الإمام والزرافة

إيمان مرسال

Ali Cherri, from the "Dead Inside" series, watercolor. 2021

لم تكن مرسيليا غاية الطهطاوي في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، بل محطة للعبور إلى المدينة القصد، باريس. وهي تتشابه مع المحطات الأخرى على الطريق، ففيها إشارات لأحاديث مؤجلة سيأتي على ذكرها بالتفصيل عندما يصل إلى وجهته. هكذا ينهي الفصل الأول من المقالة الثانية والمعنون “في مدّة إقامتنا في مدينة مرسيليا”: “ومما رأيته في مرسيليا الملعب المسماة السبكتاكل وأمرها غريب ولا يمكن معرفتها بوصفها بل ولابد من رؤيتها بالعين، ونذكرها في الكلام على باريس.”[1]

لا يوجد دليل على اهتمام جرائد مرسيليا بمرور الطهطاوي بالمدينة، ولا بالأربعة وأربعين طالباً عدد طلاب بعثة محمد علي إلى فرنسا في ١٨٢٦،[2] فالمدينة التي مات نصف سكانها في طاعون ١٧٢٠، كان ميناؤها في ١٨٢٦ معبراً أساسيّاً لفرنسا، يصل إليه الكثيرون كل يوم، أو بمعنى آخر، كانت مرسيليا بوّابة للتفتيش والفحص والعزل والرعاية والحماية من الأمراض عبر ثلاث مؤسسات عملاقة للحجر الصحيّ.  مع ذلك، انشغلت صحافة المدينة وسكانها فيما يشبه الهوس منذ أكتوبر ١٨٢٦ وخلال النصف الأول من ١٨٢٧ بزرافة تمرّ بالمدينة في طريقها أيضاً إلى باريس. هذه “الزرافة” التي قضت خمسة وعشرين يوماً في مركب في البحر، ومرت بنفس الموانئ والمدن التي مرّ بها الإمام، معروفة بأسماء كثيرة: جميلة مصر، زرافة الباشا، جميلة إفريقيا، زرافة إفريقيا، الابنة الاستوائيّة، زرافة شارل العاشر، زرافة جفري.

يحكي لنا أكثر من كتاب هذه القصّة: أرسل محمد علي زرافة كهدية إلى الملك شارل العاشر، وصلت الزرافة إلى مرسيليا في ٢٣ أكتوبر ١٨٢٦، كانت أول زرافة تصل إلى فرنسا حية، ولم تكن معرفة الفرنسيين بالزراف تتجاوز هيكل اثنتيْن محشوتيْن معروضتيْن في أحد مراكز الأبحاث في باريس منذ ١٧٦٤. كان محمد علي قد أرسل أختها إلى الملك جورج الرابع في انجلترا وكانت الأختان قد خطفتا من أمهما في إقليم سنار الجبلي في النوبة، زرافة جورج الرابع عُرِضت في حديقة وندسور خلف شباك ولكنها ماتت سريعاً. سافرت زرافتنا من الاسكندرية لمرسيليا مع رجلين يرعياها اسمهما حسن وعتير، وثلاث بقرات ليوفروا لها طعامها لأنها كانت ما زالت رضيعة، وكان مسئول الحجر الصحي يكتب عنها تقريراً يوميّاً أثناء فترة الكرنتين.  أقامت الزرافة في المدينة طوال الشتاء بسبب دفء مرسيليا النسبيّ. وفي خلال إقامتها، كان يتم عرضها بشكل يوميّ كفُرجة لسكان المدينة وزائريها. في ٣ إبريل ١٨٢٧، اجتمع علماء متحف باريس لاختيار أحدهم للذهاب إلى مرسيليا واصطحابها إلى باريس. اختير للمهمة عالم الطبيعة إتيان جيفري سانت هيلير (١٧٧٢- ١٨٤٤)، الذي كان أحد علماء حملة بونابرت على مصر في ١٧٩٧، وأصبح عضو الاكاديمية الفرنسية للعلماء منذ ١٨٠٧ وسيكون أستاذ تشارلز داروين بعد ذلك بعشرين عاماً. كانت مهمته في قصتنا بالإضافة لإحضار الزرافة حية إلى الملك، دراسة مفاصلها وعظامها حتى إذا ماتت لا قدر الله فيمكن تحنيطها من أجل متحف الطبيعة. سيمشي جيفري خلف البقر وأمام الزرافة خلال رحلتها من مرسيليا إلى باريس، يعتني بصحتها ويعطي أوامره لعتير وحسن في كل خطوة، أحياناً يسبقها إلى البلدة التالية ليرتب نومها في اصطبل، ومرة كان عليه أن يجري لها جراحة لنزع مسمار دخل في قدمها. ستكون الزرافة عرضاً في المجال العام في كل بلدة تمر بها، حتى أتى يوم العرض الكبير، حيث قُدّمت إلى الملك شارل العاشر في ٩ يوليو ١٨٢٧، ثم عاشت في حديقة النباتات في باريس حيث كان يتم عرضها أربع ساعات يوميّاً أربعة أيّام في الأسبوع، وشاهدها أكثر من ٦٠٠ ألف شخص خلال ستة أشهر.[3]

شهد عام ١٨٢٦ حدثين هامين بالنسبة لنا في مرسيليا، حدث مرور الطهطاوي بالمدينة ضمن بعثة طلابيّة لم يكن لينتبه لها سكان المدينة، وحدث مرور زرافة شغف بها ووثق حركاتها وتحاكى بها نفس السكان. نحن نعرف الآن، بعد قرابة قرنين، أن رحلة الإمام أصبحت نصاً محوريّاً وأساسيّاً في اكتشاف الغرب الحديث وفهم الحداثة وأعطابها في الثقافة العربيّة الحديثة على الأقل، وأن الإمام لعب دوراً جوهريّاً في تأسيس ما نسميه اليوم خطابات النهضة والتنوير وعلاقات الشرق بالغرب. نعرف أيضاً أن الزرافة حظيت بحضور هائل في حياتها حيث تم رسمها في لوحات، واستلهامها في عروض مسرحية، وإطلاق اسمها على بعض موضات الأثاث وتسريحات شعر النساء، حتى أنه “استُثمرت أرباح تذاكر التفرّج عليها في إقامة مشاريع معمارية توسعت بها حديقة الحيوان في باريس.”[4]  بعد مماتها، ستصبح لجثتها أهمية “لقد كان علم الحيوان الفرنسيّ أكثر ميلاً إلى التشريح وعلم وظائف الأعضاء منه إلى دراسة سلوك الحيوان”.[5]

محمد علي والي مصر هو مَن أرسل الطلّاب كي يتعلّموا ويساهموا حال عودتهم في تأسيس دولته الحديثة، وهو من أرسل الزرافة كي يحسّن علاقته بملك فرنسا وصحافتها، ويمهد لقبول المزيد من الطلاب. فمنذ فبراير ١٨٢٥، وهناك عداء يتزايد ضد الوالي في الصحافة الفرنسيّة، لأنه أرسل ابنه إبراهيم باشا إلى اليونان مع جيش لقمع التمرد ضد العثمانيين. في الحقيقة، بينما كان الطهطاوي يخرج من القاهرة مع صحبه إلى الإسكندرية في يوم الجمعة ٨ شعبان ١٢٤١ (١٧ مارس ١٨٢٦)، كانت جرائد ليون ومرسيليا تندد بانتصارات إبراهيم باشا، وتعبر عن تعاطفها مع الأخوة البيلوبونيز الذين سيعانون تحت السيطرة المصرية. تاريخيّاً، لن ينسحب الجيش المصري إلا بعد هزيمته أمام قوى أوربية ـ منها فرنسا ـ في ١٨٢٨، وهو نفس العام الذي سيقرر فيه محمد علي أن يرسل مسلة مصرية كهدية أخرى لشارل العاشر، وهو ما تحقق بالفعل بوصول المسلّة سالمة إلى باريس في ١٨٣٣.

رغم أن تجربة مرسيليا لم تزد عن خمسين يوماً، منها ثمانية عشر يوماً في “الكرنتينة”، ولم تزد في كتابه عن عدة صفحات، إلا أن الطهطاوي أسّس خلالها لنوعية المشاهد التي تستحق التحوّل إلى معالم داخل رحلته، وشكّلت الطرق السردية التي ستمكنه من السير فيها، حتى يصف لقارئه ما لا يمكنه “رؤيته بالعين”. مثلاً، استراتيجية الاستطرادات التي سيخرج بها عن كل “سبكتاكل” ليصفه؛ فيستقطب في حديثه عن “الكرنتينة” عرض آراء فقيهين من المغرب، ولا ينسى أن يشير إلى اختلافهما حول استدارة الأرض ودورانها حول الشمس. ثم يقدّم بيت الكرنتينة وجغرافيته وآداب مائدته وطقوس النوم فيه.

منذ مرسيليا، تتجاور الاختيارات اللغوية في تفاوض الطهطاوي مع لغتين من أجل وصف ما لا يوصف؛ أحياناً تستطيع مفردة عربية أن تتسع لتتضمّن ما لم يكن من معانيها، أو تضيق مفردة فرنسيّة لتجد معادلاً عربيّاً. أحياناً أخرى لا يمكن إلا ذِكر المفردة الفرنسيّة – مثل سبكتاكل – لتعمل مثل مولّد غامض للتخيّل.

الأكثر من ذلك، مرسيليا هي أوّل مكان تبزغ فيه “أنا” رفاعة الفرديّة. فمنذ مقدمته عن قصة اختياره للبعثة “فلما رُسِم اسمي في جملة المسافرين […]”،[6] سيطر ضمير الجماعة “نحن” على السرد ليشير إلى طلّاب البعثة من لحظة الخروج من مصر وحتى الوصول إلى موردة مرسيليا:” وكان ركوبنا، وما زلنا نسير، مررْنا، لنذكر، تزوّدنا، سمعنا، جاوَزنا، رأينا، رسوْنا”. بعد مرسيليا، ستتسع معاني “نحن” لتشير أحياناً الى رعايا الوالي، العرب، المسلمين، المصريين، وغيره. في مرسيليا يخرج رفاعة مع الآخرين من محل الكرنتينة المتّسع الذي ظل يصفه بـ “بيت” إلى فضاء المدينة فيكون أول ما يصفه لنا “القهاوي”، ثم الشوارع والعربات والدكاكين العظيمة المزججة بالمرايا والنساء، قبل أن  يعود إلى وصف تفصيليّ لمقهى محدّد إلى أن يصل إلى لحظة وقوفه أمام المرآة، حيث ينبثق ضمير المتكلم المفرد خارج ضمير الجماعة:

“وحين دخولي بهذه القهوة ومكثي بها ظننت أنها قصبة عظيمة نافذة؛ لما أن بها كثيرًا من الناس، فإذا بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم في كل جوانب الزجاج، ظهر تعددهم مشيًا وقعودًا وقيامًا، فيُظَن أن هذه القهوة طريق، وما عرفت أنها قهوة مسدودة إلا بسبب أني رأيت عدة صورنا في المرآة، فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج؛ فعادة المرآة عندنا أن تثني صورة الإنسان.”[7]

إذا استعنّا بدراسة ديريك جريجوري لثقافة السفر والتكوينات المكانيّة للمعرفة، فيمكننا القول إن المسافر هنا لا ينجذب لمَعُلم، بل يخلقه.[8] فعل الانجذاب جماعيّ يُشارك فيه الأفراد، اما فعل الخلق فهو خاصّ ولا يمكن أن يحدث إلا في لحظة انسلاخ عن الجماعة المنعكسة صورتها في المرآة. اللغة تبرهن على ذلك: “وحين دخولي – مكثي بها – ظننتُ، فيُظّنّ – وما عرفتُ، فعرفتُ”.[9] أيضاً، يتجلى خلق المشهد في أن الطهطاوي لا يسجّل المرآة كـ “مَعْلَم” أو كـ “عَرْض” لشيء لم يره من قبل؛ فهو يذكر معرفته السابقة بالمرايا، حتى لو كانت مختلفة و”تُثني الانسان”، كما أن المرايا الكبيرة ليست سرّ الصدمة؛ فنحن نعرف أنه قضى قبيل سفره من مصر ثلاثة وعشرين يوماً مع بقيّة المبعوثين في سراي الوالي محمد علي بالإسكندرية، وأن خروجهم إلى البلد في هذه المدّة كان قليلاً.[10] لكنه لم يكتب – مع ذلك – شيئاً عن مرايا القصر، ذلك أن مرايا القصر لا تشوّش رائيها، فهي مستقرة في مكان إقامة خاص رغم اتساعه. لابد أن سراي الوالي كانت بالنسبة لرفاعة “بيت”، مثلما رأى فيما بعد أن الكرنتينة بيت. لقد خلق رفاعة “سبكتاكل” للحظة هشاشة شخصيّة ظن فيها بسبب المرايا أن المقهى قصبة أو طريق، ثم أدرك أنها “قهوة مسدودة”. إنها لحظة داخليّة في النهاية حدثت في مكان عام، مزدحم، ليس شارعاً، ولا قصبة، ولكنه أيضاً ليس بيتاً ولا قصراً.

لم تصلنا شهادة أي زميل للطهطاوي في البعثة عن لقائه الأول بفرنسا، باستثناء مظهر أفندي الذي كتب قطعة قصيرة للغاية يصف فيها جُملة مناظر، وهي بالترتيب: علوّ المباني والشوارع المرصوفة والعربات التي تجرها جياد والسيدات السافرات في مرسيليا. ثم البساتين والمتنزهات في باريس، ثم يأتي إلى ما لا يمكن وصفه “وشاهدتُ في موضع آخر أبدع ما أخرجته يد أصحاب الصناعة والفنون. وإني كثيراً ما أذهب إلى الممائل (المسارح) التي لا يمكنك أن تفهم ما هي إلا إذا شاهدتها عياناً”.[11] للأسف، لقد كتب مظهر أفندي مقالته في صيغة خطاب لقريب بالفرنسيّة، ورغم أنه حصل عن هذه المقالة على جائزة الإنشاء الفرنسيّ والإعراب، فقد وصلتنا بترجمة مسيو جومار في تقريره عن إنجازات طلاب البعثة في ١٨٢٨.  اذ إننا لا نعرف إذا كان مظهر أفندي قد استخدم مفردة تياتر أم سبكتاكل، فقد ترجمها مسيو جومار “الممائل (المسارح)”، ولهذا ليس عندنا إلا “سبكتاكل” الطهطاوي.

لقد جاء رفاعة الشاب من القاهرة وهي في طريقها إلى ما يسميه “التمدين”، ومرّ بالإسكندرية التي كرّر لنا في سياقات مختلفة شبهها بمرسيليا، ومع ذلك لم يسرد لنا لحظة هشاشة مشابهة قبل أن يغادر مصر. هشاشة الطهطاوي في مقهى مرسيليا هي أقسى وأرق ما سجله من وحشة؛ ليست وحشة القفر والخلاء، ولا الصراخ في البريّة، ولا وحشة التعرّف على الوجه في المرآة، ولا وحشة الحنين إلى الوطن.[12] إنها وحشة إدراك “المدينة”، أو بالأحرى، المجال العام الذي حدد يورغن هابرماس في النصف الأول من القرن التاسع عشر كإطار زمني لتحوّله إلى فضاء مفتوح بشكل أساسيّ للمواطنين، يسمح بوجود ممارسين متعددين بعد أن تضاءل الارتباط بالكنيسة وبالصالونات النخبوية الأرستقراطية منذ نهايات القرن الثامن عشر، وحيث أصبح المقهى والجرائد والنقد على وجه التحديد بعض أهم أشكاله.[13] مفردات المشهد تقدّم لنا أول تعرّف للطهطاوي على المجال العام، فالمقهى ليست مجمعًا للحرافيش، بل هي مجمع لأرباب الحشمة. كما أن هذا المجال يتضمن وجود المرأة/القهوجيّة الجالسة على صفة عظيمة، والنظام / تنسيق محل الجلوس، وطريقة طلب المشروبات، وحجم فناجين القهوة، وأيضاً، الجرائد أو “أوراق الوقائع اليومية لأجل المطالعة فيها”.[14] كأن الطهطاوي حاول مبكراً أن يعمل اثنوغرافي للحداثة ممثلة في المجال العام، في وقت كانت الاثنوغرافيا مقصورة على المستكشف الأبيض وموضوعها منابع الأنهار والبحيرات والأدغال التي لم يصلها أحد من قبل والقبائل وسكان البراري والقفار والحيوانات العجيبة وبالجملة، كل ما يُوجد خارج ما اصطلح على تسميته “حضارة”.

لو كان بمقدور الزرافة أن تتكلم لعرفنا شيئاً عن الوحشة التي خبرتها في كل خطوة في رحلتها، بعيداً عن الغابة والفصيلة والطبيعة ولكنها حيوان لا ينطق. مع ذلك وثق لنا الأرشيف شهادات الآخرين عن كل نأمة صدرت عنها: مسئول الحجر الصحي، طبيبها جفري، شهود عيان، رسامون وقصاصون وشعراء وعلماء حيوان. لم تستطيع الزرافة أن تخلق مشهداً، لقد كانت هي نفسها “السبكتاكل”، أكثر إثارة للفضول من الطلاب القادمين للتعلّم. لقد جاءت من الأدغال، من المجهول العجائبيّ، إلى الأزقة والساحات والطرق وقصر الملك وحديقة النباتات ثم حديقة الحيوان قبل أن تنتهي كجثة تمّ تشريحها وحفظها لبعض الوقت في متحف الطبيعة في باريس. ساهمت الزرافة كـ “سبكتاكل”، حيّة وميتة – بفاعليّة – في تدجين الفضاء العام في طوره المبكر. هو ذاته الفضاء العام الذي حاول الطهطاوي وهو يكتب رحلته تحديده ووصفه وجعله أليفاً رغم غرابته. إذا وضعنا الزرافة بجانب الطهطاوي، فنحن أمام متاهة من السبكتاكلات: رفاعة ينظر في المرآة ونحن ننظر إلى رفاعة وهو ينظر في المرآة، الزرافة تمشي في المدينة والجماهير تتفرّج على الزرافة ونحن ننظر إلى الجماهير وهي تتفرج على الزرافة.

في “تخليص الإبريز”، ُ يُخصّص الطهطاوي الفصل السابع في مقالته الثانية لمتنزهات باريس، فيعود إلى الحديث المؤجل عن التياتر أو “السبكتاكل”: “وصورة هذه “التياترات” أنها بيوت عظيمة لها قبة عظيمة، وفيها عدة أدوار كل دور له (أود) موضوعة حول القبة من داخله. وفي جانب البيت مقعد متّسع يطل عليه من سائر (الأود) بحيث أن سائر ما يقع فيه يراه من هو بداخل البيت”.[15]

السبكتاكل لا يمكن وصفه، ليس لعجز اللغة العربية عن تقديم مفردة تتسع لتتضمّن ما لم يكن من معانيها، ولكن لأن السبكتاكل كفضاء عام كان عجيباً وغرائبياً ولا يمكن تدجينه إلا باستخدام مفردات الفضاء الخاص “بيت”، و”أود”. لقد انتبه العالم جيفري سانت هيلير لذلك عندما جعل البقرات الثلاث تمشي أمام الزرافة حتى تشعر بالأمان. وعندما رفضت الزرافة مرة أن تتحرك بسبب رعبها من تزاحم المتفرّجين، أحضر لها حصاناً ليمشي أمامها فعادت للمشي على قدميها إلى باريس.


[1] رفاعة رافع الطهطاوي. تخليص الإبريز في تلخيص باريز. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٣. ص ١٢٢.

[2] يمكن معرفة نوع الاهتمام ببعثة ١٨٢٦ في فرنسا في هذه الدراسة:

Silvera*, Alain. “The First Egyptian Student Mission to France Under Muhammad Ali.” Middle Eastern Studies. 16.2 (1980): 1-22.

وفيها يؤكد الباحث أن الاهتمام الأكاديمي تمثل في تقارير مسيو جومارالرسمية وتصريحاته للصحافة عن خطوات تعليم وتقدم الطلاب الذين يصفهم بالطليعة، بينما كان نفس الطلاب مثار سخرية في الجرائد الشعبية في باريس خلال ١٨٢٧ و١٨٢٨ ويضرب أمثلة على ذلك. انظر ص ١٢ و١٣.

[3]  لمعرفة قصة الزرافة بتفصيل أكبر ومعرفة تنوع الكتب التي كتبت عنها، انظر  Lagueux, Olivier. “Geoffroy’s Giraffe: the Hagiography of a Charismatic Mammal.” Journal of the History of Biology. 36.2 (2003): 225-247.

[4] Lagueux, Olivier. 2003. P.240.

[5] Lagueux, Olivier. 2003. P.241.

[6] رفاعة رافع الطهطاوي ١٩٩٣. ص ٦٠.

[7] السابق، ص ١١٩.

[8] Gregory, Derek. “Culture of Travel and Spatial Formations of Knowledge.” Erdkunde : Archiv Für Wissenschaftliche Geographie. Kleve. –. (2000): 297-319.

[9] الطهطاوي ١٩٩٣. ص ٩٦.

[10] انظر تقرير مسيو جومار عن طلاب البعثة في ١٨٢٨ في: الأمير عمر طوسون. البعثات العلميّة في عهد محمد علي ثم في عهديّ عباس الأول وسعيد. مطبعة صلاح الدين بالإسكندريّة، ١٩٣٤. ص ٢٠.

[11] El-Ariss, Tarek. On Pain and Untranslatability in the Literary World of Rifaʿa Al-Tahtawi. , 2019. P.6.

يقرأ طارق العريس هذا المشهد في سياق ما أسماه ألم الطهطاوي وانهياره الداخلي، حيث يتشابه الانهيار هنا مع انهيار ما يسميه لاكان بتجسّد الغيريّة؛ الانعكاس الموحد للذات في مرحلة المرآة والذي يضمن وحدة الصورة والهوية. في قراءة العريس، يجسّد اللقاء مع المرآة في مرسيليا ارتباك/تشوّش الطهطاوي وحنينه إلى الوطن. “الهويّة” هي مولّد قراءة العريس، ومفرداتها تدور حول وعي الطهطاوي الذي كان عليه مواجهة أناه في المرآة. لا شك أن قراءتي للمشهد في حوار مع قراءة العريس.

[12] Habermas, J.(1991): “The public sphere” In Mukerji, Chandra, and Michael Schudson. Rethinking Popular Culture: Contemporary Perspectives in Cultural Studies. Berkeley: Univ. of Calif. Press, 2001. Pp. 398 -404.

[13] رفاعة الطهطاوي ١٩٩٣. ص ١١٨.

[14] رفاعة الطهطاوي ١٩٩٣. ص ٢٠٤ – ٢٠٥ .