ب.ش.ر

سمية قاسم علي

في الدفاع عن الإنسانية

ترجمة: حسين ناصر الدين

صورة لنور صفي الدّين (فايسبوك)، ٢٠١٨.

“منّا إنسان كمان؟”

تكرّرت هذه العبارة مراراً وتكراراً على مسامعي كأنّها لازمة موسيقية، أثناء محادثاتي مع عاملات منازل أجنبيّات يعملن في لبنان كلّما سألتهنّ عن “نظام الكفالة”، إلى درجةٍ حفظتها معها عن ظهر قلب. كأنّها تعبّر عن نظام الكفالة عند طرح سؤالٍ عامٍ حول اندماج الأجانب داخل التّركيبة اللبنانية. توفّر البساطة الوحشيّة لهذه الكلمات الثلاث مدخلاً ينتزع فئة الذّات البشريّة من لغة إخضاع العمال المهاجرين، وذلك من أجل صياغة قواعد اجتماعيةٍ مختلفة. تُشتق كلمة إنسان: من الجذر أ-ن-س، أي أن تكون محبّاً ولطيفاً وودوداً، وهي صفاتٌ مضادةٌ للوحشية. في الحقيقة، لم تعد هذه العبارة سؤالاً بل صارت اتهاماً، وقد تُعزف من قوّة إيقاعها افتتاحيةٌ لخطابنا.

يُنظر إلى إلى تصنيف البشريّ (وما هو بشريّ) بشكلٍ متزايد على أنّه فعلٌ إقصائي. في ظلّ التلوّث ونقص الموارد والفيروسات المتحولة على سبيل المثال لا الحصر، يصرّ الكثيرون على أنّه لا يمكننا تفسير التجربة البشريّة من دون التطرّق إلى ما هو غير بشريّ. نشير من خلال هذه المصطلحات المزدوجة إلى التشابكات بين الذات والآخر، وكذلك إلى ما يمثّله مفهوم الـ”لا بشريّ”، الذي بات يُشكّل تحدّياً تحليليّاً واسعاً للأنماط السائدة في تفسير السياسي وتخيّله. يشير مفهوم الـ”لا بشريّ” ضمن الأنثروبولوجيا (مجال تخصّصي) إلى ما يُرمز إليه بشكلٍ فضفاض باسم “المنعطف الأنطولوجي/ الوجودي”، وهو أساسيٌ ومحوريّ في المسلك السائد على امتداد العقدين الماضيين.

يتحدّى المنعطف الأنطولوجي حدود العلم المتمحور حول الإنسان – العنوان نفسه الذي ينسب إليه الأنثروبولوجيون مشروعنا المعرفي (الأنثروبولوجيا، من أنثروبوس باليونانية، أو “الإنسان”، وكذلك في اللغة العربيّة “العلوم الإنسانيّة”) – للاستجابة بطريقةٍ مناسبةٍ لأزمةٍ بيئيّةٍ عالميّةٍ ناجمةٍ عن ويلات منظورٍ مركزه الإنسان للموارد والأرباح والخيال. يتطلّب ذلك منّا أن نتعامل مع نظمٍ أخرى من أشكال العلاقات، لا يُفترض فيها وجود فجوةٍ بين الطبيعة والثقافة، حيث مواضيع التاريخ ليست بشريّةً فقط، وحيث تكون الكيانات غير البشريّة مشارِكَةً فعّالة في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، حيث لا يكون التنوّع إطاراً محدوداً لفهم الاختلاف، وحيث تتداخل الأخلاق مع البيئات المختلفة. ترسّخت هذه التحدّيات في التجارب الملموسة للّقاءات الأنثروبولوجية، لا سيما ضمن مجتمعات السكان الأصليين التي لطالما قاومت عوالم حياتها محاولات الأشكال المؤسّساتيّة والخطابيّة الحديثة للاستيلاء عليها. لكنّ الانتقادات وُجهت بالأسماء نفسها، وكان أشدّها قسوةً تلك التي تلفت الانتباه إلى المنح الدراسيّة المُعطاة للسّكان الأصليين، تلك التي تستبق الاستشهادات الشعبية الحالية وتتجاوزها، وتلك التي تشير إلى الفجوة بين تنظيم النّظرة الكونيّة الأصليّة للمشاريع الفكرية والصمت التام حيال الحقائق القائمة للاستعمار الاستيطاني. رغم أن الكلمات التي بدأنا بها لا يفترض أن تُمثل مقدمة لما دوّن، أو لعلم الكون غير البشري، إلّا أنّه قد تناهى إلى مسمعي في مدينة بيروت، بين العامين ٢٠١٤ و ٢٠١٦، عبارةٌ تردّدها نساء إفريقيّات وآسيويّات مراراً وتكراراً: “منّا إنسان كمان؟” .

يوجد في اللغة العربيّة مرادفٌ لكلمة إنسان، وجمعها ناس، أي بشر. يمكن استخدام هذا المصطلح، بالمعنى المفرد للإشارة إلى الإنسان، أو بالجمع بحيث يشير إلى التعدّديّة، بينما كلمة “بشر” بحد ذاتها كلمةٌ مفردة. في الواقع، يوجد استخدامٌ ممتعٌ ومثيرٌ للفضول في اللغة العربية الحديثة لجذر كلمة بشر، حيث تشير مجموعة كلماتٍ في القاموس إلى معاني الفرح، في حين تشير مجموعةٌ أخرى إلى أمور تتعلّق بالجسم. نشتق من ب-ش-ر كلمات مثل بِشر، أو استبشار، للدلالة على الابتهاج والسعادة والترحيب، والأخبار السارّة والبشائر نفسها، ومن هنا أيضاً، دلالات النبوّة (تبشير)، والبِشر، والتوقّع والتّكهن، كما علم التنبؤ. تُشتق من ب-ش-ر أيضاً، كلماتٌ ترتبط بالبشرة وقشورها وتفكّكها، وعن لونها وشكلها العام، وعن اللمس وممارسة الجنس والتواصل المباشر. يمدّنا كِلا الاستخدامين للجذر بمصطلحاتٍ مباشرةٍ وفوريّةٍ تماماً كما تُبَثّ أخبار المساء إلينا على الهواء مباشرة. هكذا، يوجد قصّتان يمكن روايتهما هنا: إحداهما عن الإحساس المزدوج لـ ب ش ر، والأخرى عن الإحساس المزدوج للإنسان، بمعناه البشريّ والإنسانيّ على حد سواء. 

يكفي أن نقول إنّ القواميس الكلاسيكيّة تقدّم نظريّاتٍ متنوعةً عن هذا الأمر، بدءاً من تلك التي توحي بأنّ قدرة الإنسان على أن يكون سعيداً هي ما يميّزه عن الحيوانات، ومن هنا يحصل التّداخل بين الفرح والبشرة، مروراً بتلك التي تشير إلى التغيير الحاصل في بشرة المرء عند تلقّيه الأخبار السارة، وصولاً إلى أولئك الذين يعيدون الأصل إلى آدم، أول إنسان، والذي أُعطي الحُسن في البشرى وفي البَشرة. يرى الفيلسوف الأندلسي ابن عربي أنّ آدم هو الإنسان الأول، والنموذج الأصلي (أبو البشر)، مشيراً إلى شكله البيولوجي والمادي على أنّه مصبوب من الطين، بينما يمثّل أيضاً مهمّة أن يكون إنساناً روحيّاً واجتماعيّاً بالكامل (إنسان)، بما يعني أنّه خليفة الله على الأرض، باعتباره حاملاً للروح الإلهية ومُثقلاً بالإرادة الحرة. كوننا ملتزمين بالعلمانيّة، يهمّنا هنا الإنسان. الإنسان في جلده، وفي المخاض واللون، وفي الألم والعطش، وفي الإرهاق والوحشية، لذا تصبح كلمة “ب ش ر” أساساً لهذه الاعتبارات. لكن امتياز اللغة (كما دأب الفلاسفة الماركسيون على تذكيرنا) يكمن في أنّ المعنى يُستنبط من الحياة وليس من القواميس. وبالتالي، فإنّنا نلعب بآثارٍ متعدّدةٍ للكلمة، من البشرة البشريّة إلى المجتمع البشري، ومن الإنسان إلى الكائنات الأخرى غير البشريّة، ومن الإنسانيّة الفلسفيّة إلى التجريد من الإنسانيّة.

بدأت النصوص في هذا القسم من “المشتق” بسؤالٍ تأمّليٍّ مستفزّ: “ماذا سيكون رأيك إن التقينا في بيروت تسمح لنا بمعاملة بعضنا البعض كبشر؟”. لم تكن الغاية من استخدام كلمة إنسان إضفاء المثاليّة على فئة “الكائن البشري” المعمّمة، بل لاعتبارها مجموعةً احتفظت بمساحةٍ للحريّة، ولأنّها ترفض الإنطلاق من الرّموز السّائدة التّي تنظّم حاليّاً التّسلسلات الهرميّة لإنسانيّتنا، مثل اسم العائلة والجنسيّة والطائفة والعمل ولون البشرة. كيف يمكن للعودة إلى كلمة إنسان بمعناها الكامل أن تقدّم لنا دافعاً للتفكير في التكاتف الجماعي الحقيقي على كامل مساحة المدينة؟ هذه المدينة التي أعطت شيئاً لكلّ واحدٍ منّا؟ إلى جانب ضرورة وحتميّة المحاسبة على الدّمار البيئيّ، هل يمكن أن يكون هناك إقرارٌ جماعيٌ مشترك؟ على الرغم من كلّ المساعي لقمع مشروع “الإنسان المعاصر”، ما زلت أسمع أصوات النساء اللواتي أستطيع تذكّر أسمائهن، يعبّرن بغضبٍ وحزنٍ وتأمّلٍ ويقين، ويحتكمن إلى تجريدٍ يحافظ بطريقةٍ ما على حقيقته، حتى عندما ينتهك أفراده أيّ قاعدةٍ محتملةٍ من قواعد السلوك السائد. هذا من إنسانيتنا.