقيت في وضعيّاتٍ ملتويةٍ بجانبه على الأرض، محدّقةً في نفس الجزء من السقف، محاولةً ألّا أحرّك ولو عضلة واحدة في جسمي. حاولت بلا كللٍ أن أقرّب المسافة بين تجربته وتجربتي، لتسطيح عوالمنا المنفصلة في عالمٍ منكمش.ليتني استطيع الخروج من نفسي لأعرف كيف سيكون شعوري لو كنت في جسده. لو كان بإمكاني فقط أن أصير جثّةً حيّة، شبحاً، لأعيش حياةً خاليةً من الحياة، عندها فقط يمكنني أن أفهم تجربته. بدون لغة، أن أكون هو، إنّها الطريقة الوحيدة لفهمه. بعد عقود، علمت أن الدفع باتجاه إلغاء اختلافاتنا سيؤدي مراراً وتكراراً إلى طريق مسدود، وأنّ التجربة المباشرة لا يمكن أن تكون المنطلق الوحيد للمعرفة بأنّ هناك طرقاً يمكننا أن نشعر بها ونتواصل مع بعضنا البعض من دون أن نكون بعضنا البعض، وأن اختلافاتنا ضرورةٌ حتميّة.
لست متأكّدةً ممّا إذا كنت قد فشلت في التحدّث إلى الله لأنّني فشلت في التحدّث مع أخي، أم أنّي قد فشلت في التحدث مع أخي لأنّني فشلت في التحدّث مع الله.
لقد أتقنت فنّ العد وتحليل التكلفة والعائد. مثل الرأسماليين الذين قاموا خلال فترة جائحة كوفيد بفرز كبار السن، واعتبروهم غير جديرين بأجهزة التنفّس الصناعي، قمت باحتساب رعاية والدتي ولم أستطع استيعاب اختلالاتها. عدد مرّات إطعامه: 3 مرّات في اليوم × 30 يوماً في الشهر = 90 × 12 شهراً في السنة = 1080 × 20، و25، و30، والآن 38 عاماً. حتّى اليوم، تكون قد قامت بإطعامه 41040 مرة.
لم أفهم الطريقة التي قطعت بها والدتي المساواة في القيمة عن تكافؤ القدرات، فكيف يجوز أن أحصل على الأقل وأنا أكثر قيمةً منه بكثير؟ بماذا ترتبط اقتصاداتنا ذات القيمة؟ لفترةٍ من الوقت، اعتقدت أنّ أمّيّ وأنا نملك منظورين غير متوافقين للقيمة. كنت أرى أنّ القيمة مرتبطةٌ بالمجالات الاجتماعيّة (الاعتراف المتبادل والمدرسة والحب)، بينما رأت هي أنّها مرتبطةٌ بالعبء الضروري لاستمرار الحياة. بعد عقود، من خلال أعمال ماركس، أدركت أنّ هذه الأمور لم تكن منفصلةً تماماً.
عندما وصلت في الولايات المتحدة إلى مرحلة التخرّج، كانت الفصول الدراسيّة تهيمن عليها نظريةٌ تخجل من الوعي البشريّ والوكالة: هل يمكن أن يتحدّث البعوض؟ هل يمكن لمحار الأسقلوب أن ينتقد؟ هل لدى خطوط الأنابيب وكالة؟[3] وكان الهدف من ذلك هو إيجاد عالمٍ سابق للحداثة ومسبق للفرد يكون فيه البشر وغير البشر مجرّد جهاتٍ فاعلةٍ متساويةٍ في فخٍّ أحاديٍّ عائمٍ وحرّ.

نظريّةٌ لا يمكن تحقيقها إلّا بخطابات ما قبل الحداثة، “نوعٌ من الروحانيّة بدون آلهة”، كما قال سلافوي جيجيك[4]. على الرغم من أنّ معاداة الإنسانيّة لم تكن شيئاً جديداً (أخبرنا هايدجر وفرويد ونيتشه منذ فترةٍ طويلةٍ أنّ البشر مدفوعون أساساً برغباتٍ غير عقلانيّة وغير واعية)، فقد وجدت المناقشات في الفصل دون نتيجة وأكثر كآبة.

ظهر إحباطي بوضوح خلال مكالماتي عبر سكايب مع والدتي، التي لم تكره شيئاً في الحياة أكثر من الفلسفة: “أمّيّ، يريد رفاقي التخلّص من الإنسان. إنّهم يريدون فلسفة العقول الطفوليّة، طفلٌ من اللاتينية في “لا” والخيال من فاري “يتكلّم”، لا يتحدّث ولا يحكم. إنّهم يزعمون أنّ الوعي ينتمي إلى عالم الحداثة. “لكن لا يمكنك التخلّص من شيءٍ لم تملكه من قبل”[5].

لم تفهم والدتي المغزى، لم تكن القضيّة تتعلّق بتخلّي الغرب المتميّز عن الفئات العالميّة التي كان قد أرغم العالم عليها ذات مرة من خلال نشر أصولها التربويّة. في كتابها المذهل “الإنسانيّة القانونيّة”، أعادت سامرة اسمير قراءة فانون لتخبرنا أنّ الإنسان كان حاضراً دائماً على الرغم من ادّعاء الاستعمار غيابه.
تقول اسمير في كتاباتها عن إدخال القانون الحديث في مصر الاستعمارية، إنّ عنف المنطق الاستعماري يكمن في أنّه يفترض “الإنسانيّة” كشيءٍ يمكن مصادرته أو منحه. إنّه يحتكر مفهوم الإنسانيّة. إنّه يعلن عن إضفاء الطابع الإنسانيّ على المستعمَر، وكأنّهم لم يكونوا بشراً من الأساس[6].

تريد اسمير أن توضح لنا أنّ مشروع “الإنسانيّة” هذا قد محى فهم “الإنسان” الذي كان حاضراً في التقليد الصوفيّ الإسلاميّ، والذي لا علاقة له بتعريفنا الضيّق للوعي والفاعليّة. كان الإنسان “العضويّ وغير العضويّ – النجوم والصخور والنباتات”، وكان “الحجر في الجبل”. تريد أن توضح لنا أنّ اللحظة العنيفة في التاريخ الاستعماري لم تكن أن المُسْتَعْمَر قد تم استبعاده من “الإنسانيّة العالميّة” (مثل ما ادّعى الشاعر المناهض للاستعمار إيميه سيزير)، ولكن تمّ تضمينها في الفئات العالميّة على وجه التحديد. في مثل هذه الأدراج، تمّ القضاء على التقاليد الأخرى، فكان المخرج في هذه الحالة القضاء على الكونيّ والتراجع إلى عالم التقاليد.
ولكن أيّ تقليدٍ علينا إنقاذه وأيّ تقليدٍ عالميٍّ نستبعد؟ وهل يكون ما نحتاجه هو وحدةٌ مع العالم من دون أيّ تمايزٍ أو فهمٍ للاستقلاليّة والكرامة، والإفراج عمّا نحتاج إليه؟ هل الإنسانيّة العالميّة مفهومٌ من جانبٍ واحدٍ يجب تطهيره دفعةً واحدة؟
نحتاج في الواقع إلى أمرٍ عالميٍّ للقدرة على التحدّث إلى بعضنا البعض عن نفاق الإطار، لنتمكّن من الإشارة إلى الاستثناء. لاستيعاب الاستثناء يجب أن ندرك ما هو العالميّ. هو: مفهوم متسامي، غير ثابتٍ أبدا، يُتاح لنا جميعاً الطعن به وتعديله وتغييره. لسنا بحاجةٍ إلى الوحدة مع العالم. نحن بحاجة إلى المسؤوليّة. لا يمكن للصخور والنجوم والأنهار أن توقف المكتنزين، ولا أن تفرج عن السجناء، ولا يمكنها بناء مؤسّسات لإيواء ورعاية من يحتاجون إليها.
يعتمد وجود أخي، على عكس الصخور التي يمكن أن تتراكم على الشاطئ، أو الحيوانات التي يمكن أن تجوب الشوارع للحصول على القوت، على عمل والدتي، على قدرتها على خلق الحياة.[7]

يتمتّع أولئك الذين يخلقون الحياة وأولئك الذين لا يستطيعون خلق الحياة بالكثير من القواسم المشتركة، وهي أكثر ممّا نتخيّل. في عام 1983، طرح جي سي روميز جدلاً بأنّ الاغتراب الناتج عن الإعاقة لا يختلف عن الاغتراب الناتج عن الاستغلال الرأسمالي[8]. بطريقةٍ ما، يتشارك العمّال المستغَلّين بشدّة والذين يجعلون حياة الآخرين ممكنة، والأفراد المعوّقين غير القادرين على جعل حياتهم ممكنة، عوالم متشابهة: تكمن قيمة الفئة الأولى في قدرتها القابلة للاستخراج، فيما تكمن قيمة الفئة الثانيّة في إعاقتهم غير القابلة للانفصال. قد يكون هذا هو المعنى لجعل إعادة إنتاج الحياة مشتركةً بين الجميع. إنّها فكرةٌ صادفتها أيضاً في أعمال الفيلسوف السوفييتي إيفالد إلينكوف. إلينكوف هو أحد الشخصيّات الرئيسيّة وراء تجربة زاغورسك، وهي حركة سوفيتيّة تركّزت على دراسة الإعاقة في التحليل الماركسيّ في الستينيّات[9]. لم تكن البشريّة الكونيّة، بالنسبة لإلينكوف، صورةً حديثةً للحريّة الخالصة أو شكلاً منفصلاً من التفكير، بل شخصيّة طفلٍ معوّق. وهو ليس الطفل المولود الأصيل الموجود قبل التاريخ وفوقه، ممّا يثبت أنّ الحداثة هي مصدر كلّ الشرور. بدلاً من ذلك، كان الطفل المعوّق في عمل إلينكوف وسيلةً لفتح الطبيعة المرجعية الذاتية لما يعنيه أن تكون قادراً في عالم رأسماليّ. ماذا يعني أن تكون قادراً في عالمٍ رأسماليّ، لفتح ما تعنيه الحياة حقّا[10]. إنّ إبقاء المعوّق على قيد الحياة يعني إدراك ماهيّة الحياة بالفعل: القدرة على منع الموتى من الموت، واستمراريّة الحياة العضويّة.

في العام الماضي، تعرّض أحد أصدقائي المقرّبين في مصر للاعتقال التعسفيّ واحتُجز في الحبس الانفرادي، ثمّ، ولحسن الحظ، أطلق سراحه بعد أسابيع نتيجةً للضغط الدولي على عكس الآلاف من السجناء الآخرين.
أخبرني عندما تحدّثت إليه عبر الهاتف، كيف أبقته المحادثات مع السجناء عبر الردهة سليم العقل، وكيف بنى علاقاتٍ حميمة مع أشخاص سمع أصواتهم من دون أن يراهم قط. كان هناك شيءٌ مذهلٌ في الطريقة التي روى بها تجربته خلال هذه الأسابيع. أخبرني كذلك، كيف مكّنته معرفته السابقة كباحثٍ في العدالة الجنائية من إدراك حقيقة ظروف السجون المصريّة قبل أن يدخلها في الواقع – جعل ذلك تجربته أقلّ عنفاً بطريقةٍ ما. كان يعرف، بطريقة ما، قبل أن يعرف بالفعل.
أن تدرك قبل المعرفة الفعليّة هو أن تصير مدركاً لما هي التجربة حقّاً: مفهومٌ مفتوحٌ لا يمكن فهمه خارج الوساطة واللغة والاختلاف. في محاضراته عن التاريخ والحرية، يروي أدورنو لطلّابه قصّة تفتيش الشرطة لمنزله في ألمانيا النازيّة.
إنّ تجربة مثل هذا الحدث، حيث يمكن للمرء أن يختفي دون أن يبقى له أثر أو أن يركض لينجو بحياته، هي أخطر بكثيرٍ من أيّ تفسيرٍ يمكن أن تقدّمه صحيفة، أو يمكن أن تقدّمه أيّ نظريّة. بعبارةٍ أخرى، عندما نختبر شيئاً ما، يكون لهذه المعرفة المباشرة القدرة على إعطاء معنى أكبر لنا من النظريّة البحتة. المشكلة هي أنّ هذه المعرفة المباشرة، والتي من المهم التمسّك بها، ليست أكثر من ذلك. بعبارةٍ أخرى، عندما نختبر شيئاً ما فإنّ هذه المعرفة المباشرة لديها القدرة على إعطائنا معنى أكبر من النظريّة البحتة.
المشكلة هي أنّ هذه المعرفة المباشرة، والتي من المهم التمسك بها، ليست أكثر من تجربتنا المباشرة، فلا يمكن فهمها إلّا ضمن سياقٍ أكبر يتجلّى بعد ذلك في هذه الحقائق الفرديّة. يقول أدورنو شيئاً مهماً حول ذلك: لم يكن ليختبر تجربة تفتيش منزله بالطريقة التي عاشها لو لم يربطها في ذهنه بالتغييرات في الحكومة وقوانين الطوارئ التي جعلها النازيّون دائمة وإلغاء تدابير السلامة. كان يعرف عنها مسبقاً. يضيف: “لو حدث كلّ ذلك، لو أنّ ضابطين غير مؤذيين من أفراد قوّة الشرطة القديمة قد وصلوا إلى عتبة بابي، وإذا لم يكن لديّ أيّ علمٍ بالتغيير الكامل في النظام السياسي، فإنّ تجربتي كانت لتكون مختلفةً تماماً عما كانت عليه”. وبالمثل، لا يمكن لأحد أن يدرك بشكل كامل أهوال النظام الاستبداديّ إذا لم يكن قد عانى من تلك الطرق المشؤومة على الباب ليجد الشرطة تنتظره في الخارج.[11]

بعبارةٍ أخرى، علينا مقاومة تحويل التجربة المباشرة إلى صورةٍ أساسيّةٍ للسياسة. واجهت في الولايات المتحدة، الخطاب السياسيّ أولاً، والمتمثّل في البقاء في مسارك على نطاقٍ واسع إن كان في السياق التنظيميّ أو الأكاديميّ، حيث تستمد الشرعيّة في المقام الأول من “من أنت” و”ما هي مكانتك” إذا جاز التعبير، وليس من قوة خطابك[12]. كثيراً ما نسمع عبارات مثل “لا يمكن للرجل أن يعرف ماذا يعني أن تكون امرأة، كما لا يمكن لأبيضٍ أن يفهم كيف يكون الحال عندما تكون أسوداً، لا يمكن لأيّ شخصٍ عاديّ الميول أن يعرف ما حال أن تكون مثليّ”. تنتج هذه الخطابات الانعزاليّة طرقاً سياسيّةً مسدودة. وقد عشت معظم فترات حياتي من دون أن أشعر ما معنى أن تكون شبحاً. علّمني الشبح أنّ الواقع أكثر تعقيداً من تجربة سماع جرس الباب.
الواقع هو الحياة التي يعيشها المعوّق والأنثى وذوي البشرة السوداء، والواقع هو طبيعة النظام ككل، النظام الذي يسمح لرجال الشرطة بخطفنا من منازلنا، وهو العيش في عالمٍ حيث أجساد المعوّقين منعزلة، حيث يصبح العمّال المستغَلّين معوّقين، وحيث تتحوّل الأمّهات إلى مؤسّسات، وحيث تتغلغل العنصريّة والتحيّز الجنسيّ في كلّ علاقاتنا.
لن يعرف أحدٌ أبداً ما معنى أن يكون أيّ شخصٍ آخر. سيكون هناك دائماً من هو أكثر عرضةً للتمييز. يقول أدورنو إنّ “الفوريّة الزائفة تقنعنا بأخذ التجربة وتحويلها إلى مطلقة”. يكمن عملنا في عدم نفيها لصالح الوساطة، ولا المبالغة في الوساطة، أي أن نقول ببساطةٍ أنّه بإمكاننا الحفاظ على التوتّر بين الاثنين.


[1]  توفيق جلال. “إطلاق كتاب في نيويورك: جلال توفيق ، ما الذي كنت أفكر فيه؟ eflux / محاضرة للمؤلف ومحادثة مع وليد رعد.” ، 28 فبراير، 2018. https://www.e-flux.com/live/177299/new-york-book-launch-jalal-toufic-what-was-i-thinking-lecture-by-the-author-and-conversation-with-walid-raad/

[2]  وفقاً لهيجل، فإنّ فشل الاعتراف المتبادل يؤدّي إلى أحاديّة الجانب، والانحياز هو حالة من العظمة والذنب في نفس الوقت. هذا هو ما يحدّد المأساة بالنسبة له. تنشأ المأساة عندما يكون الخلاف بين موقفين، كل منهما مبرر، لكن كلّ منهما مخطئ لدرجة أنّه لا يعترف بصحة الآخر. كما يشرح مارك دبليو روش، “بالنسبة لمأساة هيجل هي تضارب بين موقفين جوهريين، كل منهما مبرر، لكن كل منهما خاطئ لدرجة أنه لا يعترف بصحة الموقف الآخر أو يمنح، إنّها لحظة الحقيقة. لا يمكن حلّ الصراع إلّا بسقوط البطل”. كيف نفهم الأشكال الأخرى للانحياز التي لا تستند بالضرورة إلى علاقات أجيال؟ كيف نفكّر في أحاديّة الجانب عندما لا يكون هناك بطل؟ روش، مارك دبليو “مقدمة لنظرية المأساة لهيجل.” ^ PhaenEx ، 1.2 ، 2006 ، ص 11 – 20.

[3] يعود المرجع إلى تيموثي ميتشل وميشيل كالون وأندرو باري على التوالي.

[4]  جيجك ، سلافوي. الارتداد المطلق: نحو أساس جديد للمادية الجدلية. فيرسو ، 2015 ، ص 9.

[5] يقدم أدورنو شرحاً جيداً عن سبب وصول مثل هذا التفكير (الأنطولوجي أو الهايدجري) إلى طريق مسدود في قسم “سؤال الطفل” في الديالكتيك السلبي، ص. 110. يشرح كيف تنتهي العودة إلى “طفولة النوع” إلى أن تكون في حالة قبل وفوق الوقت. إن سذاجة مثل هذا التفكير هي في الواقع غير ساذجة. لمناقشة كيفية استخدام المادية الجديدة هذه الحجة الطفل أنظر. بنجامين بويسن ، “إحراج أن تكون إنساناً: نقد للمادية الجديدة  يقدم أدورنو شرحًا جيدًا عن سبب وصول مثل هذا التفكير (الأنطولوجي أو الهايدجري) إلى طريق مسدود في قسم “سؤال الطفل” في الديالكتيك السلبي ، ص. 110. يشرح كيف تنتهي العودة إلى “طفولة النوع” إلى أن تكون في حالة قبل وفوق الوقت. إن سذاجة مثل هذا التفكير هي في الواقع غير ساذجة. لمناقشة كيفية استخدام المادية الجديدة هذه الحجة الطفل أنظر. بنجامين بويسن ، “إحراج أن تكون إنسانًا: نقد للمادية الجديدة وعلم الوجود الموجه للكائنات، Orbis Litterarum، المجلد. 73، لا. 3، 2018، ص 225 – 42. كروسريف، https://doi.org/10.1111/oli.12174.

[6]  هذه الفكرة التي تتبنى مفهوم “الإنسانية” كغاية مرغوبة، وليس وسيلة لتحقيق غاية، تأتي من منطق التنوير، وفقًا لإسمير، كما أوضحه إيمانويل كانط الشهير “الإنسانية هي غاية في حد ذاتها”. تكمن مشكلة إسمير في أن مثل هذا المفهوم للإنسانية موجود بين ثنائية (الغاية في حد ذاتها / الوسائل) التي تمنع سيناريو ثالثاً حيث لا يكون الإنسان وسيلة لتحقيق غاية، ولا غاية في حد ذاته، بل وسيلة “لتحقيق لا نهاية”. “وسيلة طاهرة” كما تقول “الإنسانية كوسيلة في حد ذاتها” انظر: إسمير، سميرة. الإنسانية القانونية: تاريخ استعماري. ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد، 2012، ص. 75.

[7]  للحصول على مناقشة ممتازة لما أسماه ماركس في مخطوطات 1844 “الجسم غير العضوي” للإنسان، انظر بتلر، جوديث. “الجسد غير العضوي في ماركس المبكر: مفهوم محدود لمركزية الإنسان”، الفلسفة الراديكالية، المجلد. 2، رقم. 6 (2019)

[8]  تنتج الرأسمالية الصناعية الإعاقة على جبهتين. أولاً، من خلال التراكم الدائم للثروة، يطيل الرأسمالي يوم العمل ويزيد من استغلال عقل وجسد العامل. وكما قال كارل ماركس، صفحة بعد صفحة، في وصف طبقة الخزافين بأنّهم “أجيال من البشر الذين يعانون من التقزم وقصر العمر وسرعان ما تم استبدالهم بسرعة”، فإنهم قبيحو الشكل وغالباً ما يكونون ذوي شكل سيء عند الصدر؛ إنهم يتقدمون في السن قبل الأوان، وهم بالتأكيد لن يستمروا طويلاً… “هذه الأجيال سيئة التكوين غير قادرة على الحفاظ على هيئة عاملة عادية وعليها الانسحاب من العمل. في هذا الانسحاب، يصبحون معاقين في العمل. من ناحية أخرى، يتم استبعاد غير القادرين على العمل وتسريحهم. كتبت مارتا راسل: “القمع الأساسي للأشخاص ذوي الإعاقة هو استبعادهم من الاستغلال كعمّالٍ بأجر”. انظر راسل، مارتا. “العجز والقمع والاقتصاد السياسي”. مجلة دراسات سياسة الإعاقة، المجلد. 12، لا. 2 (2001)، ص. 88 وروميس، جي سي “الاغتراب كنتيجة للإعاقة: الأدلة المتناقضة وتفسيراتها”. علم اجتماع الصحة والمرض، لا. 5 (1983): ص 25-41.

[9]  رأى إلينكوف في مدرسة زاغورسك – وهي مدرسة داخلية سوفيتية للأطفال الصم و المكفوفين – فرصة للاعتراف بشخصية الطفل المعوق ككائن عالمي. في قراءة غير تقليدية لسبينوزا وهيجل وماركس، جادل في نظرية الجسد المفكر، الجسد الذي يدرك الأجسام الأخرى في الفضاء، كخاصية أساسيّة للوعي.

[10]  يستخدم كارل ماركس كلاً من مصطلح قوة العمل والقدرة على العمل (Arbeitskraft أو Arbeitsvermögen) بالتبادل، ولكن غالباً ما تستخدم الترجمات الإنجليزية مصطلح قوة العمل فقط.

[11]أدورنو ، تيودور. محاضرات عن التاريخ والحرية. كامبريدج ، بوليتي برس ، 2008 ، ص 20.

[12] جاي ، مارتن. “تجربة بدون موضوع: “والتر بنجامين والرواية” في الدلالات الثقافية: كلمات رئيسية في عصرنا. امهيرست ماس، 1998، ص 47-61

الإنسان المتسامي/ الإنسان العاديّ

العمل الفني: ألين ديشامب, "حفلة في الرملة البيضاء" مقتطف من سلسلة "أنا لست حيوانك" تصوير فوتوغرافي. 2021

ترجمة: حسين ناصر الدين

في وقتٍ مبكرٍ من صباح يومي الأخير في بيروت كان الدولار لا يزال يساوي 1500 ليرة لبنانية. مشيت قبيل الفجر باتجاه الكورنيش. كان الظلام مخيّماً، ووقفت أنتظر سيارة أجرة (سرڤيس) تقلّني إلى المطار. في اللغة الفارسية، نسمّي السماء قبل شروق الشمس: “الذئب والأغنام”(گرگ و میش).
إنّها على الأغلب عبارةٌ من صياغة الرعاة الذين كان من الصعب عليهم التمييز وقت الغسق بين الذئاب وأغنامهم. كنت أمرّ بنفس الحالة من عدم القدرة على تمييز الأشياء في ذهني، فيما أكمل سيري في الشوارع الهادئة باتجاه البحر.
لطالما كان وداع بيروت أمراً رومانسيّاً، ولطالما سمحت لي بيروت بأن أبالغ في وداعها.
لقول الوداع لبيروت، شعرت أنّه عليّ التفكير في شوارعها وأحيائها واحداً تلو الآخر واستحضار ذكريات كثافتها. كثافة المنازل والشوارع العريضة، والأسلاك الكهربائيّة المتشابكة، والسيّارات، والشرفات، وازدحام المشاة على الكورنيش.
فكّرت في حيّ الحمرا، أكثر مكان مشيت فيه في بيروت، وبكونه مزيجاً من الكثافات العديدة للمدينة، ونسيانه التام للماضي القريب، ومحافظته، مع ذلك، على ماضٍ بعيدٍ محيّ بالكامل في أيّ مكانٍ آخرٍ من المدينة.
بينما كنت في طريقي إلى الكورنيش في ذلك الصباح، كانت الكثافة الأكثر حيوية تلك التي حملتها معي من الليلة السابقة: صفٌ طويلٌ من راقصي الدبكة يتمايلون تحت مشاعل رياض الصلح الحمراء. كان الثوار يتحرّكون ببطءٍ ذهاباً وإياباً، مثل أمواج البحر، بانسجامٍ مع أغاني الشيخ إمام. كنت بينهم، ورقصت معهم.
كان البحر يظهر ببطءٍ بين المباني في أسفل الشارع. بدا ضوء النهار في صباح اليوم العاشر للثورة اللبنانية كأنّه يشرق من قاع البحر. كيف يبدأ الثوّار اليوم العاشر للثورة؟ من كان ثوار بيروت ذلك الصباح؟ في تلك الكتلة المجهولة التي اجتذبت مغناطيسيّاً المدينةً بأكملها، وأي نوع من البشر تشكّل يومها؟

رسوم توضيحية من كتاب المنصوري “تشريح بدن إنسان”, منصور ابن إلياس، ١٧٠٩، مسترجع من المكتبة الوطنية للطب.

في الأشهر الأولى على بدأ جائحة كورونا، ووسط ارتباكات لا تنتهي لمحاولة فهم العلاقة بين الفرد والجماعة، إضافةً إلى كل التصريحات العلمية المتناقضة التي تظهر في الأخبار، عدت إلى سلسلةٍ من الصور من كتاب تشريح المنصوري.
يعود تاريخ الكتاب ورسومه الإيضاحية المتضمنة إلى ما يقرب 700 عام، في محاولةٍ لوصف جسم الإنسان. تُظهر رسومه التوضيحية جسم الإنسان بأبعادٍ معيّنة: عيونٌ مفتوحة، وأذرعٌ قصيرةٌ وأرجلٌ منحنيةٌ على الجانبين، تنتشر مثل الخريطة لتظهر لنا سرّاً مخفيّاً داخل جسم الإنسان.
تُظهر الرسومات ذات الأبعاد عروقاً وأعصاباً وعظاماً مصغّرة، يرافقها أسلوب خاص في كتابة الشرح. شعرت وأنا أنظر إلى هذه الصور، كمّا لو أنّها المرّة الأولى التي يسعى فيها الإنسان إلى الدخول إلى جسده، كما لو كان يستكشف أسرار كهفٍ داخلي.
في الفترة التي ظهرت فيها الرسوم التوضيحية للمنصوري، راج تقليد الكتابة عن عجائب المخلوقات. استعملت الصور، في هذا التقليد على وجه الخصوص، كحدودٍ خارجيّةٍ للبشريّة، وحيث تختفي أيّ حدود بين الإنسان والحيوان. تمتلئ هذه النصوص بصور مخلوقاتٍ مُتخيَّلةٍ لم تكن موجودة من قبل وتُنسب إلى مناطق جغرافية غير معروفة. يمكن العثور في تصاوير هذه الحيوانات العجيبة على آثار للإنسان: يتم رسم عيون الحيوانات كما لو أنّها تنتمي إلى وجهٍ بشري، والكائنات الوسيطة تتشكلّ من نصف بشر ونصف حيوان.
قيل لنا إنّ الفيروس جاء من سوق ووهان للماشية. كان الأمر كما لو كنّا قد عدنا إلى الحدود غير الواضحة لصور المنصوري، فلم تعد الحيوانات والمخلوقات الأخرى الظاهرة في الخلفيّة غير ذات أهميّة لأحداث الحياة البشرية، بل وصارت فجأةً الشخصيّات الرئيسيّة في هذه القصة. حينها، كان النقاش لا يزال محتدماً حول كيفية انتقال الفيروس من شخص إلى آخر. صار البشر خطرين على البشر الآخرين. كان شعورٌ غريبٌ بداخلي يخبرني أنّنا صرنا ممزّقين إرباً، بينما كانت الحدود تغلق واحدة تلو الأخرى. اخترق الفيروس التاجي جميع فجوات اللامساواة الموجودة، ورفعها إلى مستوياتٍ جديدة من الظلم. كان علينا إعادة التفكير في الأساسيّات – للعودة إلى المساواة. إلى أكثر الناس ضعفاً. كيف؟ ضمن أيّ آفاق؟ مع أيّ رفاق؟ يينما كنت بعيدةً عن أيّ جماعة، يلفّني الخوف وسط العزلة تساءلت: ما الذي تبقّى من الإنسان في أعقاب هذا الوباء؟

أداء “المدينة التي نتخيلها” ، جوليا كريسبياني وكولرخ نافيسي ، Live Works Summit، Centrale Fies – إيطاليا ، 2021. مصدر الصورة: روبيرتا سيغاتا.

***

في عام 2019، وبينما كنت أودّع بيروت، وسط انتفاضة مستمرّة أطلق عليها البعض اسم “ثورة”، عدت بذاكرتي إلى العام 1979. بالنسبة لنا، أطفال الثورة الإيرانية، ممّن ولدوا مباشرةً بعد إعلان النصر، كانت شخصية الإنسان محور تربيتنا الثورية.
في تعليمي الرسميّ وكذلك في تعليمي الأسريّ (الذي كان في كثيرٍ من الأحيان يُعارض المناهج الدراسيّة التي تفرضها الدولة)، كان من المفترض أن ينقذنا “الإنسان”. الرجل الثوري، الرجل المرتفع، الرجل الخلوق، الرجل الملتزم، الرجل الجليل. كلّ الصّفات التي كان من المفترض أن يجسّدها هذا الإنسان. كان أيضاً من المفترض أن تمرّ عبره الطريق إلى مجتمعٍ توحيديٍّ متكافئ، مجتمعٍ حر، ومجتمعٍ مستقلٍّ عن الاستعمار والإمبريالية.
كان هذا الإنسان الخارق واحداً من اثنين: إمّا الإنسان الروحي المتعالي الذي يجب أن يثبت إنسانيّته في التضحية بالنفس من أجل الثورة والدين، وإمّا الرجل العلمانيّ الملتزم الذي يجب أن يثابر تحت الإكراه ويحافظ على المثل الثوريّة حيّة. على اختلاف تمظهراته الأيديولوجية، ظلّت شخصية هذا الإنسان المخلّص (إنسان والا / تعالى الإنسان) هي المحور، الإنسان الذي يمكن أن يتقدّم إلى منصب قائد الثورة، الرجل الذي يقاوم ويضحي بحياته من أجل القضيّة.
في العقد الأوّل بعد الثورة، تحوّل الثناء الجماعي على الرجل المخلّص، الزعيم الذي لم ينكسر قط، تدريجياً إلى أداةٍ للقمع. من أجل إنشاء نظامٍ جديد، كان لا بد من كسر هذا الرجل من قبل الدولة الجديدة، عن طريق التعذيب وانتزاع الاعترافات والإعدام والخوف. في الوقت نفسه، تزايد عدد الشباب الذين كانوا يموتون في الحرب العراقية- الإيرانية، وانتشرت كلمة شهيد في جميع أنحاء المدينة. صار سفك الدماء شرفاً وأداةً لامتلاك الإنسان.
اليوم، لا يعرف الرجل المتعالي، وصيّ أجمل المُثُل الإنسانية، إلّا بالأشياء التي يمكن أن يموت من أجلها. صار مفهوم الإنسان المتسامي الذي كان في قلب ثورة 1979 ثقيلاً جداً إلى حدٍّ لا يمكن تحمله.

***

لشخصٍ نشأ في طهران في العقود التي تلت العام 1979، بدا الأمر كما لو أنّ الإنسان المتسامي قرر تدريجياً أن يثبت فردانيته، فردانيّةً مستقلّة عن الجمهور، غير مبالية، أحادية الجانب، بل ومعارضةً أحياناً للوحدة.
صارت هذه المحاولة للانفصال عن الجماهير المحور الرئيسي لنوع جديدٍ من المجتمع: مجموعاتٌ من الشباب الذين شدّدوا على هويّاتهم الفردية، وكأنّ شكلاً من أشكال الإرادة الجماعية يجري تشكيله للتعرف على الشخص الذي انفصل عن الجماعة. في غضون ذلك، حثّتنا تجربة الإنسان الثوري المنكسر إلى التوصّل إلى اتفاق غير مكتوبٍ فيما بيننا، على أنّه لا ينبغي أن يكون هناك فينا شيءٌ يمكن كسره. نحن ببساطة: لم نعد بحاجة إلى قائد. في السنوات التي سبقت العام 2009، كان هناك قانونٌ غير معلن في كلّ تجمّعٍ سياسي، بغض النظر عن الأفكار التي تم الترويج لها، أنّه يجب علينا الاعتراف بالفردية. الاعتراف بإرادة الإنسان أن يعيش من أجل فكرته / فكرتها، لا أن يموت من أجلها.
لكنّنا وجدنا أنفسنا من جديد في حزيران 2009، وعلى الرغم من كلّ شيء متّحدين في جسدٍ واحدٍ كبير. عظمةٌ هائلةٌ وشاملة، أعادت في مسيرةٍ امتدت من ميدان الثورة إلى ساحة الحرية، بعد ظهر يوم 15 حزيران 2009، تعريف علاقتنا مع الجماعة ومع الناس العاديين ومع أنفسنا. علاقةٌ بجمالٍ لا نهائيٍ يمكن للمرء من دون شك أن يموت من أجلها.
في السنوات اللاحقة، وفي خضمّ التجربة المؤلمة للانقسامات الداخلية وقمع الدولة التي حوَّلتنا، مرّة أخرى، إلى مجموعةٍ منعزلةٍ من الناس، طرح سؤال ما بعد الانتفاضة الكلاسيكيّ نفسه على جيانا من جديد: كيف يمكن أن نكون مخلصين للجسد العظيم الذي رأيناه؟ أين كانت الحدود بين الفرديّة التي أردنا أن نبنيها والثقافة الانتهازية للربح والخسارة التي ابتلعت مدننا الآن؟ وقد صرنا نصف أفراد، ورافضين للقادة، ومهدّدين من قبل الشرطة، وما زلنا ملتزمين بذلك الجسم العظيم الذي تمزق إلى أشلاءٍ أمام أعيننا – أيّ نوعٍ من البشر يمكن أن نصير؟ وأيّ رؤية للبشرية بقيت من أجل شعرنا وإيماننا؟
بالنسبة لي، كانت التجربة النقيّة وغير المتكرّرة للمساواة التي شهدتها داخل حركة العام 2009 هي الإجابة الوحيدة المتبقّية. ألم يتبدّد خوفنا في هذا الأفق الممتد من المنزل إلى الشارع؟ ظلّت المساواة المؤقّتة بين الناس العاديين في الساحات مع الآلاف من تقنيات المقاومة الإبداعية في الحياة اليومية، في ذاكرة جسدي وكأنّها المستحيل المرغوب دوماً. كان بحثي عن نسيج تلك الكثافة في الساحات العربيّة على مدى السنوات العشر الماضية استمراراً لهذه الرغبة وذاكرتها.

***

كانت السماء قد أشرقت تقريباً بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الكورنيش، فشعرت أنّني يجب أن أودّع البحر. كان عليّ أن أعترف للبحر بأنّ بيروت، بكلّ عجائبها وقلقها خلال العامين الماضيين، قد أنقذتني من العديد من المعضلات. حتّى أنّها سهلت عليّ حياتي في طهران. شاركت مخاوفي مع بيروت وفهمتني. بلدةٌ صغيرةٌ تتصرّف مثل المدن الكبيرة. رفضت أشياءً عن الماضي لكنّها تشبّثت أيضاً بالماضي بهوسٍ غريب. من حيث كنت أقف، لم يرافقني سوى عددٌ قليلٌ من الأبراج البغيضة التي حجبت المدينة عن الشاطئ، وكانت تشاركني التحديق إلى البحر عبر نوافذها المظلمة الفارغة.
كان البحر في ذلك اليوم عاديّاً حقّاً. على بعد خطواتٍ قليلةٍ من الدرابزين الذي كنت أتّكئ عليه، جلس صيّادٌ على كرسيٍ بلاستيكيٍ وجسده يميل ناحية البحر. كان من الواضح أنّ الكرسي صغيرٌ عليه. كان الصيّاد يجلس وهو يميل على جانبه، وقد أنبأت الشقوق الصغيرة في ظهر الكرسي التي تم حياكتها بالأسلاك عن الانكسار المفاجئ للكرسي في المستقبل القريب. لكن يبدو أنّه حتى لو اختفى الكرسي، فإن نفس الجسم الذي له نفس الانحناء إلى اليمين، والعينان اللتان تحدّقان في نهاية البحر، ستظلّ هناك. جعلني وزن ذلك الجسم المستقرّ أتوقّف مؤقّتاً. بينما كنت أفكر في الحركة بين البشر المتعالين والعاديّين كموضوع للتاريخ / الثورة، جلس الصياد بشكلٍ عرضي، وتمكّن بطريقةٍ ما من الحفاظ على استقرار جسده وسط هذا الوضع الهش.
خطر في بالي أنّه في كل هذه الثورات، هناك دائماً تقنيّات حسّاسة وتكتيكات إبداعيّة ومناوراتٌ ذكيةٌ تعتمد على الحياة اليومية تجعلنا نستمر. فالصيّاد، مثله مثل الوجود الأبدي على الحافة الشرقيّة للبحر الأبيض المتوسط​​، قد طمس كلّ هذه الحدود المستحيلة في جانبٍ واحدٍ من كرسيٍّ بلاستيكيٍ ضعيف.
تخيّلت في لحظات الهدوء الأبدي، الأجساد البشريّة نفسها على شاطئ البحر في حيفا وصور وغزّة وطرابلس، وكيف ربطت نظرتهم الآفاق البعيدة لمدن البحر الأبيض المتوسّط ​​فوق حدودها الدمويّة. كانت شمس صباح اليوم العاشر للثورة تشّع ببطء على يديّ الصيّاد الثابتتين. بحلول هذا الوقت، يفترض أن يكون الثوّار الصاعدون الأوائل في طريقهم إلى الجسر حيث أقاموا حاجزاً على الطريق خلال الأيام العشرة الماضية.
عندما ركبت السرفيس، نظرت إلى الوراء للتأكّد من أنّ الصياد لا يزال هناك عند زاوية الكورنيش. كان مكانه المطلّ على البحر محوريّاً ومركّزاً، بحيث أظهر لي كيف أستمر في الجلوس على كرسيٍّ مكسور. حفظت هذه الصورة لاستعادة إيماني المحطم، ولأستعيد معها الاعتقاد بأنّه لا يزال من الممكن الانتماء إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من الناس العاديّين الذين بنوا آلاف الطرق الإبداعيّة للبقاء على قيد الحياة، وأنّه لا يزال من الممكن البقاء، والمقاومة، والوقوع في الحب وسط الميدان، وكتابة رسالة حب من السجن، والنفاذ من كل استجواب، وأنّه، وبغضّ النظر عن عدد المرات التي كُسِرنا فيها، لا يزال بإمكاننا الإيمان بإنسانٍ سامٍ يبكي في حبسه الانفرادي في الليل، وفي تفوق نظرة الإنسان العادي فوق حدود البحر، وأنّه من أجل توديع مدننا الحبيبة يجب أن نتذكّر هذا الإنسان.

كولرخ نافيسي
22 شباط 2022

“رغم كلّ هذا، أيّها القلب المتهور،
لا تنسى
أنّنا،
أنت وأنا،
احترمنا قواعد الحب.

لا تنسى
أنّنا،
أنت وأنا،
احترمنا قواعد الإنسان

بغضّ النظر عمّا
إذا كان هو تحفة الله
أم لا”.

أحمد شاملو
(من ثلاثة تراتيل للشمس، 1966)
ترجمته من الفارسية الى الانكليزية كولرخ نافيسي 22 شباط 2022، بالتعاون مع كمران راستگار وبهروز غماري-تبريزي

السيرة الذاتية مال شعلة لهب

العمل الفني: ريم القاضي, ٢٠٢٢

ترجمة: محمد النجّار

عن ما وصلت للي يسموها العهود الزمنيّة المتأخرة، هو آني خو ما ﭽنت ادري وين رايحة. ﭽان صايرلي مدة مختفية – بحيث يمكن فاتت سنين قبل ما أظهر. وبديت أﮔـص المناطق المستبعدة وأدوس على مواطن الغبن بيها. من تباوعون شلون سحـﮔـوها وهمّشوها، إلى أن فقّدوها قيمتها وموّتوها – تخليكم تصرّون بسنونكم إلى أن تنطحن. علمود هذا باوعت على كل شي بتمعن، وضخّمتْ كل جوانب المسألة بعقلي، وتأكدت من وسم كل التفاصيل حيل بعيوني من الداخل. “إلى أن ما بقى شي” – واللي هي الكلمات التي يستعملوها بوصف آثار الكوارث. بس ما ﭽان المعنى هو اللي جردوه من كل شي؛ وإنّما المعنى نفسه تغير. وآني هنا حتى أستخلّص نفسي من السالفة.

أول شي أستفتح بي هو أن أنسى الأسماء. حتّى اسمي راح اخسره. وبالنسبة لذرّات التراب المتجمعة بمنحدرات تزحلـﮒ: فهذي هي موطئ القدم اللي أفترض أنه راح يكون متماسك بحيث يكدر يشيلني. ملمسه رطب على باطن الرِجِلْ. لكن إذا تفركه بين الإبهام والسبابة: فالباقي مو فعلاً رطوبة. وإنما بقايا دهنية، طين بي لزوجة؛ فد شيء عبالك مستنقع قابل للاشتعال، أو أي شي شبّت بي النار مؤخراً. أحاول أﮔص مقطع عرضي بقطعة معدنيّة طويلة ألـﮔيها بجانب الطريق؛ وأمرّر القطِعْ من خلال الصلصال إلى أن أوصل إلى القاع على عمق شبر أو شبرين من الطين. وهذا يذكرني بخبالات أيام زمان: محاولات التجارة الرقمية بالطين الخلاب اللي ينأكل – وتحديداً طين المستنقعات: “طعمه شوية حلو، بس بي مرورة، وية نكهة نفط.”

الجغرافيا جابتلنا الأسماء. لكن ما تـﮔدر تظهر على السطح إلا إذا تنسى الأسماء – بحيث هذا ممكن يكون أي مكان، وهذا هو الأساس. فلمّن أحاول ألفظ الأسماء، بالكوّة أنطق مقاطع: به، بن، باه، بي، بر، بف … فما أﮔدر أتجاوز الأصوات البدائيّة. لأن الوقت، مثل ما تعرفون – لمن “يشتغل” فد مرة زائل – ومن ذاك الوكت صار خربان. لكن بعدين لمن الجغرافيا خفّفت قبضتها على الكوكب، ﮔـعد كل شي بمكانه، بس ما دامت. يعني هسة نـﮔدر نطير: شلون إنجاز هذا! وطبعاً احتجنا ندبر أجهزة – وبأغلب الحالات المستعملات اشتغلت مثل الساعة – لكن بدقيقة ما تتصدﮒ، رفضنا – كلنا – الخطوط اللي نطونياها، ورفضنا الخطوط اللي رسموها داير ما دايرنا.

ريم القاضي, ٢٠٢٢

شظايا الـﮔصب اليابسة تطشرت فوﮒ هاي الجزيرة الزغيرة. ﭽان جمعتهم بكومة واشتريت راحتي لو ما ألسنة اللهب تنط هنا وهناك على غفلة. وهذا بالضبط مثل الأيام الطويلة مال المصايب، أبد ما كان سهل أفرش حتى أنام؛ لأن لازم يكون عندﭺ استعداد بلحظة تلمين وتركضين – يعني تتعودين على هيـﭻ وضع. بس ألسنة اللهب المرعبلة هذي ما تضوجني؛ مو مثل ﮔبل. ﭽنتي تفوتين وانتي سهرانة فوﮒ حقول النفط المهجورة، وما تكبحين أي شي – وتفتحين المجال لشكو أنقاض باللاشعور حتى تطفح. قسم ﮔالوا على هذا خبال: أحلام تستبدلها اندفاعات. أكو جيوش كتلت نفسها علمود هذا “الفردوس”: بحيث الانتفاضات مالتنا تحرر أشكال سلوك ممكن يدمروها أو يسجنوها؛ بس لا، أحنا مجرّد ﭽنا دنرتقي بأخلاقياتنا الجمعية.

مو كل شعلة تحترﮒ بنفس الشكل؛ كل وحدة منها عدها مزاجها الخاص بيها. ألسنة اللهب داير ما دايري – ومن ضمنها الشعلات اللي تنطفي إذا تدوسين عليها بدون انتباه – تجدح بأضعف اهتزاز يوصل من الـﮔـع. احتكاك الجزيئات اللي دتتحرك يتسبب باحتراق ذاتي، شلون حجر الجداحة. آني ارتعبت لمن شفت ألسنة اللهب دتلحـﮔـني أو تـﮔـمّز ﮔـدامي – على الإيقاع مال خطواتي. بعدين قررت أجاريها. فـمن أﮔـمُز، أشوف تلاث ألسنة لهب طويلة تظهر. بعدين أرجع لي ورة: وأشوفها تختفي، بس تطلع غيرها وراية. وما فاتت مدة طويلة قبل ما بديت أحبهم اكثر؛ كل ما أتعرف على طبيعتهم أكثر. ويجوز هذا ﭽان شعور بالوحدة نابع منّي، بس أكو فد قرابة ما احد يـﮔـدر ينكرها تربط بين كل جروحنا اللي جوّة السطح.

آني راح أقاوم تسميتهم طبعاً – حتى لو ﭽنت متعودة هسة على مزاج كل واحد منهم. فَأثبت تماماً، وعيني مثبتتها على التحويل ما بين تدرّجات الثبات والزوال. وأﮔـعد أباوع، وأحاول أتكيّف لمن واحد منهم يستلم التحكم أو يحورن. على الجرف، أكو شعلة لهب وحدة بس دتحترﮒ؛ أغذّي النار شوية ﮔصب يابس وأنقاض طايفة. فـَصارت عندي نار الطبخ مالتي وأخلي حافظة معدنية متروكة على حافتها. فَلمّن أجمع البراعم الزغار اللي تعيش بالمي الـﮔيش، أتحرك بسرعة زايدة وأخوّف شوية طيور صدّاحة – فينتشرون لي فوﮒ بالسما. أرجع للنار، وأشوي جذوع الـﮔصب؛ وأﮔشّر الطبقات الخارجيّة حتى أوصل لداخلها الناعم. أزلطها؛ والأوراق النيّة أعلسها للترطيب.

تاكل النيران كل اللي بطريقها – ومن أبقى وياها أحس كأنّما آني نفسي لهب. ما اﮔدر انتـﭽـي، وتستحوذ عليّة فكرة أنّ اللهب ما يحترﮒ بشكل أفقي. وحتى أحاول وجرب أستوعب هاي الشغلة، أبني ﭽلـﭻ من جذوع الـﮔصب المشدودة سوة بأليافها. وحتى لا تاكله النار، أخليه على الكومة الأكثر تشبع بالمي، مو بعيد عن منطقة الطيور الصدّاحة. أتمدد عليه وأحاول أغفّي، وآني دا أباوع الـﮔـع تزوع ألسنة لهب ترفرف وترجف وتكبر وتتراجع. الهوا الدافي ما يتحرك؛ والضباب يحجب الشمس. الطيور المغردة تفتر وتغني، “ﭽررر إررر توصل ﭽـﭻ رررت تخلينا ننزح من الموطن الهش مالنا وﭽـررر بالكوة خلصنا من آخر خمس كوارث تررر رررت تررر رررر.”

ريم القاضي, ٢٠٢٢

بعد وقت قليل أﮔوم مرة لخ، وأمشي. أقيس المسافة بين الضفاف المتقابلة وأشوفها حوالي ألف وخمسميت خطوة. هذي القارة الزغيرة، بأضيق نقاطها، عرضها بس عشر خطوات. أعثر بألسنة اللهب، وخصوصاً البخارية والشريطية؛ ﭽـعوب رجلي اللي جلدها ثخين ما تتأثر، لكن أقواس رجلي الفلات تحترﮒ مرة لخ. احترﮒ شعر رجلي وتبيّن على الحافة الطويلة لثوبي علامات اشتعال. أدوّر على طريق أنسحب منه، لكن بعدني ما ملـﮔية الثغرة المناسبة بالقصة. ودا أشوف ثورة بكل برعم ناري ينطلق من التراب: حلوﮒ مطينة تحـﭽـي بلغة العناصر الأساسية – لسانات مقندلة دتدرب شلون تتمرد على المعتدين اللي ﮔلبونا كلنا عالبطانة.

جوة الـعباة، ﭽنا مختارين هرموناتنا بكيفنا. والجرعة ضبطوها بدقة عالية بحيث تـﮔدرون تعدلون جنسكم كل يوم شكل، إذا ﭽانت هذي ميولكم. وآني دائماً اختار كوابح الأندروجين؛ جزء من نظام معتقداتي – أن اللي وصلناله من مستوى الدمار كان بسبب المواد التي تغمر دوافع المنافسة، والاختراق، والأسلحة، والحرب، والربح، والموت… أتصور افتهمتوني. كانت الدورة منتظمة عندي، لكن نزف الدم صار شغلة عتيـﮔـة من ﮔبل دهر. فـَهنا، وآني دا أفرغ مثانتي بحفرة محفورة بالطين، شفت ﭽم قطرة دم وحسيت بألم قوي ابطني. كل هذي البتروكيماويات خلّت هذا المي ما ينـﮔاس، وبكل تأكيد ما ينشرب. ماكو شي يقاوم هنا مدة طويلة.

ريم القاضي, ٢٠٢٢

هسّة صرت أعرف أتجنب ألسنة اللهب بمهارة. أتوجّه على باﮔـة الـﮔصب اللي تعشّش بيها الطيور الصدّاحة، وأجر نفسي لي جوة على الـﭽلـﭻ. وأنجطل عليه بشكل جانبي – هذي المرة، بحيث المي ﮔبالي. وأباوع من خلال الـﮔصب على حقول النفط المندثرة من مدة طويلة والمليانة أكوام ضخمة مايلة تبخ أشباح الشعلات. جلي كيمياوي ثخين يسيح ويطلّع فقاعات من الـﮔـع. شلون شغلنا فقد قيمته – الشركات المتعددة الجنسيات أبد ما يقبلون يشغّلون الناس المحليّين – حتى يقتلون نفس الـﮔـع اللي ساكنين بيها؟ مستحيل. معدتي هسة دتوجعني كُلّشْ. أعصر بطني كأنّما دا أفصل جذعي عن الجزء الجواني من جسمي: الألم يندفع بداخلي مثل تشنج كهربائي مطوّل. بهذي الهزة المحمومة، يتزبلط طفل من بين زروري على الـﭽلـﭻ.

فاتت فترات طويلة وآني بس دا أباوع، وأحاوط إيدي داير ما داير الشعلة اللي كبرت بداخلي بفد طريقة. لكن اسمعوا: إذا ﭽانت كل شعلة انتفاضة، فهذي همينة راح تكبر. أبوس التمرد على شفايفها قبل ما أشمرها بالسما، اللي تنضم بيها لصفوف الطيور الصدّاحة المُجنّحة. وبعدين، أدوّر على المكان الذي ظهرت منه أول مرة. لـﮔيته، وخليت حلـﮔـي عالفتحة، وصحت بأعلى صوتي: حتى أﮔـعّد العصبية، وأجعجع الزعزعة من فـُﮔر العبودية ضمن طيات الأرض. شعلة أو اثنين مثلي تماماً برزت على السطح. وصح عددنا قليل، بس نبدي نهيّج العاصفة مالنا. بعدين عشرة يـﮔـعدون، ويصعدون؛ بعدها خمسين، وميّة. نبدي نزحف عبر القارات، ويقوى زخمنا شوية وية كل شعلة تضوّي دربنا.

نتحرّك سوة بخطوات منسقة باتجاه الطرمة المسيّجة: هذي القطعة الأخيرة من الأرض اللي تصلح للسكن واللي ألحقتها الجهة اللي دتستغل ألمنا وتغييبنا – المنتفعين من الحرب والدمار. وهنا، ماكو بوابة أو مدخل، ولا أكو طريق يمتد على طول المحيط المسيّج بلا نهاية. ولا أكو سبب، انتبهوا، لأصحاب الامتياز حتى تدوس رجلهم الحقول اللي موتوها بكسب أرباحهم. هواية من عدنا يتراجعون علمود الركضة اللي تنتهي بـﮔمزة. وبعدين، تندمج كل حشودنا، وتنتج قوة جماعيّة من الضغط الجوي اللي بس يتزايد، ويوصل ذروته بانفجار قوته وسرعته مهولة بحيث الاهتزاز المناخي مالتنا يرسل الكون وهو ديطنطن إلى ﭽم تقسيم فرعي من اللانهاية.

العنف مال طقسنا يمحق كل آثار الانفصال إلى أكوام من التراب. وما ضاع وقت قبل الدخول للحلبة: وهذي المرة وية تقدم النار بالهشيم من خلال الأرض اللي ﭽنا مستبعدين منها لمدة طويلة؛ وهي دتحرﮒ المناطق المحصنة بلا رحمة أو رغبة أنانية بتراكمات هائلة لرأس المال، والتوقف بس للأنهار وخزانات المياه الجوفية – مع الخضوع بتواضع للقدسيّة المطلقة للمي – وما عدا هذا ابتلاع كل شي كأنّما دتحاول تعكس وهج الشمس اللي ما إله نظير. وبعدين، لمن هدأنا، وانتـﭽينا بشكل جمرات متوهجة، استقبلنا العهد الجديد: عهد مقدس بعد ما غطس الكوكب بالنار، وتطهر من شروره.

ش.ب.ح

ملاحظاتٌ نحو تحالفٍ مع العائدين

ترجمة: حسين ناصر الدين

صورة لستارة شهبازي

أن تكتب يعني أن تعمل من أجل الموتى، أن تخلق الظروف الملائمة لعودة الأشباح. في سبيل إنجاح هذه المهمة يجب على الكاتب التخلي عن رغبته في سرد ​​قصة. الموتى لا يروون القصص، بل يعودون لتعطيل الروايات التي تصرّ على البدايات وصلب الموضوع والنهايات. يتحرّك الموتى في دوائر، ويعودون دوماً إلى مكانٍ أو لحظةٍ أو وضعٍ معروف. أن تكتب للشبح يعني أن تتقفّى الآثار، وأن تعيد النظر في حدثٍ قديمٍ لم تتمكن من استيعابه سابقاً ضمن سلسلة أحداثٍ متّصلةٍ وثابتة. يحتاج الشّبح نثراً استطرادياً ومعجميّاً تتّحد فيه النواحي الزمنيّة المتنازعة في لحظةٍ واحدةٍ من الزمن.

ليس الشّبح مجازاً أدبيّاً أو استعارةً شعريّةً نشير بها إلى أكثر الوحوش المكبوتة فينا قسوة. بينما تكثر قصص الأشباح في الحكايات القوطية، والمنازل المسكونة، والمقابر المهجورة، وفي حكايات اضطراب الأرواح عند دفنها في غير أماكنها، أو عودة النفوس المضطربة والمتعثرة للمطالبة بحقوقها، إلخ… ليس الشّبح مسألة إيمان، وليس من نسج مخيّلتنا. إنّه يرفض النقاشات حول حقيقة وجوده ويسخر من طقوس الطرد التي تهدف إلى إخفاءه. الشّبح هو الاختفاء، هو المجهول الذي ينشط حسيّاً، ويتحدّى بذلك قدرتنا على تأطير الظواهر في كلمات، ويرمي على عاتقنا مهمة إيجاد مفردات تصف كيف أنّ العالم المادي دائماً ما يكون نتاج قوى غير مادية.

كنت أودّ الحديث عن أشباحي، لكن ليس هناك شيء كهذا. تأتي الأشباح بأعدادٍ كبيرةٍ وبطريقةٍ مشتركةٍ بشكلٍ أساسي. يعودون لإلغاء التعريفات، وللمطالبة بإعادة صياغة كاملة للشروط التي ترسّخ على أساسها فئات مثل الحياة والموت، العضوي وغير العضوي، الحيّ وغير الحي. تعود الأشباح للاحتجاج على الموت، تلك الصناعة التي يستغلها أولئك الذين يقرّرون من يستحق العيش ومن يعتبر ميّتاً حتّى في حياته. يعود الشّبح لإلغاء شروط هذه الترتيبات الاستخراجية.

العمل من أجل الموتى، عمل. الأشباح متطلّبة، وتتذمّر للفت الانتباه، تماماً مثل الأطفال. تطالب بأن يكون غير المرئي مرئيّاً، وتصرّ على عدم اختزال ما هو غير مرئيٍ من مجال الرؤية، ولا تطيق تحمّل التمثيل، كما لا يمكن معالجة شكاويها أو تصنيفها ضمن المطالبات الفردية. في العمل من أجل الموتى، يسعى الكاتب جاهداً لإيجاد لغة مجرّدةٍ من الذات أو الامتلاك، وجملاً لا تعبّر عن الفاعلية الفردية (لا تتحدث الأشباح أبداً بصيغة المتكلّم).

أكتبُ عن الشّبح من دون أن أعرف ماهيّته. أقتبس اقتراحاتٍ مثل “الأشباح متطلّبون”[1] لكنني لا أعرف مدى حقيقة هذا الأمر. يسكن الشّبح تركيبات نحويّة متناقضةً تتعارض مع تأكيداتٍ مثل “يكون الشّبح” أو “لا يكون الشّبح”. تعريف الشّبح هو الفشل في التقاط طبيعة عدم وجوده. أن نعرّفه يعني أن نفشل في استخلاص طبيعة عدم وجوده، وأن نكتب عن الشّبح يعني أن نفشل في الكتابة عن الشّبح. يعني العمل من أجل الموتى أن نحتجّ على الظروف التي تفصلنا عنهم. لا يمكن للأحياء أن يعيشوا بدون الأموات، ولا يمكن للأموات أن يموتوا إن نُسيوا. عليه، تعني الكتابة عن الشّبح أن نتولّى مهمة العمل المتبادل: “إذاً الأحياء والأموات مترابطون. على الدوام. لم يكسر هذا الترابط سوى نموذجٍ حديثٍ وفريدٍ من الأنانيّة، خَلّف نتائج كارثيةً على الأحياء، الذين يعتقدون حاليّاً أنّ الموتى قد صاروا مُبعَدين”.[2] يمكننا القول إنّ الكتابة عن الشّبح تتمثّل في استجواب بنيتنا الهندسيّة وتباعدنا، وذلك لإنتاج لغةٍ يمكنها التعبير عن ترابطنا الروحي دون إنكار حداثتنا.

أن تكتب مع الشّبح في ظلّ الجائحة العالميّة، وأعداد الموتى الكبيرة، والكساد الاقتصادي غير المسبوق، والخسائر المتتالية، أصعب من الكتابة عن الشّبح في أوقاتٍ تبدو الأمور فيها طبيعية.

أولئك المُعتَبَرون أحياءً غارقون تماماً في البقاء على قيد الحياة، والركض وراء احتياجاتهم، والتعامل مع أمراضهم، والتصارع مع تفسّخ الحياة الاجتماعية، ودفن أحبائهم (كلّما أمكن ذلك)، وإيجاد جيوبٍ من ضوءٍ وأملٍ ومساحاتٍ للتنفس. يتعرّض الترابط بين الحياة والموت في حالة الأزمة الدائمة للخطر. من شدّة تركيزهم على البقاء على قيد الحياة، يحوّل الأحياء حياتهم إلى موت، بوجودٍ طفيليٍ يستنزف نشاطهم وطاقتهم المتضائلة. ينسون أنّهم مرتبطون بحالةٍ مشتركة، وأنّهم يشاركونهم ظروف وفاتهم. علينا أن نسعى للوحدة مع الشّبح “لأننا، مثله، ضحايا نفس الظروف ونفس خيبة الأمل”.[3]

تتراكم الأشباح عبر الأجيال، وتشكّل كتلةً عديمة الشكل من النفوس المفكّكة. شيءٌ ما (مثل المظالم التي لم يتم حلها) يدفعهم إلى العودة، حيث يتمسّك كلّ جيلٍ بجراحه التاريخية. تنصب الذاكرة المؤسسيّة كميناً للأشباح، وتهدّئ من مظالمهم من خلال التمثيل. فالاعتناء بجروحهم يعني دعم مصائرنا المترابطة. لا يتحرّر الشّبح من رغبته بالعودة الاضطّرارية إلّا عندما يتم الاعتراف أن هذه الجروح حصلت بإرادتنا.

كيف ستبدو الوحدة مع الشّبح؟ ما هي أنواع التحالفات التي يمكن نسجها مع حالاتٍ أخرى للوجود والعدم؟ كيف لنا أن نتخيّل تحالفاً ينظّم فيه الموتى والأحياء أنفسهم في ائتلافات انتقامية عبر العالم، ائتلافات تقاوم النظام النيوليبرالي الفاسد الذي لا يرحم، والمسؤول عن قتل الموت الذي نستحقه جميعاً والحياة التي يجب أن نعيشها؟

العمل من أجل الأموات عملٌ خاسرٌ، لكنّه ليس فريضةً أو التزاماً. الشّبح لا يردّ الجميل. إنّه يعلم أنّ ما ندين به لبعضنا البعض لا يمكن قياسه. للعمل مع الشّبح يجب أن تكون على استعدادٍ للتخلي عن كلّ شيء. أن تعطي دون مقابلٍ عندما “لا يكون العطاء استثماراً”[4].

تتحوّل لغة الأشباح من المفرد إلى الجمع وبالعكس.

العمل من أجل الموتى يعني فصل الربح عن الموت، وتخريب التوقّع حول عائد الاستثمار. الشّبح ميراثٌ خالٍ من المال، إرثٌ ضد البنوّة (نَرِثُ ما ليس لنا). يعود الشّبح لإلغاء العائدات. تعرّف العائدات بأنّها: “المال أو مبلغٌ من المال، يتم تحقيقه عبر ممارسة مهارةٍ أو مهنةٍ أو من خلال الاستثمار أو التجارة”، وهي أيضاً: “الكَسب أو الربح أو الدخل عبر الوسائل التي يتم إنتاج المال من خلالها”[5]. يتحدّى الشّبح التّعريفات، ويرفض إعادة ما هو متوقّع أو مستحق أو عادل. الشّبح ليس عادلاً، وليس مخلّصاً في الآخرة ولا صوتاً للعدالة الإلهية. الشّبح غير متوقّع، وفوق ذلك متقلّبٌ وهستيري، يقف ضد الحسابات والتكهّنات والتوقّعات المتعلّقة بما نعتقد أنّنا نملكه، أو نَدين به، أو نتوقّع الحصول عليه. يعود الشّبح من دون أن يعيد شيئاً، إلّا ما لم نتمنى قط الحصول عليه في بادئ الأمر.

يعمل جميع الكتّاب في هذا العدد مع الأموات ومن أجلهم. إنّهم ينخرطون، من دون عودة، في الأسى. يجدون أشكالاً (أدبيّة وشعريّة ونقديّة وبصريّة) مناسبةً لتأمّلاتهم حول العائد من الموت. خلال الكتابة، يصيرون أقلّ ممّا كانوا عليه قبلها، يتركون أجزاءً من أنفسهم تنفصل مثلما تنفصل صفيحةٌ جليديةٌ عن نهرٍ جليديٍ في طور الذوبان. يشارك كلٌّ من سلمى شامل، وهيثم الورداني، ولمى الخطيب، وسونيلا موباي، وكريستيان نيامبيتا، وآسيا ودود، ومكسيم حوراني، أبعاداً متنوّعةً عن الشّبح: الجن، والحياة الآخرة للحَيَوات السوداء، والخلايا الدقيقة، والعنف النبوي، والموتى الأحياء.

لا أعرف ما الذي سينتج عن هذه المساهمات، فبينما أكتب هذه السطور، يواصل المساهمون بدورهم العمل على نصوصهم. لكن، وعلى كل حال، أعتقد أنّ هذا الإصدار هو مساحةٌ لتشكيل شاعريّةٍ (غير تمثيليّة وانتقاميّة ومهتمّة) تشمل الأحياء والأموات، شاعريّةٌ تَعِد، حتى في حال فشلها، بإمكانيّة وجود لغةٍ تتناسب مع خسائرنا.


[1] موريسون، توني. محبوبة. فينتج، ٢٠٠٤.

[2] برجر، جون. “١٢ رسالة حول اقتصاد الموتى”. ذا سيلفر بيرد، ٢٠١٥. https://cleansilver2.wordpress.com/2015/06/16/twelve-theses-on-the-economy-of-the-dead-john-berger.

[3] أدورنو، ثيودور وماكس هوركهايمر. جدل التنوير. ترجمة جون كامينغ. فيرسو، ٢٠١٦.

[4] بالدوين، جيمس. صليب الفداء: كتابات غير مجموعة. فينتج، ٢٠١١.

[5] قاموس أوكسفورد الإلكتروني: السّجل الشّامل للّغة الإنجليزية (أونلاين). www.oed.com.

ب.ش.ر

في الدفاع عن الإنسانية

ترجمة: حسين ناصر الدين

صورة لنور صفي الدّين (فايسبوك)، ٢٠١٨.

“منّا إنسان كمان؟”

تكرّرت هذه العبارة مراراً وتكراراً على مسامعي كأنّها لازمة موسيقية، أثناء محادثاتي مع عاملات منازل أجنبيّات يعملن في لبنان كلّما سألتهنّ عن “نظام الكفالة”، إلى درجةٍ حفظتها معها عن ظهر قلب. كأنّها تعبّر عن نظام الكفالة عند طرح سؤالٍ عامٍ حول اندماج الأجانب داخل التّركيبة اللبنانية. توفّر البساطة الوحشيّة لهذه الكلمات الثلاث مدخلاً ينتزع فئة الذّات البشريّة من لغة إخضاع العمال المهاجرين، وذلك من أجل صياغة قواعد اجتماعيةٍ مختلفة. تُشتق كلمة إنسان: من الجذر أ-ن-س، أي أن تكون محبّاً ولطيفاً وودوداً، وهي صفاتٌ مضادةٌ للوحشية. في الحقيقة، لم تعد هذه العبارة سؤالاً بل صارت اتهاماً، وقد تُعزف من قوّة إيقاعها افتتاحيةٌ لخطابنا.

يُنظر إلى إلى تصنيف البشريّ (وما هو بشريّ) بشكلٍ متزايد على أنّه فعلٌ إقصائي. في ظلّ التلوّث ونقص الموارد والفيروسات المتحولة على سبيل المثال لا الحصر، يصرّ الكثيرون على أنّه لا يمكننا تفسير التجربة البشريّة من دون التطرّق إلى ما هو غير بشريّ. نشير من خلال هذه المصطلحات المزدوجة إلى التشابكات بين الذات والآخر، وكذلك إلى ما يمثّله مفهوم الـ”لا بشريّ”، الذي بات يُشكّل تحدّياً تحليليّاً واسعاً للأنماط السائدة في تفسير السياسي وتخيّله. يشير مفهوم الـ”لا بشريّ” ضمن الأنثروبولوجيا (مجال تخصّصي) إلى ما يُرمز إليه بشكلٍ فضفاض باسم “المنعطف الأنطولوجي/ الوجودي”، وهو أساسيٌ ومحوريّ في المسلك السائد على امتداد العقدين الماضيين.

يتحدّى المنعطف الأنطولوجي حدود العلم المتمحور حول الإنسان – العنوان نفسه الذي ينسب إليه الأنثروبولوجيون مشروعنا المعرفي (الأنثروبولوجيا، من أنثروبوس باليونانية، أو “الإنسان”، وكذلك في اللغة العربيّة “العلوم الإنسانيّة”) – للاستجابة بطريقةٍ مناسبةٍ لأزمةٍ بيئيّةٍ عالميّةٍ ناجمةٍ عن ويلات منظورٍ مركزه الإنسان للموارد والأرباح والخيال. يتطلّب ذلك منّا أن نتعامل مع نظمٍ أخرى من أشكال العلاقات، لا يُفترض فيها وجود فجوةٍ بين الطبيعة والثقافة، حيث مواضيع التاريخ ليست بشريّةً فقط، وحيث تكون الكيانات غير البشريّة مشارِكَةً فعّالة في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، حيث لا يكون التنوّع إطاراً محدوداً لفهم الاختلاف، وحيث تتداخل الأخلاق مع البيئات المختلفة. ترسّخت هذه التحدّيات في التجارب الملموسة للّقاءات الأنثروبولوجية، لا سيما ضمن مجتمعات السكان الأصليين التي لطالما قاومت عوالم حياتها محاولات الأشكال المؤسّساتيّة والخطابيّة الحديثة للاستيلاء عليها. لكنّ الانتقادات وُجهت بالأسماء نفسها، وكان أشدّها قسوةً تلك التي تلفت الانتباه إلى المنح الدراسيّة المُعطاة للسّكان الأصليين، تلك التي تستبق الاستشهادات الشعبية الحالية وتتجاوزها، وتلك التي تشير إلى الفجوة بين تنظيم النّظرة الكونيّة الأصليّة للمشاريع الفكرية والصمت التام حيال الحقائق القائمة للاستعمار الاستيطاني. رغم أن الكلمات التي بدأنا بها لا يفترض أن تُمثل مقدمة لما دوّن، أو لعلم الكون غير البشري، إلّا أنّه قد تناهى إلى مسمعي في مدينة بيروت، بين العامين ٢٠١٤ و ٢٠١٦، عبارةٌ تردّدها نساء إفريقيّات وآسيويّات مراراً وتكراراً: “منّا إنسان كمان؟” .

يوجد في اللغة العربيّة مرادفٌ لكلمة إنسان، وجمعها ناس، أي بشر. يمكن استخدام هذا المصطلح، بالمعنى المفرد للإشارة إلى الإنسان، أو بالجمع بحيث يشير إلى التعدّديّة، بينما كلمة “بشر” بحد ذاتها كلمةٌ مفردة. في الواقع، يوجد استخدامٌ ممتعٌ ومثيرٌ للفضول في اللغة العربية الحديثة لجذر كلمة بشر، حيث تشير مجموعة كلماتٍ في القاموس إلى معاني الفرح، في حين تشير مجموعةٌ أخرى إلى أمور تتعلّق بالجسم. نشتق من ب-ش-ر كلمات مثل بِشر، أو استبشار، للدلالة على الابتهاج والسعادة والترحيب، والأخبار السارّة والبشائر نفسها، ومن هنا أيضاً، دلالات النبوّة (تبشير)، والبِشر، والتوقّع والتّكهن، كما علم التنبؤ. تُشتق من ب-ش-ر أيضاً، كلماتٌ ترتبط بالبشرة وقشورها وتفكّكها، وعن لونها وشكلها العام، وعن اللمس وممارسة الجنس والتواصل المباشر. يمدّنا كِلا الاستخدامين للجذر بمصطلحاتٍ مباشرةٍ وفوريّةٍ تماماً كما تُبَثّ أخبار المساء إلينا على الهواء مباشرة. هكذا، يوجد قصّتان يمكن روايتهما هنا: إحداهما عن الإحساس المزدوج لـ ب ش ر، والأخرى عن الإحساس المزدوج للإنسان، بمعناه البشريّ والإنسانيّ على حد سواء. 

يكفي أن نقول إنّ القواميس الكلاسيكيّة تقدّم نظريّاتٍ متنوعةً عن هذا الأمر، بدءاً من تلك التي توحي بأنّ قدرة الإنسان على أن يكون سعيداً هي ما يميّزه عن الحيوانات، ومن هنا يحصل التّداخل بين الفرح والبشرة، مروراً بتلك التي تشير إلى التغيير الحاصل في بشرة المرء عند تلقّيه الأخبار السارة، وصولاً إلى أولئك الذين يعيدون الأصل إلى آدم، أول إنسان، والذي أُعطي الحُسن في البشرى وفي البَشرة. يرى الفيلسوف الأندلسي ابن عربي أنّ آدم هو الإنسان الأول، والنموذج الأصلي (أبو البشر)، مشيراً إلى شكله البيولوجي والمادي على أنّه مصبوب من الطين، بينما يمثّل أيضاً مهمّة أن يكون إنساناً روحيّاً واجتماعيّاً بالكامل (إنسان)، بما يعني أنّه خليفة الله على الأرض، باعتباره حاملاً للروح الإلهية ومُثقلاً بالإرادة الحرة. كوننا ملتزمين بالعلمانيّة، يهمّنا هنا الإنسان. الإنسان في جلده، وفي المخاض واللون، وفي الألم والعطش، وفي الإرهاق والوحشية، لذا تصبح كلمة “ب ش ر” أساساً لهذه الاعتبارات. لكن امتياز اللغة (كما دأب الفلاسفة الماركسيون على تذكيرنا) يكمن في أنّ المعنى يُستنبط من الحياة وليس من القواميس. وبالتالي، فإنّنا نلعب بآثارٍ متعدّدةٍ للكلمة، من البشرة البشريّة إلى المجتمع البشري، ومن الإنسان إلى الكائنات الأخرى غير البشريّة، ومن الإنسانيّة الفلسفيّة إلى التجريد من الإنسانيّة.

بدأت النصوص في هذا القسم من “المشتق” بسؤالٍ تأمّليٍّ مستفزّ: “ماذا سيكون رأيك إن التقينا في بيروت تسمح لنا بمعاملة بعضنا البعض كبشر؟”. لم تكن الغاية من استخدام كلمة إنسان إضفاء المثاليّة على فئة “الكائن البشري” المعمّمة، بل لاعتبارها مجموعةً احتفظت بمساحةٍ للحريّة، ولأنّها ترفض الإنطلاق من الرّموز السّائدة التّي تنظّم حاليّاً التّسلسلات الهرميّة لإنسانيّتنا، مثل اسم العائلة والجنسيّة والطائفة والعمل ولون البشرة. كيف يمكن للعودة إلى كلمة إنسان بمعناها الكامل أن تقدّم لنا دافعاً للتفكير في التكاتف الجماعي الحقيقي على كامل مساحة المدينة؟ هذه المدينة التي أعطت شيئاً لكلّ واحدٍ منّا؟ إلى جانب ضرورة وحتميّة المحاسبة على الدّمار البيئيّ، هل يمكن أن يكون هناك إقرارٌ جماعيٌ مشترك؟ على الرغم من كلّ المساعي لقمع مشروع “الإنسان المعاصر”، ما زلت أسمع أصوات النساء اللواتي أستطيع تذكّر أسمائهن، يعبّرن بغضبٍ وحزنٍ وتأمّلٍ ويقين، ويحتكمن إلى تجريدٍ يحافظ بطريقةٍ ما على حقيقته، حتى عندما ينتهك أفراده أيّ قاعدةٍ محتملةٍ من قواعد السلوك السائد. هذا من إنسانيتنا.

ح.ر.ق

كتاب الأحلام

ترجمة: حسين ناصر الدين

صورة لريجين سحاكيان

  في صيف عام ٢٠٢٠، بقي سكان  كاليفورنيا، مثلي أنا، محتجزين في منازلهم بسبب الإغلاق القسري في ظل انتشار الوباء والحرائق الغير بعيدة. تغيّر لون السماء، خلال أيام، إلى لون متوهج، خليط بين البرتقالي ولون الوحل، وقد كنت حزينة، كما الكثيرين غيري، على الخسائر في الأرواح والأرض، ومندهشة من التحولات الفيزيائية الهائلة التي أحدثتها ألسنة اللهب.

شارك كاتب مشهور، يقيم في سان فرانسيسكو، وهو ناشط في مجال التغير المناخي على وسائل التواصل الاجتماعي، قصة عن الحرائق وبغداد. اعتقدت للحظة أن الحديث كان عن العلاقة بين التكلفة البيئية الباهظة لشن الحرب وأثرها على الجثث والأرض، وانعكاساتها على المواقع خارج حدود العراق، لكن القصة لم تكن حول حقول النفط المحترقة في العراق، أو الانبعاثات المتصاعدة من  الآليات العسكرية الثقيلة، أو اقتلاع الأشجار وقطعها، أو تعقيدات الأجيال التي يصعب فهمها بسهولة، بل كانت سردًا عن رجل يعيش في الولايات المتحدة وقد شعر بحاجة إلى الخروج على الرغم من ملوثات الهواء الخطرة في الخارج.

لقد شعر هذا الرجل بالحاجة إلى استنشاق الهواء… وما يحصل يشبه تمامًا ما حصل في أيام الغزو المغولي للعراق عندما احترقت مكتبة بغداد العظيمة. قيل إن الحبر السائل وقتها من الكتب صبغ النهر باللون الأسود، وإن السكان شربوا قدر ما استطاعوا من مياهه ليحافظوا على بعض المعرفة. لكن، متى سنشرب نحن من الماء، أو نتنفس الهواء المنبعث  من كل ما احترق في حروبنا الأخيرة في العراق؟ متى سنحتفظ بأي جزء من المعرفة يتساقط أثقل من الرماد المنبعث من حرائق الغابات في حروبنا العالمية؟

أوقف الشتاء الحرائق في كاليفورنيا وسمح لعمتّي الوحيدة أن تأتي لزيارتي. لقد غادرت عمتي العراق بمرارة، عام ٢٠٠٧ بعد أن عايشت الحرب الإيرانية العراقية في مدينة البصرة الحدودية، ونسّقت الزهور في قذائف صاروخية فارغة وزيّنت بها غرفة جلوسها كما قدمت بفخر نبيذّا صنعته من التين.

وقد ذكرت لي ذات صباح أن جدّي احتفظ بكتاب أحلام. كتاب دوّن فيه تفسير وتسجيلات خاصة به بالخط الأرمني وقد حمله معه من يوزغات.

كان جدّي يبلغ الثالثة عشرة من عمره عندما عاد إلى المنزل ليجد أفراد أسرته مقتولين جميعًا، فغادر تركيا سيرًا على الأقدام. وصل أولاً إلى بيروت وبعد فترة وجيزة انتقل إلى بغداد ليقيم في مخيّم للأرمن والآشوريين الناجين. تزوج بعدها، وأنجب أطفالًا، وظلّ يعود من وقت إلى آخر إلى بيروت لتلقي العلاج في مشفىً أقيم أيضًا للناجين، وقد ظل على هذه الحال مدّة  خمسة عشر عامًا، قبل أن أولد في نفس المشفى. التُقطت إحدى هاتين الصورتين اللتين أملكهما له في حديقة المشفى.

أرتني عمتي الصورتين في نفس اليوم الذي أخبرتني فيه عن الكتاب، وعن عناء السفر الذي كانوا يتكبدونه لزيارته، من بغداد، إلى بيروت، وعن الرسائل التي كان يكتبها لهم. رأيت عينيه للمرة الأولى وشعرت في داخلي برهبة. وجهه القاسي وسترته المبطنة الناعمة.

حاولت خلال الفترة القصيرة التي عشتها في بيروت، العثور على ذلك المستشفى. قيل لي أن جدي دفن في مقبرة مجاورة لموقع المستشفى القديم، فطلبت من صديقي الذي شجعني على كتابة هذه القطعة مساعدتي في التنقل في الموقع. لكن جهود بحثنا باءت بالفشل، إذ علمت لاحقًا أني أعطيت اسم المستشفى الخطأ.

لعلّي أجد يومًا المكان الصحيح. ربما سأجده هناك، أو ربما ستكون الرحلة غير مجدية، مثل الثوب الذي ارتديته في رحلتي هذه، فستان أبيض التصق بجسدي جرّاء رطوبة صيف بيروت المزدحم… اختيار أحمق للملابس، تمامًا مثل الرحلة.

ما الذي كنت أفكر به؟ أن أقيم جنازة مرتجلة لرجل لم أعرفه من قبل؟ هل أشار صديقي إلى اسمه، ساحاك، بلغة لم أفهمها؟ وتاريخ عائلي حرم أولاده، مسبقًا، أن يجتمعوا معًا للأبد؟

بعد مائة عام من فرار ساحاك من يوزغات، أشعل حفيده، ابن عمي، بالتعاون مع رجال آخرين حريقًا في سجن تركي كان يُحتجز فيه مهاجرون وفرّوا من المكان.

على عكس ساحاك، لم يكن ابن عمي وحيدًا في ترحاله، فقد هرب من بغداد مع زوجته وابنتيه الصغيرتين ماريا وناتاليا، وهو يحمل ابنه الأصغر على كتفيه في رحلة عكسية الاتجاه، من بغداد إلى يوزغات. وفي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، في ظلّ المعاملة  الوحشية في العراق، كانوا هم أيضًا يسيرون على الأقدام عبر تركيا، في محاولة للهروب من ظلم ضباط الدولة.

وبعد أيام من الانهيارات والنوم خلف الصخور، والتحاقهم بمهاجرين آخرين على طول الطريق، تم إلقاء القبض عليهم، ففُصلت النساء عن الرجال. وزجّ بهم في السجون التي أطلق عليها اسم المخيمات. احتجزوا الرجال أربعة عشر يومًا ثم أضرموا النار في المكان. ركضت  ناتاليا، التي كانت بالكاد في أولى سنوات المراهقة في ذلك الوقت، بسرعة نحو والدها عبر ألسنة اللهب.

صارت ناتاليا اليوم امرأة شابة، وهي تعيد سرد الحادثة كذكرى من ذكريات الطفولة. تقول إنها سعيدة، وتحب تورنتو. لقد كوّنت صداقات حميمة. وأنا أكنّ لها الكثير من الحبّ. أريد أن أعانقها وأن أغلق عينيّ على كل تلك السنين. أتساءل إن كانت قد تعثرت بنفس الصخور التي تعثر بها ساحاك. وأتساءل عما كتبه في كتاب الأحلام ذاك، وإذا كانت تفسيراته تتماشى مع الأوصاف الموجودة بالداخل.

أتساءل ما الذي يحويه كتاب جدّي في طياته، وهل هو مثله، يرقد الآن في بيروت، في شقة إحدى حفيداته (واحدة من بنات عمومي) التي تنتظر هنا، مع عائلات أخرى، للسنة الرابعة على التوالي منذ مغادرتهم بغداد، ليس طلبًا للعلاج في بيروت كما فعل جدّي، ولكن للحصول على أوراق قد تصل أو لا تصل.

هل علم بما سيجري؟ هل رآه؟ هل قتلته الرؤى في ذلك المستشفى؟ أم أنّ الأمر كان أكثر بساطة. جسد أنهكه كل ما شهده، ولازمه المرض طوال حياته، حتى فارق الحياة.

لم أر غير الصورة التي ذكرتها سابقًا سوى صورة واحدة أخرى له، مأخوذة من مسافة بعيدة. كان يجلس القرفصاء على تلة منخفضة، بينما يتمدد حيوان قرب قدميه.

هل كان سيؤلمه أن يرى ما حل بأولاده وأولادهم؟ أم أنه سيشعر بالارتياح لعلمه أنهم غادروا؟ هل أحب تلك المدينة كما أحبّها أولاده؟ تلك المدينة التي مات له فيها ولدان رفضا مغادرتها. هل كشفت له أحلامه يوماً أن بغداد ستهتزّ بالنار مراراً وتكراراً في نوبات من التدمير صنعها الإنسان؟ تدمير يعادل سنوات من البراكين المتواصلة.

كانت التلال تهتز تحت قدمي وأنا أجري عندما كنت في الثالثة عشر. كان ذلك  قبل ولادة ناتاليا بوقت طويل، كنت قد وصلت إلى وجهتي، أميركا، منذ فترة طويلة. وكنت، في شتاء سنة ٩١، أنعم بدفء البطانيات وبأوراق الثبوتية القانونية، وقد حلمت حينها بأضواء تتدفق من سماء خضراء. قصصتُ رؤياي على صديقتي المقربة في اليوم التالي، وبعد أيام قليلة بدأت حرب الخليج. رأيت على شاشة التلفاز نفس تلك الأضواء المتدفقة، والسماء الخضراء نفسها.هرعت صديقتي إليّ في المدرسة، وأخبرتني بحماس أنني يجب أن أكون عرّافة. أمضيت الشهر التالي أشاهد الأضواء الخضراء مرارًا وتكرارًا، كانت الأخبار تحدد أماكن تدفقها بالخرائط، وصار وجه صدام يطبع على شرائط المبيعات الصفراء ولفائف ورق الحمّام. كنت أعلم أنهم يروننا جميعنا مثله.

ذهبت برفقة والدتي إلى بغداد بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الأولى. كنت وأبناء عمومتي نستلقي في الظلام قبل ان ننام، وكنا نتشارك الغرفة سوية، جميع أحفاد ساحاك. همسوا لي يخبرونني عن الليالي التي هزت منازلهم، والانفجارات المتساقطة من السماء. ظنوا أن العالم كله ينهار. لم توقف الأرض اهتزازها أبدًا.

بعد عقد من تلك الليالي، بدأ الغزو الثاني، فلم يعد هناك سرير نستلقي عليه ولم يعد هناك منزل أو أي مكان في الوطن نعود إليه. صار  الوطن كندا أو ألمانيا ونيوزيلندا والسويد. أصبح  شاشة تبث التجمعات، والولادات، وفي كثير من الأحيان ، وفاة شخص ما، بالكاد نتذكره .

كتاب الأحلام مكتوب بلغة لا أستطيع قراءتها. قبل عدة ليال من كتابة هذا النص، حلمت بالجبال والثلج، وأنني وأنا أمشي فوق القمم، صادفت جثة كبيرة لحيوان غريب أمامي. وعندما نظرت عن كثب ، رأيت أنها  لم تكن  الجثة الوحيدة. كانت الجثث  في كل مكان حولي وقد جُمع شعرها وبشرتها وحوافرها الداكنة في حزم متجمدة. رأيت  صديقتي أيضًا، نفس صديقة الطفولة التي أخبرتني قبل ثلاثة عقود أنني يجب أن أكون عرّافة. رأيت الثلج يتساقط ، وأنها تقول لي أننا سنكون على ما يرام، لكننا يجب أن نعود إلى المنزل. واني كنت أعلم أنها كانت مخطئة، وأنها أتت من مكان مختلف. نظرت عبر الليل وأسفل المنحدر العميق، فرأيت  فرو حيوان ضخم، بحجم الجاموس، نصفه مدفون في الجليد المتوهج في عتمة الليل، كان يرقد بلا حراك على بعد أقدام قليلة مني. كأنه كان بحثًا بلا نهاية.  في الأعلى، في السماء، على بعد أميال من الأرض كنا مغمورين بالثلج الرطب، كنا نحترق.

***

يقال إن العراق دولة مبنية فوق محيط من النفط. جفت البحار الضحلة والمخلوقات التي كانت تطفو بداخلها، ودُفنت هناك ثمّ ظهرت على مدى ملايين السنين في السائل الذي سيتحكم  بالمستقبل في نهاية المطاف. حولتها  حرارة الأرض المرتفعة إلى موارد طبيعية، بعد ملايين السنين، أصبحت الكائنات الحية على تلك الأرض أيضًا موردًا لما يسمى التقدم. إن التضحية بالحياة العراقية، التي تم عرضها على الشاشات في جميع أنحاء العالم في عام 1991 وأطلقت عليها الجيوش التي شنّتها  اسم حرب الفضاء الأولى، ستُستخدم لتسجيل جلسات المحاكمة، ولفرض التكنولوجيا التي تتحكم في هذا العصر بالحركة العالمية للمعاملات والتبادل، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ، الحروب على الإرهاب ،المعلومات المضللة، وتراكم الثروة الناتج عن محاولة إبادة الناس والتجربة البشرية على حدٍ سواء.

يقال إنك إن رميت حجرًا في أغنى آبار النفط في العراق، يمكنك أن ترى الدخان يتصاعد.  يتسرب السائل اللزج، من وقت لآخر، من طبقات الأرض المسامية، مكونًا بركًا سوداء وينابيع على سطحه. ظلّت الآبار تحترق، في ظل الاحتلال، عند دخول قوات التحالف الأمريكي حتى مجيء داعش،  وظل الغاز يلتهب، ويتسرب النفط إلى المنازل، وإلى حناجر الأحياء والأجيال التي لم تولد بعد… ومع ذلك ، هناك طرق أخرى لتوليد الحرارة وعواقبها تعيد تشكيل الحياة.

يكتب إلينا الفنان سجاد عباس من بغداد حيث شهد احتراق السيارات والأجساد والفرص.  يوثق عمله المقاومة المستمرة للطمع واللامبالاة التي تقف وراء الجشع المسبب لحرق بغداد.

استشهد الناشط والشاعر صفاء السراي في بدايات الانتفاضة العراقية الشعبية عام ٢٠١٩، إثر تصويب عبوة غاز مسيل للدموع على رأسه مباشرة.

يواصل الروائي والشاعر والاستاذ غزير الإنتاج سنان أنطون عمله في إلقاء الضوء على شعراء العراق كشكل آخر من أشكال المقاومة في ترجمته للعديد من أعمال الراحل صفاء السراي. يقوم  أنطون بهذا العمل من أجلنا نحن فقط،  لمن عرفه منا كرمز، كواحد من بين كثيرين لن تتاح لهم الفرصة أبدًا لمشاركة كلماتهم مع عالم تم اجتزازهم منه.

في رؤىً واسعة ومؤثرة، وعناية بأدق تفاصيل المشاهد الشخصية والمادية، تأخذ الفنانة جنان العاني التكاثف العنيف للإعلام في العراق وتعكس مساراته عبر تجارب دلالية، في تأثيره على الأرض والحياة. تستحضر صورها، والبحث الطويل الذي يغذيها، التاريخ وبصماته الجسدية، بتوجه واثق ومحب يطرحه استفزاز آسر. 

أمضت الفنانة ريم القاضي سنوات عدة  في عملها البحثي ” حقل مجنون ” ، أحد أكبر حقول النفط المعروفة ، والذي سمي “مجنون” لغزارة إنتاجه.في جنوب العراق ، تلجأ  القاضي إلى استخدام  أسلوب تحويلي حميمي للفهرسة لبناء روايات بديلة عن طبيعة غزارته وسبب تسميته. في تجربة للصورة واللغة، تأخذ من أكثر الوجود ثباتًا في هذا المجال، الشعلة، لتكشف عن موقع ينتج أكثر بكثير من مجرد بدائية مذهلة. تُبرز ريم، في تجربة ترتكز على الصورة واللغة، أكثر سبب لاستمرارية وجوده، الشعلة، للكشف عن موقع ينتج أكثر بكثير من النفط الخام الهائل..

قدم عالم الأنثروبولوجيا الطبية والموسيقي الدكتور عمر ديواشي بحثًا شاملاً وأصليًا حول الآثار المعقدة والواسعة النطاق لحروب العراق على جسم الإنسان وعلاقتها بأنظمة الرعاية الطبية التي تهدف إلى معالجتها. بدءًا من الجرح البسيط  وصولًا إلى الهجرة العميقة، يركز عمل ديواشي  على المواد الأكثر هشاشة والأكثر أهمية في الحرب، ألا وهي لحمنا.

في هذا السياق، يتخذ المساهمون في العمل ثبات اللهب والرغبة في الاحتراق، وما تحتّمه علينا، والتركيبات الجديدة التي تتركها وراءها. في ما يخص العراق، يعيد كل فرد تشكيل هذه القوة، في السياق الثابت للاستخراج من خلال النار ومقاومتها المقابلة في الشكل المادي والمكتوب والمتخيل.

العدد: 03 03/22_08/22

ش.ب.ح 

تحرير: ميران أرسانيوس

مساهمات نصية من هيثم الورداني ولمى الخطيب، سونيلا موباي، كريستيان نيامبيتا، سلمى شامل، وآسيا ودود

مساهمات فنية من ماكسيم حوراني

ب.ش.ر

تحرير: سمية قاسم علي

مساهمات نصية من مجد الشهابي، أليكساندرا شريتح، كولرخ نفيسي ، هشام صفي الدين ، وهنا سليمان

مساهمات فنية من ألين ديشامب

ح.ر.ق

تحرير: ريجين ساهاكيان

مساهمات نصية من سجاد عباس، جنان العاني، ريم القاضي، سينان أنطون، وعمر الدواشي

مساهمات فنية من سجاد عباس، جنان العاني، ريم القاضي، وعمر الدواشي

أي سحر هذا؟

ترجمة: حسين ناصر الدين

يلعب جوني دِب في فيلم تيم بورتن “ظلال داكنة” (Dark Shadows)، المقتبس عن مسلسل كوميديّ قوطيّ بُثّ في أميركا في الستينيات والسبعينيات، دور برنابس كولينز، الميّت الحي، الذي يوقظه عمّال البناء من دون قصد، بعد سبات دام لقرون. في إحالةٍ كلاسيكيّةٍ لأفلام السّفر عبر الزمن، يرى برناباس (هو، الذي لم يكن مسافراً عبر الزمن بقدر ما كان مسافراً فيه) الأخوين The Carpenters يؤدّيان أغنيتهما المشهورة “على قمّة العالم” (On Top of the World) على التلفزيون. يهرع برناباس بغضبٍ وانزعاجٍ نحو جهاز التلفزيون الخشبيّ المزخرف (تجري أحداث الفيلم ويحاكي ديكوره فترة السبعينيات)، ويبدأ باقتلاع الأشرطة الكهربائيّة من أحشائه. “أيّ سحرٍ هذا؟” يسأل برناباس نفسه، ثمّ يوجّه كلامه إلى المغنية صارخاً: “اكشفي عن نفسك، أيتها المغنواتيّة الصغيرة!”.

انتشرت عبارة “أيّ سحرٍ هذا؟” في العديد من الميمز، التي تسخر بشكل عام من اللاضيين وقليلي العقل الذين يتعوّذون من السحر والشعوذة في كلّ مرّة يرون فيها ما يفوق إدراكهم المنطقي أو الحسّيّ.

هذه الصور مضحكةٌ فعلاً، لكنّ التساؤل عند رؤيتها، يعود دائماً إلى الجوهر الإبادي للحداثة وأخطائها التي رسمها المشروع التنويري بالدّم. كان التقدّم لدى الحداثيّين مرتبطاً بدوافع عديدة، لكنّه كان متّصلاً بشكلٍ أساسيٍّ بالرّغبة في ترتيب العالم في تصنيفاتٍ وخاناتٍ وأطرٍ محدّدة. لذا، ليس من المفاجئ أن نجد أنّ الشعوب والمجتمعات التي لم تقدر على تطبيق هذه التصنيفات أو على التمييز بين الرمز والواقع، قد صُنّفت تلقائيّاً على أنّها مجتمعاتٌ بدائية، أو مُستعمَرة، أو مجنونة أو هستيرية أو طفولية، أو كلّ ما هو ليس بشري.

من ذا الذي يقدر أن يميّز الفرق بين الكائنات الحية الفاعلة وبين المفعولات الجامدة؟ بين البشر وغير البشر؟ بين المتحضّرين والمتخلّفين؟ ومن هم أولئك الذين يركضون نحو الهضاب ويتعوّذون بالسحر عندما تنقصهم المعرفة العلميّة الكافيّة لتفسير ظواهر قد تكون بديهيّةً لغيرهم؟ بالنسبة لفرويد، وكثيرين من البيض في تلك الفترة، كان جواب ذلك السؤال واضحاً: “الهمجيّ”. يؤمن الهمجيّ بأنّ الرموز تستمدّ قوّة مراجعها، وأنّها تتشارك معها بطاقةٍ مشتركةٍ (الطلاسم مثلاً)، وهو إيمانٌ يخلط بين الرمز وبين الواقع[1]. دأب علماء الأنثروبولوجيا على تسمية هذا النوع من الإيمان أو المعتقدات بالروحانيّات، وهو نظام عقائديٌّ لم يُبنَ على مبدأ الـ”طبيعة الموضوعيّة المؤلّفة من حقائق مطلقة” من جهة، والإنسان المفكّر المنفصل عنها من جهةٍ أخرى، الإنسان المنشق الذي ما هو إلّا الرّجل الدّيكارتي الحديث.[2]

رغم كلّ ذلك، لم يلتزم الحداثيّون أنفسهم بالأطر والخانات التي تعبوا في تسطيرها وترتيبها بعنايةٍ وإتقان، يكفي أن نلمّح إلى الدوافع والغرائز الذاتيّة والجنسيّة، والقلق والمخاوف غير المنطقية التي لازمت الدوافع الحداثيّة. كشفت المسائل شديدة الإلحاح التي تواجه الكوكب اليوم عن القيود المعرفيّة للفكر الديكارتيّ،[3] وصارت النظرة إلى الرّجل الحداثيّ كحاملٍ ومسبّبٍ لتراكماتٍ من الأحداث البيئيّة الكارثيّة- من اكتشاف ما عُرف باسمِ العالم الجديد إلى الاحتباس الحراري- تكتسب اقتناعاً واقبالاً متزايدين في الأوساط الأكاديميّة وبين الناشطين على الأقل.

إضافةً إلى ذلك، أدّت قدرات الحوسبة المتزايدة بشكلٍ مستمر، إلى ما يمكن إحصائه، وما يمكن التنبّؤ به ونمذجته، إلى تصدّعٍ في المفاهيم المتعارف عليها عن الزمن التسلسليّ، والذاتيّة والفرديّة والفاعليّة بطرقٍ غير مسبوقة. في بيئة الأسواق الحرّة، تُحوّل مفاهيم البيئات الحضريّة التي تشمل البشر -وشبكاتهم الكهربائية ومنازلهم وحافلاتهم وغيرها- المدن إلى أنظمةٍ شديدة التعقيد وذاتيّة التنظيم. الأمر الذي يحرّك عناصر متباينةٍ في تدفّقٍ واحدٍ فعّال، وهو ما يصير واضحاً عندما نفكر في السبرانيات، وإنترنت الأشياء (IoT)، والمدن الذكية، إلخ…[4]

تتآكل تصنيفات الواعي وغير الواعي بشكلٍ مطّرد ضمن هذه الترتيبات،[5] حيث يستمر كلٌّ من البشر والأشياء بتشكيل واحدهم للآخر باستمرار، وتجاوزه وتحريكه. تتآكل أيضاً فكرة الإدراك أو الفكر العقلاني كنظام مهيّأ لمعالجة تعقيدات العالم. في الوقت الذي تتآكل فيه هذه المفاهيم، يظهر بدلاً عنها اقتناعٌ بكينونةٍ لعالمٍ مبنيٍّ على متغيّراتٍ واسعةٍ ومعقّدةٍ، حيث لا يمكن إلّا للذكاء الحسابي أن يفهمها وأن يستمر في العمل ضمن معطياتها.

تندلع عن تفوق هذا النوع من الحوكمة الخوارزمية، باعتباره منطقاً تنظيميّاً معمّماً -من خلايانا العصبيّة إلى العالم بأسره- أشكالًا جديدةً من الروحانيات، تقلب الانقسامات الميتافيزيقيّة الأخرى والأكثر جوهريةً، رأساً على عقب: انقسامات مثل القدرة، من خلال التمثيل الرمزيّ -أيّ اللغة بشكلٍ أساسيّ- على تقييم العالم من ناحية، وقدرة أخرى تتبع تاريخياً للأولى، تتيح العمل في العالم من خلال التقنيّة، أي إنتاج أدواتٍ من صنع الإنسان لتشكيل البيئة.[6] تؤمن هذه الروحانيّات الجديدة بأنّ المقاييس التي تنتجها الأدوات الحسابيّة ملاءمةٌ أكثر من التفكير والتحليل لإعطاء صورة عن العالم.[7]

وبالفعل، كان انتزاع بروميثيوس النار من زيوس يهدف أيضاً إلى علاج عجز الجنس البشريّ في عالمٍ تسيطر عليه الآلهة. جاء مصطلح البروميثيوسية (Prometheanism) للدلالة على الاعتقاد بأنّه لا يمكننا أن نضع حدّاً لمرونتنا أو لمرونة العالم من خلال الوسائل الاصطناعية. تنبع هذه الفكرة أيضاً من الاعتقاد بأنّنا لا نستطيع إلّا أن نعرف تماماً ما نصنعه. الطريقة الوحيدة لمعرفة العالم الذي نعيش فيه هي في صنع بديلٍ تركيبيٍ للعالم العضوي، الذي لا يعرفه إلّا “الله”، خالقه.[8]

يجب التنبّه مع مثل هذه التحوّلات الجذريّة في نسيج التجربة الحياتيّة، إلى عدم الوقوع في قصر النظر التاريخيّ الذي ينطوي على الكثير من التنظير من حافّة الأوقات الاستثنائية (“العالم لم يكن هكذا من قبل” ، “نحن نعيش في زمن”…). من بين موضوعات البيانات التي تتدفّق بلا احتكاك، تنبثق أشباح الماضي الوحشيّ الثقيلة، والتي لا تزال موجودة في الحاضر وقد شكّلت المستقبل بالفعل. أشباح أولئك الذين تعرّض وضعهم كبشر للهجوم الدائم، وأولئك الذين تم اختطافهم والاتجار بهم كممتلكاتٍ بشريّة، والذين تم استخراجهم مثل الكربون، أو تدجينهم كأنّهم حيوانات، أشباحٌ تعيش في أنقاض عالمٍ وتحترق من خلاله وعبره.

نقترح في هذا العدد من “المشتق” ثلاث كلماتٍ لثلاثةِ محرّرين ضيوف جدد. كلماتٌ تستحضر ميرين أرسانيوس في طيّاتها الشبح، المنتقم المزعج الذي يسعى بإصرار إلى التكفير عن المظالم المنهجيّة العميقة التي ترتكبها البشرية، بينما تخاطب سميّة قاسم علي الإنسان وملامح وكالته والآداب التي تبلور الشخصيّة وتفكّكها من خلال القواعد القانونية والاجتماعية، وتلعب ريجين ساحاكيان بالنار، للوقوف في وجه التطوّر الهندسيّ لآلات القتل الجماعي، كقوّةٍ لإعادة ضبط التاريخ ومحو الحضارات، ولكن كذلك كاستعارةٍ عن إرادةٍ لا هوادة فيها ومعديةٍ للنضال.


[1]براكن، كريستوفر: Magical Criticism: The Recourse of Savage Philosophy. مطبعة جامعة شيكاغو، ٢٠٠٧، ص.٢

[2]فرانك، انسلم. “Introduction.” Animism (Volume 1) تحرير أنسلم فرانك. مطبعت سترنبرغ، ٢٠١٠. ص. ١٢

[3]لاتور، برونو. We Have Never Been Modern ترجمه كاثرين بورتر. مطبعة جامعة هارفرد، ١٩٩٣.

[4]سبنسر، دوغلاس. The Architecture of Neoliberalism: How Contemporary Architecture Became an Instrument of Control and Compliance. Bloomsbury Academic ٢٠١٦، ص. ١٧-٤٦.

[5]مبيمبي، جوزف-أشيلي. Brutalisme. La Découverte ٢٠٢٠ ص. ٢٦.

[6] المصدر نفسه ص. ٣٣

[7] المصدر نفسه ص. ٨٣

[8] براسير، راي. Prometheanism and its Critics ، تحرير روبن ماكاي وأرمن أفانيسيان. مطبعة MIT، ٢٠١٤، ص ٤٧٧.