ابنة الجنّيّة

سونيلا موباي

العمل الفني: مكسيم حوراني, لقطة من "هومو فينيس", فيلم, ٢٠٢٢

تنبيه: قد يتراوح هذا النصّ أحياناً بين الفصحى والعامية مثل ما أنا بتراوح بين الذكورة والأنوثة، كما الجنّ كائنات حيّة ولكنّها بدون هيئة ملموسة. فيما يخصّ الكتابة عن أمّي، لا يمكن أن أكتب إلّا “بلغة أمّ”، ولا يمكن أن تكون لغة الأمّ عندي لغة فصحى منمّقة (على روعة جمالها) ولا فيها تكون لغة عربية دارجة صرفة لأنني ما تعلمت العربية من النساء اللي لعبوا دور الأمومة في حياتي.

أستذكر كلمات حسين البرغوثي، ذلك الشهاب الذي انطفأ (مثل أمّي) قبل موعده في كتابه عن الشعر الجاهلي: “ليس هذا بحثاً أحفظ فيه شيئاً (عن الجن) وتغيب عنّي أشياء” بل ما تقرأونه “حدوس وتخيّلات وشطحات مزروعة في التاريخ الفعلي”[1]، أمّا هنا، فهي مزروعة في تاريخ أمّي، المرأة التي ولدتني ثم تلاشت، ومع ذلك ظلّت تطوف حولي بأشكال شتى طيلة حياتي. والطيف ما يطوف بالإنسان، أي يدور حوله من الوساوس أو الخيال…أو الجانّ، ما يدفعني إلى الربط بين الجنّ وبين جنون عقلها.

عندما تمّ استكتابي لهذا الملفّ، أوّل ما طُرحت عليّ فكرة الغوص في موضوع الأشباح والجنّ تحديدًا، خطرت أمّي على بالي. في بادئ الأمر استغربت إيجاد هيك صلة. إلّا أنّ الجاحظ يقول: “كلّما كان [الشيء] أغرب كان أبعد في الوهم، كلّما كان […] أطرف، وكلّما كان أطرف […] كان أبدع”[2]. بعد أن تعمّقت في انشغال التراث العربي بكائنات خارقة تُسمى الجنّ وتمتاز بكونها حاضرة وغائبة في آن واحد، صار عقلي يبتدع صلة بين جنون أمّي وهذه الكائنات. إذ في حياتي كذلك هي التي تمتاز بالحضور-الغياب في آن. 

أمّي التي عانت من الفصام من قبل ما أولد بأكثر من عقد، والتي لم أنشأ معها لأكثر من شهرين بعد ولادتي قبل أن تنتكس حالتها الصحّية فتودع مصحّاً للأمراض العقلية وتنزلق رويداً نحو انفصال تامّ عن الواقع، فالموت السريري، فالموت الجسدي من السرطان الذي أبتْ أن تتلقّى العلاج له. تُوفيت الوالدة وأنا في الـ 24 من عمري. يعني أنّي أمضيت 24 سنة وهي على هذه الحال – حاضرة غائبة عندي. كنت أحتار كيف أعبّر عن هذا الحضور – الغياب، إذ يبدوان لي وجهين لنفس العملة. كأنّ الجنّ والمجانين يتشاركون هذه الخاصيّة، وكأنّهم جنّ محبوسون في قفصٍ اسمه الجسد. 

هذا ما خطر لي وأنا واقفة عند جثّتها قبل أن تدخل إلى فرن الترميد. كان وجهها بارداً جامداً عندما لمسته. نقزت ولم أقدر على الاستمرار بوداعها. فقط بعد عِقد صرت أرتاح، لأنّه استوعبت أنّ النار عتقتها من قفص الجسد. ربّما هذا أيضاً ما يفسّر شعوري بالاغتراب عن جسدي فعنصر النار يتوق إلى الانعتاق من عنصر الصلصال الذي خُلقنا منه. نقرأ في رسائل إخوان الصفا الباطنيين: “(نحن) الجانّ أرواح خفيفة ناريّة وبنو آدم أجساد أرضية ثقيلة (…) نحن نراهم ولا يَرونا، ونسير فيهم ولا يُحسّون بنا، ونحن نُحيطهم وهم لا يمسّوننا”[3]. عند رحيلها ما تفجّعت ولا استطعت أن أكتب عنها شيئاً إذ كان حضورها في غيابها عني. شحّ التفاصيل والفراغ اللامتناهي الذي شعرت به تجاهها جعلت الكلمات عندي كالجانّ تستعصي الالتقاط، فهي حاضرة وتراني ولكنّي أراها تسير فيّ وتحيط بي وأستصعب الإمساك بها فتتهرّب الأفكار عند جلوسي للكتابة وكأنّ الجنّ يتهرّبون فقط لما أحتاجهم.  

إذاً الجنّ كائنات موازية لنا تتعايش معنا وتشاركنا نفس الفضاء. هنا، ألجأ إلى الاشتقاق اللغوي الذي لطالما فتح لي أبواباً في العربيّة كانت موصدة أو لم أكن أعلم بوجودها حتى. فيما يخصّ مادّة ج-ن-ن، لنمعن النظر في ما يسميه اللغويّ ابن فارس مقياس المادّة وهو يقصد الاشتقاق الكبير أي المعاني التي تشترك فيها مفردات كلّ جذر، فالعرب تشتقّ بعض الكلام من بعض[4].

ويصعب الحديث عن الجنّ بدون ذكر نقيضه الإنس وبحسب مقاييس اللغة الأنس هو ظهور الشيء، ولهذا الإنس خلاف الجنّ لأنهم سُمّوا لظهورهم، وأنس الإنسان بالشيء أو الشخص إذا لم يستوحش منه. إذاً نحن بإزاء ثنائيّة الظهور والخفاء التي توحي لنا أيضاً بأنّه يستحيل أن نستأنس بالجنّ. لم يتسنَّ لي أن أستأنس بأمّي إذ لم يكن لها أيّ حضور ملموس في حياتي سوى ثلاث أو أربع زيارات كانت أوّلها وأنا في سنّ الثماني وبضعة مكالمات هاتفيّة. 

تنوّه شريكتي في الألسُن رنا إلى هذا الرابط اللغويّ بين الجنون والأمومة، من خلال الجنين، وهو الولد الآخذ بالتكوّن في رحم أمّه، والذي لا يصبح إنسيّاً ما دام في الرحم. الجنين مرتبط جذراً بجنون الأمّ التي قرّرت أن تجعل من جسمها طنجرة لجِبِلة بشريّة لا شكل محدّد لها بعد ولا يعرف أحد بالضبط ما ستكون عليه عندما تكبر[5]. إذا تمعنّا في اشتقاق لمادّة ج-ن-ن نجد أنّ “الجيم والنون أصل واحد وهو الستر والتستّر” فجنّ الشيءَ يجنّه جنّاً أي ستره وكلّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك وجنّ عليه الليل أي ستره وأخفاه فجنون الليل ظلمته واشتداد حلاكه. منه الجنون أي الخبل يتغشّى العقل حتّى يفسده والمجنون من يتّصف بذلك. وكذلك جنون النَبت استطالته والتفافه والمجنون أي النخل الشديد الطول. والجنّة هي الحديقة ذات الشجر والنخل الكثيف فمنها تُدعى دار النعيم في الآخرة جنّة.

وتتابع رنا قائلةً إنّ الجنين هو المستقبل بامتياز. قد يكون ذلك صحيحاً إلّا أنّ اشتقاق الجنين من كونه مستتراً في البطن أيضاً يفضي إلى اشتقاق آخر فالجنين في اللغة ما كُفّن وقُبر والجَنَن هو القبر والكفن فالجنين هو المقبور أو المدفون الذي انتهى مستقبله وأصبح ماضياً بالنسبة لنا نحن الأحياء فيقال مثلاً الحقد الجنين. كنت جنيناً في رحم أمّي التي صُنّفت مجنونة رسميّاً فجُنّت عنّي بعد ما بطّلت جنين، بل صارت هي الجنين. وكونها لم تُدفن بل ترمّدت فلم تصبح جنين قبر بل جنّها البحر إذ نثرنا رمادها في الخليج العربي من على شاطئ في بومباي حيث عاشت هي وأبي أوائل السبعينيات. بحبّ أتخيلها جنّية تحرّرت من قفص الجسد الإنسي المتعب الذي عمره ما كان يليق بها لتعيش في جَنَنها البحري بدل تراب الأرض. في هذا التراب بدوره تنمو الأجنّة فالجنين هو أيضاً أوّل النبات في الحبّة المنغرسة في بطن الأرض. لذا الأرض إذا أزهرت يُقال جُنت أو تجنّنت فهي مجنونة إن لم يرعَها أحد. منها تُشتق اسم الفردوس بالعربية – الجنّة – الأرض المستترة بالشجر والنبات وورقها، التي نحن محجوبون عنها لأنّها ثواب مستور عنّا حتّى يوم القيامة. أجنّةً نبدأ الحياة، وننهيها على أمل في جنّة لسنا متأكدين من وجودها. أليس من الأجدر أن نسعى إلى أن نصير جانّاً بعد فناء الجسد فعنصر النار أبقى وأخلد إذ لا يحتاج سوى الهواء. لا يمكنني أن أجزم من المصادر بما فيها القرآن إذا كانت الجنّ فانية كالإنس. بالنسبة لي أمّي تعيش بجنّيتها وإن مات قالبها الإنسي. لا أؤمن بأنّها في جنة من الجنان بل أني بضل حسّ فيها ملازمتني أنا جنينها من المَجنّة بالفتحة وهي المكان الكثير الجنّ.

 الفصام الذي عانت منه أمّي عصاب يجنّ وعي المصاب عن واقعنا ويزيح به إلى واقع من التخيّلات والفانتازمات المروّعة تُبقيه حاضراً جسديّاً وتغيّبه أو تنفيه عقليّا. وإذا نظرنا إلى مادّة فصم له أصل أو معنى واحد وهو انصداع أو انكسار الشيء من دون أن يبين. يا للصدفة عدنا إلى الاستتار في الجنون. كان فيها انكسار غير مرئي لا يمكن تحديده ولذا يصعب جبره وترميمه. يصيب ما لا يبين للإنسي الذي من طبعه البينونة، ما يصعّب على المجتمع التعامل مع المفصومين ورعايتهم ضمن علاقات مستدامة مبنيّة على الودّ، ناهيك عن علاجهم.

إذا كان الجنين مربوطاً بجنون الأمّ، كما تقول رنا، فكنتُ جنيناً مخفيّاً داخل جسدها الذي جُنّ عقله ثم جُنّ عنّي جنونها. والجنون بهذا المعنى أي خبل العقل واختلاله هو أيضاً إحدى حالات الحب، هذا المعنى يتعدّى العربيّة ويوجد في الفارسيّة فكلمة “ديوانِه” تدلّ على المجنون والعاشق كلاهما. لا عجب في ذلك إذ الجَنان هو القلب لأنّه مستتر ومخفي داخل الجسم. ظلّ أبي بجنانه مجنوناً بحبّه لأمّي رغم جنون عقلها. أبي هو العاشق المجنون بكل معنى الكلمة. وكيف؟ لقد لمح أبي، الإنسيّ بدون شك والقادم لتوّه من دلهي[6] لإعداد الدكتوراه في الفيزياء، امرأة أميركيّة بيضاء من أصل يهودي اسمها جون Joan (لاحظوا مجدّداً التشابه اللفظي بين اسمها والجنّ)[7] وهي تغنّي في جوقة فأخذ صوتها بجَنانه بعد أن استجنّ صوتها أي استطربه فأصبح مجنوناً أي مولعاً بها حتّى كاد يذهب عقله. بحسب الجاحظ فالغول اسم لكلّ شيء من الجنّ يعرض للمسافرين متلوّناً في ضروب من الصور والثياب.[8] لقد تعرّضت أمي لأبي المهاجر لكنّها فتنته بدل أن تفتك به. أمّي طبعاً كانت إنسانة من لحم ودم ولكن كان عندها صفات قد نطلق عليها خارقة، كالقدرة على استيعاب وتشرّب لغات وثقافات إلى درجة تربك من تحادثه، خاصة بمعرفتها في السينما والموسيقى.[9]

ثمّ الجَنَن هو الموضع الذي يُستتر به أي المخبأ. حاول أبي أن يوفر لها جَنناً من أذى المجتمع واحتقاره لمن يزعجه. في عصور مضت كانوا يعتقدون أنّ أصحاب العُصابات والأمراض العقليّة ممسوسين بالجانّ فكانوا يضربونهم لكي “يطردوا” الشياطين من أجسامهم. حاول أبي أن يحميها بشتى الطرق فجنّ على جنونها وعاد بها إلى أمريكا فقد كان حبّه لها جِنّيّاً والجنّي من الأشياء ما طال وامتد إلى يومنا هذا!

خفت أن أثير سخريته، هو الذي يقول بالماديّة الجدليّة ولا يتمسّك بأيّ عقيدة دينيّة إلّا أنّه فاجأني باتفاقه معي عندما طرحت عليه فكرة ربط جنونها بالجنّ قائلاً إنّ فيه شيء من صحّة القول وهو يشير إلى تذوّقها لشعر طاغور الذي بلغ عمقاً لم يبلغه معارفه من أبناء اللغة البنغاليّة أو كيف كانت تتحرّك في أسواق بومباي لشراء الأغراض بخفّة عجيبة وكأنّها نشأت هناك. يقول بأنّه كان فيها شيء خارق. وعلى سيرة خفّة الحركة فالدابّة المجنونة هي التي تتحرّك بخفّة من نشاطها فتذهب في كلّ وجه، ربّما لأنّ حركتها تشبه حركة الجن؟

ثم نكتشف أنّ الجانّ نوع من الحيّات سريع الحركة شديد الاهتزاز. عادةً تحمل الحيّة (كالجنّ) تداعيات سلبيّة، فنتخيّلها حيواناً مؤذياً تفعل عكس اسمها – تميت ولا تحيي. الجنّ والحيّات كلاهما يقترنان بالعالم الماورائي، فبحسب الجاحظ قتل الجانّ من الحيّات خطير لدرجة أن العرب إذا رأى إحداها عالقةً في قعر بئر عليه أن ينزل ويخلّصها “وكأنّه يريد الإخلاص في التقرّب إلى الجنّ”[10]. لا أعلم كيف كانت أمّي تتحرّك عندما كانت صحّتها أحسن فعندما التقيت بها بدا لي وكأنّ جسدها ليس لها أو أنّها منفيّة عنه. والحيّة بفضل رخاوة جسمها تصل إلى حيث لا يتوقّعها أحد. وكذلك أمّي، فقد ظهرت في پيانوبار بڤيينا مرّة وهي على سفر مع أبي لتغنّي أغنية ألمانيّة من العشرينيّات من مسرحية لبريخت برفقة العازف وكأنّها عندها وصلة في المحل كلّ مساء! لقد أسقط عنها مِجنّ الحياء، والمِجنّ بالكسرة نوع من الدروع تُتّقى بها ضربات السلاح في القتال وأسقط مجنّ الحياء أي فعل ما شاء تملّك أمره. واجهت قسوة العالم تجاه أصحاب الأمراض النفسيّة كالجنّ الذين يجيدون المواجهة مجرّدين من كلّ درع وترس ويطوفون أينما يحلو لهم.

كانت أمّي رسّامة لمّا كانت قادرة تشتغل. لم أتعرف على معظم لوحاتها إلّا أنّه من اللوحات اللي صحّلي أشوفها لوحتين كل واحدة بتصوّر فيها زوج بهيئات غرائبية. الرؤوس والأجساد بلا قسمات وما فينا نصنّفها بشر ولا نصنّفها حيوان. كذلك الملامح والتعابير لا يبدون لنا سعداء ولا حزانى، بل لا كلمات في معجمنا الإنسي العاطفي لوصف تعابيرهم. وأتساءل شو منعرف عن مشاعر الجنّ، هل تشبه خارطة مشاعرهم مشاعرنا هل تفرح وتحزن مثلنا ولنفس الدوافع؟ المصادر لا تخبرنا كثيراً عن عالم الجنّ العاطفي سوى نواياهم الشريرة، ومن وجهة نظري هذا اللي عم تحاول تبحث فيه هاي اللوحتين.

لوحتان زيتيتان بلا عنوان لِجون فيلدمان موباي، عام 1979.
تعودان إلى الأرشيف الشخصي لوالد الكاتبة

ثم أنظر إلى صورة مبكرة لها ولأبي و هما في منتصف العشرينات وبلاقي نفس الغموض الشبيه بالجنّ بعينيها فلا أستطيع أن أميّز هل هي سعيدة أم تتصنّع الابتسامة. أتذكّر ما قالته لي حبيبتي مرّة بأنّها لا تستطيع أن تستقرئ شيئا من عينيّ وأنّ عينيّ كبيرتان جميلتان لكنّهما لا تشيان بأيّ شيء على عكس معظم الناس اللي بتعرفها، وكأنّني قد أكون جنيّة.

كنت بفكر كل حياتي إنّه ضيعان حياتها لأمّي، وكم بدت لي بائسة وهي في هذيان الاحتضار عندما تمتمت لأبي ببعض كلمات لأغنية من أحد أفلامها الهنديّة المفضلة. نحن نعلم أنّ اللغة هي التي تعرّف الإنس وتميّزهم عن سائر المخلوقات، إلّا أنّ أمي هون وهي تحتضر انتزعت لنفسها بعض الكرامة والفعاليّة بقدرة جنّية على تذكّر لغة لم تسمعها ربّما منذ عقود فقدرت تطغى ولو للحظة على الجنون. كأنّ اتصالها باللغة هنا جعلها تنتمي للجانّ بشكل من الأشكال.  أدرك الآن أنّ أمّي فرجتنا آنذاك أنّه ما في شي اسمه إنسي أو جنّي نقي وأنّ هذيك الثنائيّة كمان قابلة للخرق. للغة الأم أن تكون (أحياناً) لغة جنّية، رغم أنها كانت من صلصال وليس من نار، فكان نطقها هنا بفضل العنصر الجنّي الكامن فيها.[11] 

أعود أدراجي من الجنّ إلى الجنين. عندما حبلتْ أمي بي، قرّرت هي والوالد إبقائي لأنّ حالتها النفسيّة تحسّنت. ثم سرعان ما انتكست بعد ولادتي، إذ صارت تتوهّم (وأوهام الفصام مؤذية وخالية من الطرافة الجاحظيّة) حليبها مسموماً فأرادت أن تحميني وامتنعت عن إرضاعي. والحماية فعل معتلّ ناقص بحرف العلّة الياء في لامه وهكذا لم يمكّنها عقلها المعتلّ حماية هذه الجبلة البشريّة التي عزمت على نموّه في رحمها بعد الولادة. والولادة كذلك فعل معتلّ ولكنّه فعل معتلّ مثال أي الذي يكون أوّل فاءه حرف علةّ كوَجَد ووَلَد. بينما الهمزة والميم، أي الأمّ فمضعّفة كالجنّ والجدّ. المضعّف هو الذي كان أحد أحرفه الأصليّة مكرّراً لغير زيادة وتُعتبر الأفعال المضعّفة أقدم الألفاظ في اللغة العربيّة.[12] ومادّة “أمّ” تدلّ على الأصل المكوّن لأشياء أي أنّ جذر الأمومة متأصّل في اللغة صرفيّاً وحرفيّاً لا علّة فيها. وأن يؤمّ الشيء أو الشخص يعني يقصده أو يتولى أمره، فمنه إمام الصلاة. وإذا أمَّ ظهرَ البعير أحدث فيه جرحاً. أحمل جروح الأمومة مجنّنة داخلي، وُلدت لها ذكراً لكنّي مع الوقت تحوّلت بكل قصديّة من ابن المجنونة إلى ابنة الجنّيّة. يُقال إنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات، بس لأنّه جنونها نابع كونها جنّيّة، سأقول إنّ أمّي ساكنة في جنّة الجنّيّات.

صورة من الأرشيف الشخصي لوالد الكاتبة، منتصف الستينيات.
الصورة مجاملة من الكاتبة.

إلى أمّي: بفضّل أتذكّرها جنّيّة على مجنونة، وإلى أبي المجنون الذي لم يكفّ يوماً عن الغناء على ليلاه.


[1] حسين البرغوثي، السادن والناقة: قصص عن الزمن الوثني، ص. 23. كان عرب الجاهلية يعتقدون بالعلاقة بين الجنّ والشعراء، أي أنه لكل شاعر كبير جنّيً يؤلف أشعاره ويمليها عليه لينشدها هو. بحسب كتاب جمهرة أشعار العرب للقرشي، كان هؤلاء الجانّ يسكنون مكاناً خرافيّاً يدعى وادي عبقر (التي تُشتقّ منه كلمة عبقري)، كما قسّمهم ابن شُهيْد الأندلسي إلى فريقين، خيّر وشرّير، في رسالة التوابع والزوابع.

[2] الجاحظ، البيان والتبيين، ص. 89-90

[3] رسائل إخوان الصفا وخلّان الوفا الجزء الثاني، الرسالة الثامنة ص. 168

[4] عبد السلام هارون، مقدمة معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص. 29. من باب الصدفة المحضة أنّ ابن فارس يكمل جملته بضرب المثال: “… وأنّ اسم الجنّ مشتقّ من الاجتنان (أي الاستتار)”. استجمعت المعاني الواردة بعد مراجعة أمهات المعاجم كلسان العرب والقاموس المحيط ومقاييس اللغة بشكل رئيسي بالإضافة إلى موقع معجم الدوحة التاريخي

[5] رنا عيسى، أمّيات. الجمهورية ك2 2021

[6] “لُقّبت دلهي بمدينة الجنّ لكونها مدينة دمّرها الغزاة مراراً ثم أعيد إعمارها فبُعثت كالعنقاء من الرماد، فأحب الجنّ دلهي لدرجة أنهم لم يطيقوا أن يروها مقفرة مهجورة”. William Dalrymple, City of Djinns: A Year in Delhi, p. 35 

[7] نرى هكذا تشابه لفظي لدى ابن جِنّي، اللغوي الكبير من أصل رومي وصاحب كتاب الخصائص، فنسبه لا يشتقّ من الجنّ بل من كلمة genus الإغريقية أي جنس الشيء.

[8] كتاب الحيوان، ت. محمد باسل عيون السود، الجزء السادس ص. 398

[9] للأمانة يجب أن أوضح أنّ اهتمام أمّي بالثقافة الهندية لم يكن بتاتاً مدفوعاً بارتباطها بأبي بل كان قد بدأ قبل تعارفهما وكان تذوّقاً جدّياً لا علاقة له بموضة الروحانية الهندية التي درجت في الغرب خلال الستينيات.

 [10] كتاب الحيوان الجزء السادس ص. 341

[11] شكر خاصّ لهيثم الورداني على الإضاءة على هذه النقطة.

[12] هذا ما يذهب إليه أحمد فارس الشدياق بخصوص المضعّف بصفته أصل الاشتقاق في الكتاب سرّ الليال في القلب والإبدال
لاحظا كذلك التقارب اللفظي بين الجدّ والجنّ، وكأنّ حرف الدال يُقلب ليُجلس على مؤخرته ثم تتكوّر هذه المؤخرة لتصبح نونا، ما يوحي بأنّ كلتاهما ملتفّتان كالنبت المجنون على بعضهما البعض. ستكون جدّتي الهندية التي لعبت دور أمّي بالوصاية طوال طفولتي موضوع نصّ منفرد.