عن الردم والمعنى المردوم

ليلى السيد حسين

عماد قعفراني، وين عايشة؟ رسم رقمي، ٢٠٢١.

خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الـ       أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ

وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْـ             ـدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ

أبو العلاء المعري

ليس هناك سياق تاريخيّ واضح وموثّق للأسباب التي دفعت أبا العلاء المعرّي لكتابة تلك الأبيات. إلّا أنه وفي سياق هذا النصّ يبدو لنا “أديم” المعرّي[1] جزءًا أساسياً من فكرة الردم الإنساني. والأديم هو الجِلد الذي يغلّف جسم الإنسان والحيوان. لا نستطيع أن نؤكد إن كان الأديم الذي يتحدث عنه المعرّي هنا جماداً أم أديماً غير ملموس. ربما هو الإثنان معاً. بالتالي، لا نعرف إن كان المعرّي يريد أن يخفّف وطأته على أجساد أجداده أم على موروثاته منهم. ربما الإثنان معاً أيضاً. يبدو تخصيص المعرّي لوجوده الإنساني وخلوده بعد الفناء مرتبطاً بالأديم والردم. فهو لا يطأ أجداده فقط، بل يطأ نفسه بعد موته. تظهر الفواصل الزمنية ضيقة هنا، لأن الشاعر يرى أجداده من خلال الردم المتراكم، لكنه يرى أيضاً نفسه ويرى موته المنتظر في الردم المتراكم ذاته. وكأن الردم أو الأديم ينسف معنى الوقت، كأنه موجود دائماً حاضراً وماضياً ومستقبلاً. بالتالي، إن الردم ينتقل من موقع إلى آخر، من جسم إلى جسم آخر لكنه لا يزول. 

يرتكز هذا النص على مقاربة الردم البشري والردم المعماري والمديني. ويناقش كيفية توظيف هذا الردم متعدّد الأوجه عند تقاطع الملموس وغير الملموس. يتم ذلك عبر محاولات لاستخدام الردم كأداة لاسترداد الحق في المدينة،[2] والحق في الذاكرة عبر العمل السياسي والاحتجاج، أو حتى كتابة الأدب وقراءته. لأن الكلمة، كالردم، تبني وتُهدَم. لا يمكن مقاربة ردم العمران وردم الذاكرة من دون التطرّق إلى اللغة والكلمة. ويشمل استرداد الحق في المدينة الشعور بالهويّة والقدرة على تغيير المدينة. 

أناقش مراحل الردم كالآتي: تتمثّل المرحلة الأولى بتعرّفنا إليه في مضامير اللاوعي الفردي والجماعي. أُقارب أولاً مفهوم الردم كمحرّك أساسي للوعي الجماعي، بهدف ربطه بموقف سياسي يقوم على تفعيل المقدرة الفكرية والحسّية في عمليات الخلق المُنتجة للمعنى. ترتكز هذه المقدرة على التواصل مع الحقائق التاريخية للمدينة ضمن إطار اللغة، في سعيها نحو انكشاف الذات. بالتالي، تُمسي هذه العمليات ولّادة للتمرّد على الواقع المديني والسياسي والاجتماعي والفكري المُعاش. تتمثّل المرحلة الثانية بالتعرّف إليه عبر الانغماس به حسيًّا أي عبر رؤيته ولمسه حتى. وتتمثّل المرحلة الثالثة بتوظيفه في إنتاج المعنى والمعرفة عبر اللغة في البدء، لكي نستطيع الكلام به، وبالتالي نسج خطاب نظري وتطبيقي واضح تمهيداً لمواجهته. أناقش مراحل الردم إذاً تحت عناوين “الردم المردوم – الردم المكشوف – الردم الوظيفي”. 

رمزية الردم: الخلود المعمِّر واللاوعي الجماعي

المقابر بعيدة، وأحياناً قريبة، وفي المقابر نطأ الأقدمين، وفوق الأموات يجلس حجر يحمل اسم الميّت، في المقابر نبكي الميت ونبكي اسمه على الحجر، في المقابر نبكي الحجر أيضاً، والحجر يخاوي العظام الميتة حتى الالتحام. الحجر امتدادنا ونحن امتداده.

 “حين نحلم بالبيت الذي وُلدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادّي”.[3] يعرّف غاستون باشلار في كتابه “جماليّات المكان” المادة الحسّية الأولى على أنّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمادة غير الحسّية الأولى، “الدفء الأصلي”. من هنا يمكن الاستنتاج أن الردم الأول (العمران) هو محور أساس للردم الثاني (الذاكرة)، والعكس. أي أن هناك علاقة تكافليّة بين الردمين، بحيث إن انعدام وجود أيّ منهما يؤثر على الثاني ويعدّل في أسس وجوده.

تنعكس حقيقة الردم الذي باغت المعرّي على الردم المديني والعمراني، بحيث لا مكان للفصل بين الردم غير الملموس للسرديات، وبين الردم الملموس للأبنية والعمران. وعلى الرغم من كون العلاقة تكافليّة بين الاثنين، إلّا أن الردم غير الملموس، يبقى مردوماً إلى حين مواجهته بالردم الملموس. أي أن السرديات تبقى مردومة في الذاكرة إلى أن تنبعث في الحواس. تتمّ عملية المواجهة عبر رؤية أو لمس الردم الناتج عن أمكنة ألفناها وعشنا فيها، كبيت نصف مهدوم أو كبقايا عناصر معمارية. 

للردم، عموماً، حقيقتان. الأولى أن الردم موجود، ووجوده عنيد، والتخلص منه يكون عادة أصعب من صناعته. والثانية أن الردم صناعتنا وامتدادنا، وهو وليد التدخّل البشري. تصبّ الحقيقة الأولى في مفهوم الوجود الحتميّ للردم. كيف لنا أن نتخلص من ذاكرة مردومة من بيت مردوم؟ تقع هذه الفكرة في عمق مفهوم الخلود. يبدو الردم أداةً متحوّلة دائماً. صحيح أنه ينبّهنا إلى أن العمران فانٍ، إلّا أنه يؤكد أنه موجود في حالات أخرى رغم فنائه ظاهرياً كعمارة. لذلك، للردم دائماً مسارات متحوّلة ممتدة على سنين طويلة. الردم موجود بعدّة أوجه بشكل مستمرّ. سوف أركّز هنا على الردم الطالع من العصر الحديث، لأنه ينتمي إلى طبيعة مغايرة، ولديه خاصّيته ودلائله. وهو مرتبط بالثورة الصناعية كمحطة أساسية جعلت من الردم عنصراً أساسياً وموجوداً في عالمنا المعاصر. ولسردية الردم تاريخ مواز فلسفيّ إلى حدّ ما، مرتبط بـ”آدم” الإنسان الأول والذي خُلق من التراب، الردم الأصيل، ومن أديم الأرض، وبالتالي اسمه آدم. ولسردية الردم أيضاً القبور الأولى، والتي فيها تُدفن الأجساد والجلود والعظام. أطرح هذه المقاربة هنا لأن مخلّفاتنا الصناعية كالخرسانة والزجاج والنفايات لا تقلّ امتداداً عن مخلّفات الإنسان من العظام والأجساد. بالتالي فكرة التغوّط، أو إنتاج النفايات البشرية، وتوزيعها على أماكن مجهولة، خُلقت مع النفس البشرية منذ الصغر. يرى الطفل ردمه، أي تغوّطه، كنُفاية طالعة منه، لكنه ما إن تطلع حتى تختفي عن بصره. إذاً فكرة غموض الردم ومصيره تدخل اللاوعي الفردي وبالتالي اللاوعي الجماعي. وفكرة الردم الذي نراه أمامنا دون معرفة مصيره، شبيهة بعدم معرفة مصير التغوّط البشري الذي ما إن يخرج منّا حتى يغيب مساره عن بصرنا، ومن هنا أسمّيه: الردم المردوم.

لهذا الردم بالذات سردية زمنية خاصّة: هل هذا الردم زائل تماماً بكل أبعاده إن غاب عن بصرنا؟ هل زواله السريع الذي يغيّبه عن النظر يؤكّد أن مخلفاته فانية بالكامل؟ إن أردنا طرح هذه الأسئلة على مستوى العمارة والمدينة، كيف نفسّر خلود الذاكرة المرتبطة بالردم المعماري؟ عادة ما يتم العكس: أي أن سرعة زوال الردم المعماري تزيد من قيمة خلود الذاكرة. لذلك، نحن بحاجة هنا إلى الردم المكشوف لكشف المردوم.

توظيف الردم كأداة سياسية

مع بزوغ الثورة الصناعية باتت عملية فناء العمارات أسرع، وبالتالي لا يمكننا مقارنة ردم العمارات الحديثة بردم العمارات التي لا تنتمي إلى العمارة الحديثة.[4] لأن خاصّية الردم التاريخية جزء لا ينفصل عن طبيعته. يقول دين شارﭗ واصفاً بيروت ومدن الشرق الأوسط: “إن نظرتم اليوم إلى خطوط أفق وسط المدن في أنحاء الشرق الأوسط، ترون أن الشركات المساهمة قد حوّلت المشهد الحضري بالكامل”.[5] انطلاقاً من هذه الحقيقة الموجعة ومن حقيقة أن الشركات المساهمة تنتقي المدن الأقدم، وبالتالي المعمّرة والخالدة لتحويلها، يمكننا الجزم بأن عمليات الهدم والإعمار في تلك المدن تساهم في تسليع الردم. مع العلم أن الردم المنتمي إلى العصر الحديث خاصّ بما فيه الكفاية، إلا أن تسليعه بهذا الشكل يضعه في قالب بحت رأسماليّ. وهنا، تبرز أهمية الحق في استرداد المدينة وذاكرتها. نعود هنا إلى مراحل الردم: الردم المردوم – الردم المكشوف – الردم الوظيفي، لفهم سياسات السلطات والشركات الخاصة في تحويل مسارات الردم، وأحيانا بترها. تنتقي السلطات الفضاءات المدينية التي تفيض تاريخاً وتراثاً ثقافياً ومعمارياً لنسفها والتي هي فرصة لتحقيق اقصى قدر من المساحة المبنية الحديثة بهدف تحقيق أعلى قدر من الربح المالي . بالتالي، يمسي تحوّل الردم المردوم إلى ردم مكشوف شبه مستحيل، فتبقى الذاكرة مردومة بلا أثر حسّي مكشوف لها في المدينة بعد نسفها، في انتظار دلالة اعتراضية سياسية، أو تغيير ما، لتعود هذه فتكشف الذاكرة إلى الواجهة في محاولة كشفها ولمس المردوم. 

محاربة هذه القولبة الرأسمالية تتمّ عبر تحويل الردم الناتج عن الدمار الممنهج إلى ردمٍ جديد ذي وظيفة جديدة من قبل العامّة، أي رفض تسليع الردم. الجزء الأول من المعادلة يتلخّص بالاعتراف بأن الردم الناتج عن عمليات الهدم والإعمار هو جزء من أدواتنا وأسلحتنا في استرداد المدينة. شهدت بيروت ليلة أحداث 17 تشرين الأول 2019[6] إحتجاجات واسعة، ولعلّ أكبرها كان في وسط المدينة. وأحد أسباب التجمّع في وسط المدينة يتلخّص بكونها مشروع السلطة الأساسي في الردم وإعادة الإعمار، فيه مؤسسات الدولة المراد استعادتها، وهذا الوسط وبفعل الردم هذا أصبح غريباً عن الذاكرة الحديثة لأبناء المدينة، وهو فضاءٌ خلّاقٌ للمواجهات والتظاهرات، ففيه ساحات واسعة ومفتوحة، وفيه تاريخ مردوم، أي ذاكرة مردومة، بحيث يُعدّ الوضوح العمراني لهذه الفضاءات بين ردم وبناء نقطة انطلاق واضحة للفعل التمرّدي. 

كما أن وسط المدينة يُعتبر أحد رموز الردم الجسديّ والمعنويّ المتراكم. فهي المدينة القديمة المخبأة خلف الأسوار والتي دمّرت بالكامل، وهي طبقات هذه المدينة القديمة المتراكمة فوق بعضها، وهي الحاضرة في الكثير من الروايات اللبنانية، وهي في الحقيقة، مدينة الردم المعاصر الشاهدة على أكبر عملية هدم وإعمار في تاريخ لبنان الحديث.[7]

لاقت الاحتجاجات دعماً لافتاً وانتقاداً لاذعاً، خاصة تجاه أعمال الشغب والتخريب. كانت الاحتجاجات والمواجهات تتصاعد تدريجيًّا بين الناس والقوى الأمنية، وتخلّلتها أعمال تكسير للواجهات التجارية والتي هي واجهات الأبنية العصرية. كان اللافت أن المتظاهرات\ين لم يقوموا بأعمال الشغب تجاه الأبنية الأثرية، المردومة عن قصد من قبل الدولة، أي المهملة عمداً. لم تُسلّع الدولة تلك المباني نصف الميّتة فقط، بل سلّعت ردمها. فوقفت هذه المباني على نصف أعمدتها، ونصفها الآخر شبه مردوم يتهاوى على نفسه. إثر أحداث 17 تشرين، دخل الناس التياترو الكبير الممنوع على العامة من دخوله لسنين، ومبنى البيضة/السيتي سنتر المهمل المتروك من قِبل الدولة. وكأن المتظاهرات\ين كانوا على دراية دقيقة بالذاكرة الجماعية، فكانت محاولة تكسير الأبنية الحديثة التابعة لسوليدير وتحويلها إلى حطام، ولو بسيط، كفيلةً بتهشيم أعمال الردم الممنهجة من قبل الدولة. ظهرت المعادلة كالآتي: استعمال أدوات بدائية لتحويل أبنية سوليدير إلى ردم، وعدم المسّ بالأبنية الأثرية في الموقع، كجزء من استرداد المدينة وهدم ردم الدولة بتحويل المباني “العنيفة”[8] إلى ردمٍ جديدٍ. لم تكن كتابة الجملة الشهيرة “سوف يكون خراباً” على جدران المدينة عبثية . جاء استرداد المدينة عبر الردم، بعدة أشكال، ولعل أبرزها تمثّل في تهشيم حجارة المباني العنيفة الحديثة لاستعمالها لاحقاً كأداة دفاع أمام القوة الأمنية. في عدة مواجهات، يأتي استرداد الحق في المدينة هنا على عدة مستويات، أهمّها: اتّخاذ قرار بتحويل العمارة العنيفة إلى ردم، من ثم اتّخاذ قرار بتوظيف هذا الردم ومن خلال هذه العملية يتمّ الكشف عن الردم الممنهج من قبل السلطة للمدينة فيتمّ استرداده عبر توظيفه سياسياً ولو بشكل بسيط. يصف ميشال دو سيرتو واقعنا على أنه تصادم بين نمط الإدارات الجماعية للفضاءات ونمط عمليات الاستملاك الفردية.[9] في هذه الحالة بالذات، أي تفعيل الخراب بهدف استعمال الردم المسلّع كوسيلة دفاع وتعبير، هو أبرز مثال على أن هذه الأفعال هي من أنماط عمليات الاستملاك الجماعية في وجه الإدارات السلطوية الجماعية للفضاءات.

تبليط البحر – تبليط اللغة

عام 2011 كتب الروائي رشيد الضعيف[10] رواية تحت عنوان تبليط البحر

وهكذا اختلفت درب فارس هاشم عن درب رفيق العمر جرجي زيدان. لكنهما قررا السفر معاً برفقة زميلهما أمين فليحان في اليوم ذاته، وفي الباخرة ذاتها إلى الإسكندرية…كانوا ثلاثة من الجامعة الأميركية. لم يكن أحد منهم ركب البحر مرة في حياته…بل كانوا في غالبيتهم الساحقة يرون البحر لأول مرة، فراحوا لذلك ينكّتون على طريقتهم: فواحد تمنّاه سهلاً ليزرعه بطاطا… وجد هؤلاء الجبليون البحر هائلاً ممتداً، ورأوا أن ما من أحد في الكون يمكن أن “يبلّطه”، ومن هنا جاءت عبارة “بلّط البحر” بمعنى أنك عاجز عن التحدي. الآتون من الأرياف استنبطوا إذاً عبارة “بلّط البحر” هذا ممّا استنتجه جرجي زيدان. وقادتهم هذه الملاحظة إلى نقاش معمّق عن حاضر اللغة العربية ومستقبلها.[11]

هذا الردم الذي يتكلّم عنه الضعيف هنا يصبّ في مفهوم وحشيّة فكرة ردم البحر. فـ “تبليط البحر” الذي بدا حينها كتحدٍ كبير، عليه أن يبقى فعلاً مستحيلاً، لأنه لا يصبّ في مسار الطبيعة البشرية، ومسار نموّ المدن. ما إن أصبح “تبليط البحر” فعلاً غير مستحيل، وبات التحدي حقيقة، بدأت الوحشية. يربط الضعيف الأفكار المستحيلة بالتركيبات اللغوية المستحيلة، أي، “تبليط البحر”، الذي قاد أبطال الرواية إلى نقاش معمّق عن واقع اللغة العربية. ربطاً بثلاثية الردم التي يقترحها النص: الردم المردوم – الردم المكشوف – الردم الوظيفي، يبدو تبليط البحر عملاً وحشياً يردم كل ما في هذه الثلاثية، وصولاً إلى ردم اللغة ذاتها. هناك إذاً أنواع وحشيةٌ من الردم تأتي كعائق أمام الإبداع اللغوي، وبالتالي تبتر مسار الحؤول إلى المعنى، فيبقى المعنى مردوماً تحت تبليط البحر.
البحر أحياناً هو من يبلّط المدينة ويبلعها. قد تبدو هذه الصورة وحشيّة ولكنها تعيد الردم إلى مكانه الطبيعي والبشريّ المعتاد. فـ”تبليط البحر” كفعل وحشي وغير طبيعي يشكّل صدمة لاواعية. 

في روايته “بيريتوس: مدينة تحت الأرض”، يسرد ربيع جابر[12] قصة حارس مبنى بيروت بالاس/السيتي سنتر/مبنى البيضة الذي نزل إلى عالم تحت الأرض، فأمسى لبيروت بيروت أخرى تحتها. يحاول الحارس رسم خريطة لبيروت كي لا يفقد ذاكرته عن المدينة. تتمثّل هنا أهمية كشف المدينة المردومة عبر رسم الخرائط والسرد الروائي معاً. لا يخطر للحارس أن يحدّث أبناء بيروت المردومة عن المدينة عبر السرد الشفهيّ، أو التواصل معهم كي يسرد تاريخ مدينته، وكأن اللغة أيضاً معدومة في بيروت المردومة تحت الأرض. هنا، مرة أخرى، تبرز علاقة الردم العمراني باللغة، وكأن الردم يبتر خيط اللغة، فيبتر حينها العلاقة بين المعاني كلها. 

أدب المدينة

“كأن البحر غمر الوسط التجاري كلّه في هذه العاصفة الفظيعة، وحاصرني أنا وحدي في سينما “سيتي بالاس” الباقية وحدها بلا ترميم ها هنا، من أزمنة الخراب”.[13]

يأتي تبليط البحر موازياً للصدمة. يعرف الأطفال عند قدومهم إلى الشاطئ أنهم إن رموا الرمل في البحار تبقى البحار سيّدة الفضاء، وإن بنوا بيوتاً رملية على الشاطئ يأتي الموج ليبتلعها. يعرف الطفل أن البحر لا يُردم، لذلك، يبدو تبليط البحر جزءًا أساسياً من تكوين الصدمة الفردية والجماعية المتّصلة بعلاقاتنا الفضائية مع المدن. تأتي عملية ردم البحر الممنهجة أيضاً كجزء أساسي من هذه الصدمات المتتالية عبر تحويل المدينة إلى ردم مردوم كي تبقى الصدمة حبيسة أصحابها. وهذا ما حصل لبيروت خلال عملية إعادة الإعمار في منتصف التسعينيات من ردم فعلي للبحر وصدمة أبنائها. يأتي خيار ربيع جابر الزمكاني كتلاقٍ بين مدينة مردومة تاريخياً وسياسياً، أي الوسط التجاري ما بعد الحرب وسياسات الإعمار التي فُرضت على المدينة وبين مبنى السيتي سنتر، وبين البحر المنتقم ردمه عبر قدرته على ردم المدينة.  تبدو الروايتان في هذا السياق كترجمة ممكنة للفعل السياسي الذي يمارس حقّه في استرداد الردم المديني والذي يقدّم نموذجاً جديداً لأرشفة المدينة وحقّنا في الحفاظ على الذاكرة. بذلك نتبيّن مثالاً عن إمكانيّة الربط بين الردمين اللغوي والمدينيّ، الحسيّ وغير الحسّي في سردية تلِج حقائق الهوية والمكان على أرضية الخيال العمراني والأدبي كجزء من الواقع المعاش. نعود للكلمة. كما ذكرنا في بدء هذا النص، الكلمة تبني وتُهدَم، لذلك، فاستعمال اللغة لاسترجاع المعنى هو من أهمّ أوجه محاربة الردم والمعاني المردومة. ويبدو أن استرجاع اللغة ضمن الإطارين الفردي والجماعي، هو الخطوة الأولى نحو كسر ثلاثية الردم: “الردم المردوم – الردم المكشوف – الردم الوظيفي”.


 [1] أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعرّي، 973 ـــــ 1057 ميلادي. هو مفكر وشاعر من عصر الدولة العباسية.

[2] لا يقتصر هذا المفهوم على حريّة الفرد في الوصول إلى الموارد المدينيّة، بل “يُعطي الحقّ في تغيير أنفسنا من خلال تغيير المدينة وفقًا لرغباتنا… فحريّتنا في إنتاج مُدننا وإعادة إنتاجها تُعتبر أحد حقوقنا الإنسانيّة الأهمّ، لا بل أكثرها تعرّضًا للإهمال”.

David, Harvey. “The right to the city.” New Left Review 53 (2008): 23-40.

[3] باشلار، غاستون. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. الطبعة الثانية، 1984. ص 38.

[4] أعني العمارة الحديثة (modern architecture) التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر كردّة فعل على الأساليب المعمارية السابقة. تأثرت العمارة الحديثة بالثّورة الصناعية على مستوى طرق البناء والأدوات الجديدة المستخدمة كالخرسانة والزجاج. تتبنّى العمارة الحديثة مفاهيم العمارة كوظيفة، وعدّة مفاهيم أخرى، أدّت إلى جعل الأبنية المنتمية إلى العصر الحديث أكثر عرضة للزوال السريع من الأبنية التي تنتمي إلى أساليب معمارية أخرى.

[5] مترجم عن الإنكليزية:
“If you look today at the skyline of downtowns throughout the Middle East and beyond, the jointstock corporation has transformed the urban landscape”
Sharp, Deen Shariff. Corporate Urbanization: Between the Future and Survival in Lebanon. A dissertation submitted to the Graduate Faculty in Earth and Environmental Sciences in partial fulfillment of the requirements for the degree of Doctor of Philosophy, The City University of New York. 2018. p.5

[6] أحداثُ 17 تشرينَ الأول 2019 هي سلسلة من التظاهراتِ وشملت مواجهاتِ عدّة بين المحتجّين والقوى الأمنيّةِ اللبنانية. امتدت هذه الأحداث بين عامي 2019 و2020.

[7] أعني هنا مشروع سوليدير، الشركة الخاصة-العامة التي تولّت إعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990.

[8] أعرّف المباني “العنيفة” التي بُنيت على مواقع أثرية، أو مبانٍ هدمت عمداً.

[9] مترجم عن الإنكليزية:
“In the present conjuncture, which is marked by a contradiction between the collective mode of administration and an individual mode of reappropriation”
De Certau, Michel. The practice of everyday life. Translated by Steven Rendall from French to English. University of California Press, Berkeley. 1984. P97

[10] رشيد الضعيف، روائي وشاعر وأكاديمي لبناني، ولد في العام 1945

[11] الضعيف، رشيد. تبليط البحر. رياض الريس للكتب والنشر. 2011. ص97.

[12] ربيع جابر، روائي وصحافي لبناني، ولد في العام 1972.

[13] جابر، ربيع. بيريتوس مدينة تحت الأرض. ص 20.