مصنع الوحوش

أحمد ناجي

علي شري, من مجموعة "الموت من الداخل", ألوان مائية. ٢٠٢١

بعد أول أسبوعين في السجن، كنت واقفاً على باب الزنزانة المفتوح في ساعة التريّض، حين شاهدت اثنين من السجناء يحملان ثالثًا من أسفل إبطيه، ويسيران به في الممر، وخلفهم حارس السجن يستعجلهما المشي، بينما يتعثران في خطواتهما تحت ثقل وزن جسده ورأسه الضخم المسترخي على صدره.

 حين مروا من أمامي، رفع رأسه لبضع ثوانٍ. في جبهته جرح لم أتبين حجمه، لأن الدم يغطي نصف وجهه. فمه مفتوح تتدلّى منه ريالته، عين مغلقة تغطيها الدماء، وأخرى مفتوحة في ذهول. نظر باتجاهي، لكن لم يرَني، على وجهه لم يكن هناك إلا فراغ وغياب. يرتدي فردة واحدة لشبشب بلاستيكي رخيص، وقدمه الأخرى العارية يجرها جراً، فتكنّس التراب وأعقاب السجائر من على بلاط الممر.

كل فترة يحاول ذلك الولد الانتحار أو افتعال المشكلات التي تسبب له الأذى البدني والعقاب الجماعي لمن معه في الزنزانة. لم يكن الولد في زنزانتنا، لكن في الأسبوع التالي انقطعت الكهرباء لدقائق عن السجن كله، وسمعنا صراخًا وخوارًا وعواءً من الزنزانة المجاورة. كنت حينها واقفاً على باب العنبر المغلق، وقد حشرت أنفي بين قضبان الباب والسلك المعدني الذي يغطيها في محاولة لتنفس هواء غير مشبع بالفساء كالذي يعبّئ الزنزانة، ثم عبروا من أمامي، مخبر واثنين من المساجين يحملان الولد في الطريق إلى عيادة السجن، لكن هذه المرة حافي القدمين ونصفه العلوي عارٍ. في اليوم التالي، عرفنا أنه حاول الانتحار بتعرية السلك الكهربائي الرئيسي الذي يمد الزنزانة بالكهرباء، عرّى جزءًا منه بأسنانه، ثم أمسك السلك بقبضتيه وظل قابضًا عليه، وجسده ينتفض. قالوا على الأغلب سيعيش لكنه أصيب بحروق بالغة في يديه.

ظلت محاولات انتحار الولد تتكرر، حتى يئس مأمور السجن من احتواء الأمر، وتمكن بعد محايلات وحوارات من ترحيله من السجن ليصبح مشكلة مأمور سجن آخر. 

أما الولد نفسه فعمره لم يكن يتجاوز الواحد وعشرين عاماً، لديه مشكلة واضحة في جزء من أعصاب وجهه، وبالتأكيد مشاكل أخرى في النمو، جعلته لا ينطق إلا كلمات متقطعة، وجملًا مضطربة، مطموسة الأحرف أحيانًا، كل شيء فيه يؤكد حاجته إلى رعاية صحية ونفسية، وهنا بالتأكيد ليس مكانه.

لم يكن باستطاعة أحد مساعدته، فالولد من قرية في الصعيد، من أسرة فقيرة جدًّا، يأتون لزيارته مرة في الشهر وينقطعون عنه لفترات طويلة، قُبض عليه بشكل عشوائي بحجة عدم وجود شهادة التجنيد معه، ثم نُقل إلى محكمة عسكرية، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التهرّب من التجنيد.

ربع المساجين في سجننا كانوا هنا بالتهمة نفسها. وفي كل سجون مصر يشكل المتهربون من التجنيد جزءًا لا يستهان به من طاقة أي سجن، حتى إن السجون الحربية لا تتسع لهم، فتقوم وزارة الدفاع باستئجار سجون من وزارة الداخلية وإرسالهم لقضاء فترة العقوبة في تلك السجون المدنية.

نطلق عليهم في السجن “العساكر”، غالبيتهم قادمون من طبقات وأسر فقيرة، يتهربون من التجنيد لنفس السبب الذي يتهرب لأجله فقراء مصر من التجنيد منذ زمن محمد علي وحتى الآن، وهو إعالة أسرهم حتى لا يمرون بالتجربة ذاتها التي مر بها المجند متولي في سيرة شفيقة ومتولي.[1] أغلبهم لم يكمل دراسته، والمحظوظ فيهم يعرف كيف يكتب اسمه، لكن لا يعرف القراءة أو الكتابة، تخرجهم أسرهم من المدارس مبكراً وتلحقهم بأي مهنة. منذ طفولته يقضي الواحد منهم يومه في ورشة الحدادة، أو سائقًا على “توك توك”، ولحظة السعادة في يومه هي حين يأكل كيس الكشري الغارق في الصلصة والشطّة.

ثم يُتمّ السابعة عشرة “سن التجنيد الإجباري في مصر” أو يتجاوزها، فجأة يقع في كمين، ينظر أمين الشرطة في بطاقته ويسأله عن شهادة التجنيد، ثم ظلام تام.

 ينزعونه من بيته وأسرته التي يعولها في الصعيد أو قرى الدلتا ليُشحَن إلى القاهرة. تنعقد المحاكمات العسكرية بشكل صوري، الجلسة الواحدة قد يكون فيها خمسمائة متهم متهربين من التجنيد، لا وقت للعدالة، يوقع القاضي عليهم العقوبة وينصرف متأففًا من ازدحام القاعة ورائحة عرقهم التي تعبق بها.

وقع فتانا الذاهل عما حوله في هذه الدوامة حتى انتهى به المطاف في سجننا. جسد بالغ وعقل طفل لا يعرف سوى أن يقول “كوكا” يعني فرخة، و”رزة” يعني طبق رز. 

وجوده في السجن دمر ما تبقى من وجدانه، فصار لا يعرف سوى الاستمرار في محاولات الانتحار الفاشلة، حتى عقله البسيط لم يكن قادراً على التخطيط لمحاولة انتحار ناجحة.

***

منذ حوالي مائتي عام، قرر محمد علي فرض التجنيد الإجباري على المصريين، حيث أرسل في 18 فبراير 1822 خطابًا إلى واليه على مديرية جرجا أحمد باشا طاهر قال فيه:

من الواضح أننا نُرسل قواتنا بقيادة أبنائنا إلى السودان ليجلبوا لنا السود لنستخدمهم في حملة الحجاز وخدمات أخرى مماثلة… إلا أنه لما كان الأتراك من جنسنا ويجب أن يظلوا قريبين منا طول الوقت، ولا يُرسلون إلى هذه المناطق البعيدة، أصبح من الضروري جمع عدد من الجنود من الصعيد، ولذلك وجدنا أنه من المناسب أن تجنّد حوالي أربعة آلاف رجل من هذه المديريات.”[2]

اقتنع محمد علي بتجنيد المصريين بعد تجارب فاشلة لزيادة حجم جيشه. لم يكن يأمن الاستعانة بالأتراك والألبان من بني جنسه، كما حاول مرتين تجنيد السودانيين من خلال آليات الاستعباد والسخرة، لكن تجاربه انتهت إلى الفشل. في كتابه “كل رجال الباشا” يوضح د.خالد فهمي أن تردد محمد علي في تجنيد المصريين، مرجعه إلى خوفه من تدريب الفلاحين على السلاح وإدخالهم إلى الجيش، الأمر الذي قد يؤدي الى زيادة طموحهم وربما يهدد سيادة المكون التركي الحاكم الذي ينتمي إليه، كما تخوف من تأثير عمليات التجنيد الإجباري على الأيدي العاملة في الزراعة، المصدر الأساسي للثروة في البلاد والتي بسببها تمكن من مراكمة الثروة والبدء في مشروعه لبناء وتحديث الجيش.

صاحبت عملية تحديث الجيش المصري استكمال بناء مؤسسات الدولة، من المدارس إلى المستشفيات والمتاحف. كلها صممت بحيث تخدم الجيش واحتياجاته، أول برنامج للتطعيم ضد الجدري نفّذ على المصريين، كان بغرض الحفاظ على صحتهم من أجل تأهيلهم للخدمة العسكرية. وعلى هذا الأساس تشكلت الدولة المصرية الحديثة. 

الملك الحاكم في المنتصف، وحوله الجيش القائم على التجنيد الإجباري والسخرة، ثم مؤسسات الدولة الهادفة إلى خدمة ذلك الجيش أولاً. وخارج هذه الدائرة يقبع الهوام والعامة، الذين يشكلون النسبة الأكبر من المصريين.

قاوم المصريون التجنيد الإجباري منذ البداية، هربوا من جنود الوالي، وأحياناً أحدثوا إصابات وعاهات في أجسادهم مثل قطع أصبع السبابة حتى لا يتم تجنيدهم. لكن استمرار قطار الحداثة يصاحبه ضجيج المارشات والموسيقى العسكرية وأدبيات الهوية القومية، أعاد تموضع الجيش في الوجدان والثقافة المصرية من أداة للقهر والذل والإجبار إلى معبّر عن الهوية الجماعية المتخيلة ومحتكر أبدي لتعريف الوطنية.

تحققت مخاوف محمد علي، فأول تمرد عنيف هدد استمرار حكم أسرته كان على يد أحمد عرابي الضابط في الجيش المصري والفلاح الذي ترقى وطالب بالمساواة بين الضباط المصريين والأتراك. ثم عاد الفلاحون المصريون إلى الجيش وانهوا حكم أسرة محمد علي في ثورة 1952.

منذ عهد جمال عبد الناصر، توسع الجيش في عمليات التجنيد الإجباري، لكن هذه المرة تحولت الخدمة في الجيش إلى شرف ورجولة ووطنية ومهلبية وغيرها من كلمات الإنشاء وبروباغاندا الاستبداد والتوحش المصري. اتسعت كذلك الفجوة بين المجندين القادمين من مختلف طبقات الشعب وضباط الجيش الذين يتم اختيارهم منذ سن السادسة عشرة ليلتحقوا بالكلية الحربية ليتم عزلهم عن بقية المجتمع ليخرجوا في النهاية ضباطاً وقادة لهذا الجيش.

يروي أحمد حجي في كتابه البليغ “مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس”، كيف كان الوضع هناك حتى وقت الحرب في سنوات ما قبل 1973، حيث ضباط يشربون البيرة وجنود يعيدون غلي الشاي أكثر من مرة”.

 أعاد الجيش الذي كان أداة محمد علي للحكم والتوسع موضعة نفسه مكان الملك، ومارس المُلك طبقاً للتقاليد المصرية الملكية العريقة، التي تعود إلى نشأة الدولة المصرية في عهد مينا نارمر (3200 عام قبل الميلاد). فصل قادة الجيش أنفسهم عن الشعب، وانشأوا مساكنهم ومدنهم وأنديتهم ومستشفياتهم الخاصة، بنوا قوقعة ملكية عسكرية معتمدين على فائض الإنتاج الذي حققته مؤسسات الجيش من الأنشطة التجارية بعد حرب 1973. استمر التوسع في استخدام المجندين كطاقة العمل الرئيسية في مؤسسات الجيش، طبعاً بأجور متدنية جداً وبلا أي حقوق عمل، حتى أصبح منظر مجندي الجيش الشباب واقفين داخل أكشاك بيع منتجات السمك والجمبري المملوكة للجيش، مشهدًا طبيعيًّا في معظم الأسواق المصرية.

إلى جانب ما سبق ومنذ السبعينيات، تم اختيار الفئات الأدنى في التعليم والثقافة، لتشكيل قوات الأمن المركزي من جنود شباب قادمين من قاع الفقر، معظمهم حتى لا يعرف القراءة أو الكتابة. يتم تجنيدهم لمدة ثلاث سنوات، يقضونها في معسكرات الأمن المركزي الواقعة على حدود مختلف المدن والمحافظات المصرية، جاهزين دائماً لأي لحظة ينتفض فيها الشعب أو يتظاهر حتى يتم دفعهم كقوة ضاربة ضد إخوانهم المواطنين.

تعرض هذا النظام، وهذه الحياة القائمة على الإيمان بصنم الدولة القومية كما يعرفها ويقدمها خطاب المؤسسة العسكرية في مصر منذ الخمسينيات لهزة عنيفة في ثورة 25 يناير. لم تصل هذه الهزة إلى إسقاط الحكم العسكري أو مركزية الجيش أو-لا سمح الله- إلغاء التجنيد الإجباري، لكنها فرضت تصورات أخرى عن الحياة والعيش المشترك. تصورات عن احترام حياة الفرد وحقوقه وحرياته بدلاً من احترام هيبة الجيش ومؤسسات الدولة. عن حياة بلا إجبار، بل يتمتع فيها المصريون بالحرية والمساواة ولا يتم تصنيفهم حسب الرتب العسكرية.

سريعاً استعاد الجيش السيطرة على السلطة في مصر بعد 2014، لكن التحدي الذي واجهه هو عدم صلاحية استخدام الخطابات الوطنية القومية القديمة. فشبح الأفكار والتصورات التي فرضتها ثورة يناير لا تزال تؤرقه إلى الآن، كما أن موقع مصر من النظام العالمي تغيّر تماماً.

لا يملك النظام المصري الحالي رفاهية أو جرأة جمال عبد الناصر لخلق عدو خارجي متمثل في أمريكا وإسرائيل لتبرير سياسات القمع. فكان الحل أن يستدير الجيش إلى الشعب، أن يعين الشعب كعدو، كقوة مدمرة يمكن استغلالها لتدمير “الدولة المصرية”.

***

في 2013 وقبل أن يصبح رئيساً لمصر، حكى عبد الفتاح السيسي للصحافي المصري ياسر رزق، أنه منذ صغره يحلم ويرى رؤى لا يمكن تفسيرها لكنها تتحقق في المستقبل أو كما قال: “أنا بطلت أتكلم عن المنامات والرؤى من 7 أو 8 سنين؛ أو من 2006، لكن أنا دايماً كانت ليّ منامات ورؤى وشفت كتير جدًا من الأمور اللي حصلت بعدها ومحدش قدر يفسرها من 35 سنة”.

يندمج السيسي في لحظة تجلٍّ ويروي بعض أحلامه لرزق قائلاً: “شفت نفسي في المنام من سنين طويلة جدًّا، من 35 سنة رافعًا سيفًا مكتوبًا عليه “لا إله إلا الله” باللون الأحمر”. ويقاطعه رزق: “لا إله إلا الله باللون الأحمر”، ويؤكد السيسي: “باللون الأحمر نعم”.

أما الحلم الاخر فأكثر غموضاً حيث حلم “في إيدي ساعة عليها نجمة خضرا وضخمة جداً، أوميجا، والناس بتسألني) اشمعنى إنت اللي معاك الساعة دي؟!) قلت لهم الساعة دي باسمي، هي “أوميجا” وأنا “أبدلفتاح” رحت حاطط الأوميجا مع العالمية مع عبد الفتاح”. أما الرؤى الأخيرة فأكثر صراحة ويقول “رأيت أني مع السادات بكلّمه وقالي أنا كنت عارف إني هابقى رئيس الجمهورية، وقلت له: وأنا عارف إني هابقى رئيس الجمهورية”.

نشرت هذه الأحلام في تسريب لتسجيل صوتي لم يكن من المفروض أن ينشر. في التسجيل يؤكد السيسي أنه يخبر ياسر رزق بشكل شخصي “off record” هذه الرؤى، استوقفني في التسجيل الوقفات والسكينة وبهجة الثقة في النفس عند السيسي، فكرت أني لو حلمت بأي حلم مما سبق، فسأعتبره كابوسًا، ما المبهج أن ترى نفسك ممسكاً بسيف مكتوب عليه و”بالأحمر”؟

 في هذه الأحلام يظهرالسيسي مرتفعاً عن الناس، مستوحشاً عليهم. أو كما قيل في لسان العرب: “وكل شيء يسْتَوْحِشُ عن الناس، فهو وَحْشِيّ؛ وكل شيء لا يَسْتَأْنس بالناس وَحْشِيٌّ.”

يُستخدم لقب الوحش أيضاً كصفة إيجابية، دلالة على الفحولة والقوة والشجاعة، وهذا كله بمنطق إرهاب العدو. كوصف الجنود بأنهم وحوش، فعملية التجنيد وإعداد المقاتل في مصر تعتمد على الفخر بتحويل المجند إلى وحش.

نحن في عام 2021 ، تتنافس الجيوش بما تمتلكه من عقول، وأسلحة متقدمة، وطائرات مسيرة بدون طيار، وفرق من الهاكرز قادرين على اقتحام وتخريب شبكات الكمبيوتر في أجهزة الدولة المنافسة. لكن في مصر تتمسك الدولة كل عام بما يعرف بالاستعراضات العسكرية والتي أحياناً يتم تنفيذها في المناسبات الوطنية، أو مع تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية والشرطية.

منذ الثمانينات وحتى الآن، وصورة تلك الاستعراضات واحدة، ضباط شباب حديثو التخرج يستعرضون مهاراتهم، مثل مهارة أكل الثعابين والحيوانات البرية، مهارة القفز في دوائر من النار كلاعبي السيرك، مهارات الاشتباك بالأيدي والقتال البدني. ومنذ بضعة أعوام وفي حفل تخريج طلبة كلية الشرطة كان هناك فقرة غريبة يظهر فيها أكثر من مئة خريج من الكلية، عراة الصدر بعضلات منتفخة، غارقين في الزيت الذي يلمع على أجسادهم ويضخم من صورة عضلاتهم، واقفين فوق سيارات ربع نقل كتماثيل محنطة بينما السيارات التي تحملهم تعبر من أمام منصة الرئيس والقادة. تعلق الجماهير على مثل هذه الصور وفيديوات الاستعراضات العسكرية البدائية بكلمات كثيرة، لكن أكثر كلمة مستخدمة دائماً هي وصفهم بالـ”وحوش”. أو كما يتكرر دائماً فالجيش هو مصنع الرجال، مفرخة الوحوش. الماكينة التي تدخل فيها وأنت تحلم بأن تحمي بلدك وترفع علم قومك، ثم بعد سنوات من النجاح داخل المؤسسة ووصولك إلى أعلى مناصب ودرجات القيادة، يصبح حلمك سيفًا يقطر دمًا مكتوباً عليه “لا إله إلا الله”، وساعة أوميجا ثمنها يتجاوز الخمسين ألف دولار. 

***

نُقل الولد ذو عقل الطفل من سجننا. لكن وفود العساكر المساجين لم تتوقف. يأتون إلى السجن وبعضهم لم يتجاوز العشرين عاماً. كانت العادة إذا دخلت مجموعة منهم الزنزانة أن يتبرع كل شخص بجزء مما يملكه، سكر، شاي، خبز. لكي تكون زوادة لهم، لأنهم يأتون بلا أموال ولا طعام.

في حالة العوز تلك، يكون من السهل اصطيادهم من قبل أى الموجودين في السجن. الجماعات الإسلامية والتنظيمات الإرهابية يكونون الأسرع في التقاطهم. يضمونهم لجماعتهم ويشاركون الطعام والشراب معهم، يستحوذون على عقولهم بقال الله وقال الرسول، يشعر الولد بأنه وجد التقدير والرعاية تحت مظلة الأخوة في حب الله، ثم يوجهون غضبهم إلى حيث يريدون.

يخرجون من السجن بوصمة الاجرام والتهرب من التجنيد، بالتالي لا يمكن تعيينه مثلا في وظائف حكومية، وأي وظيفة خاصة سيتقدم لها سيظهر في سجله الجنائي أنه مجرم سابق، بالتالي لا يكون أمامه سوى الانحدار طبقياً إلى الأسفل، أوأن يسلك طريق الشقاوة أو الإجرام، أو الارتماء في حضن التنظيمات الإرهابية التي تمد مظلة الرعاية عليهم حتى بعد خروجهم من السجن. وهكذا إذا لم يصنع الوحش في الجيش، يصنع في السجن.

في بلد فقير وبلا موارد طبيعية مثل مصر، فإن مصدر الثروة الوحيد هو الأيدي العاملة وطاقته البشرية. لكن في ظل حكم الوحش وتحت إدارة التوحش، يجب تحويل تلك الأيدي إلى وحوش صغيرة قابلة للترويض والسيطرة عليها من قبل وحش أكبر. أن تكون إنساناً في مصر هو أخطر من أن تكون وحشاً.


 [1] فيلم شفيقة ومتولي، اخراج علي بدرخان، إنتاج مصر، ١٩٧٩

 [2] سجلات ديوان المعية السنية، الخطاب رقم 145، من السجل الثاني، من القسم الخامس. الخطاب مؤرخ بـ 25 جمادى الأول/ 1237/ 18 فبراير 1822 (دار الوثائق المصرية).