المشتق: نشرة جديدة لا مناسبة لها

أحمد غصين

المُشتَق: هي نشرة الكترونية فكرية ثقافية، لا مناسبة لها في ظل هذا الوضع الراهن المنهار في لبنان سوى أنها جزء طبيعي من عملنا في مركز بيروت للفن، ولأننا نردد دائما وخاصة في الأشهر الأخيرة أننا نعيش في ظروف استثنائية طارئة، أصبح الطارئ هو الميزة الطبيعية لعملنا في هذا البلد. تأتي هذه النشرة الدورية كمساهمة في إنتاج معرفي وفكري يتمعن بالقضايا الثقافية لمنظومة اجتماعية سياسية، وقضايا تأزم الإنسان في ظل المحاولة الدائمة من النظام الرأسمالي أن يحدد طرق حياتنا ومصائرها من جهة، وفي ظل محاولة التّوق الى السعادة أو حياة أفضل للفرد أو للجموع المنتفضة من جهة أخرى.

المشتق في اللغة العربية اسم أُخذ من فعله، ومن غيره، وله أصل يرجع اليه، أي له جامد لكي يُشتقّ عنه ويتفرع منه. والتفرعات أو المشتقّات لها قواعدها ومساراتها وأنواعها، من تفضيل وتشبيه وصفي وغير وصفي وما دلَّ على معنى وانشق عنه. لهذا أردنا لهذه النشرة الدورية منهجية واضحة تنطلق من جذر الكلمة الاسم الى مشتقّاته وتفّرعاته.

في كل دورة من هذه النشرة سيكون هناك ثلاثة محاور؛ أي ثلاث كلمات ننطلق منها لنناقش ونساءِل كل ما يشتق عن هذه الكلمة من مواضيع وسجالات فكرية ثقافية. والمشتقّ عن الجذر يعني الزيادة على المعنى وتفرعه في اتجاهات تحاول ان تساءل وتطال المعنى الفكري النقدي الاشمل لهذا الجذر، أي لهذه الكلمة المؤلفة من ثلاثة أحرف. كلمات نسمعها مرارا وتكرارا ونكررها بشكل يومي في أدبياتنا ونقاشاتنا، هدر، قلق، هدم، عمل …

تتطرق هذه النشرة الدورية، النصف سنوية ، الى مواضيع لها علاقة بالممارسة المجتمعية من زوايا تفكيك خطاب السلطة وفهم جوانب وسياقات واقعنا بعد إنتفاضة، وانهيار إقتصادي، ووباء وعزلة جسدية، وما أدّت إليه هذه المتغيرات الحادة من علاقات شائكة محلية وعامة، إن كانت على صعيد علاقة الفرد بالدولة وشرعيتها وقوانينها، أي الدعوة الى عقد اجتماعي جديد، أو من علاقات الفرد بالانتفاضة وصوتها، وعلاقته بجسده خلال فترة الحجر، وصولا الى طرح مواضيع مثل الأرقام والبيانات التي أصبحت الشغل الشاغل بعد انهيار اقتصادي ووباء بتنا نلاحقه ايضا بالأرقام والاحصائيات.

نفتتح نشرتنا هذه بمحاور ثلاثة لكلمات ثلاث “ر. ق. م” “ص. د. ى” ” ف. ر. د”. ثلاثة محررون سيناقشون هذه المحاور هم هشام عوض “رقم”، وريا بدران “صدى”، وإدوين نصر “فرد”، ليقوم كل منهم بتكليف خمسة كتاب من أكاديميين ومنظّرين وعاملين في الحقل الثقافي لنشر أوراق تتمحور حول هذه الكلمات الثلاث ومشتقاتها، وتكليف عدد من الفنانين لتقديم أعمال تتفاعل مع هذه المحاور ومع الأوراق المنشورة ايضا. ثلاثة محاور في العدد الأول يتوزع كل محور على خمسة كتاب من اختيار المحررين، أي أننا سنستقبل خمس عشرة ورقة بحثية. سنقوم بنشر هذه “الأوراق والتكليفات الفنية ” أسبوعيا على المنصة، وتباعا خلال مدة تمتد لأربعة أشهر، أي في كل أسبوع حلقة من محور مختلف.

عن الرقم وبياناته في الاقتصاد ما بين القيمة والسعر، عن التاريخ السياسي للإحصائيات وتأثيره على مفاهيم مثل العنصرية والهوية والانتخابات طبعا، عن الجموع والترقيم، وعن محورية الرقم في الاقتصاد اللبناني المنهار، اذ ان الازمة المالية والاقتصادية التي أدت الى أزمة في المنظومة الاجتماعية والعكس بالعكس، وخسارة المودعين ودائعهم في البنوك، إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والازمة المعيشية الحادة التي جعلت من حكايات الرقم وترقب سعر صرف الدولار والحديث عن أرقام الفوائد وشكل الاقتصاد ما بين تحكم الدولة وهبوطه الحر الحاد، وضعت هذه الأحاديث الرقم في صلب يوميات المواطنين، أصبح وكأنه كائن حاضر في كل تشعبات هذه الأزمة لا بل من أساسياتها وحلولها.

عن الصدى، الصوت مقابل الصمت مقابل السكون مقابل الفراغ، اللا-إمكانية في السمع، اللا-صوت الذي نشعر به في الفضاء العام، صوت الاحتقان برهة قبل الانفجار، صوت العجز. الصوت حماسة الجموع، انتفاضة الحناجر، إعلاء الصوت في الانتفاضة كوسيلة للتعبير عن الفشل، عن التغير وعن فعل الاعتراض، ضرب على حائط حديدي وعلى درابزين الجسور وقت الاشتباك مع الشرطة كحركة احتجاجية اعتراضية، وتكثيف لصوت الرنين. نقاش عن تجديد الموسيقى وعن أسباب عدم التجديد فيها في زمن الاحتجاجات في لبنان، عن إشكاليات التعبير السمعية الموسيقية في زمن الثورات. وعندما نقول عدم التجديد لا نركن هنا الى نوع معين بل الى حالة اعتراضية رافقت الموسيقى المنبعثة من الساحات، وكان الاعتراض عن عدم قدرة هذه الموسيقى على مجاراة الصوت الجديد للمنتفضين، مع بعض الاستثناءات طبعا، وظهر هذا واضحاً في الراب. نقاش في الصوت الطبقي؛ أي السمع على اختلافه في البيئة الشعبية مقابل البيئة البرجوازية، أي الصوت والصدى في العمارة والأحياء. نقاش في الصوت والسمع وتهذيبهما من قبل الرأسمالية، أي الفراغ الصوتي الذي أرسته هذه السلطة كوسيلة أخرى للقمع.

عن الفرد في دوامة الحدثين الأساسيين في لبنان والعالم، وباء وأزمة اقتصادية، فتحتا الأسئلة على مصراعيها عن مصير الفرد في ظل سيطرة الدولة المركزية ومعنى الانظمة الديمقراطية في ظل الوباء وتقييد حرية الفرد. وقد شهدنا نقاشات على مدى الأشهر الماضية عن نماذج مختلفة لهيمنة الدولة وتضخم دور أنظمة المراقبة ما جعل الفرد في عزلة جسدية ومنتهَك الخصوصية في الوقت عينه، نقاشات حول تغيّر مفاهيم العيش ما بعد الوباء. في لبنان وبعد انتفاضة وأزمة اقتصادية حادة، صارت كلمات مثل الجموع والثوار تختزل أفرادا في كيانات اجتماعية محددة ككتلة متحركة في وقت الهبّات، كشعب بمواجهة السلطة. إختزالية إعادة الفرد الى الدائرة الأولى عند انتهاء المظاهرات واشتداد الأزمة، ليصبح المواطن فردا متروكا لمصيره في تأمين عيشه وفي قلقه وفي انتحاره.

الفرد المتحوّل الى رقم في هذه المنظومة يحاول رفع صوته ولا جواب سوى صداه. لعل الرابط بين هذه الكلمات/ المحاور “فرد”، “رقم”، “صدى”، هو الأنا. إذ يبدو أن كل فعل نأتي به بعد انتفاضة تشرين في لبنان، كل فكرة او كل ممارسة، لا ينفصل عن سؤال “أين أقف الآن”. للوهلة الاولى كنت أريد أن أكتب السؤال كالتالي: “إلى أين نتجه، وماذا علينا أن نفعل لوقف هذا الانهيار على كافة المستويات في لبنان، ومن يدفع ثمن خراب هذا البلد”، ولكنني تنبهت الى أن مثل هذه الأسئلة لا أهمية لها، طالما أن القلق تعدى كونه خوف من شيء واضح طارئ سينتهي مع انتهاء الأزمة، وتحوّل الى أزمة وجود، القلق الذي يفتك بنا جميعا. هذا ليس احباطاً، ولكن في زمن إنهيار الدولة يصبح الفرد وتفتيشه عن خلاصه صدىً لهذا الانهيار ورقم فيه، فرداً يحاول النجاة عبر الهجرة أو الانخراط في الجموع لعل الفعل السياسي الاجتماعي يلهيه عن قدره المحتوم.

أجسادنا تتظاهر، أجسادنا محبوسة في الحجر الصحي. قبل ذلك كانت اجسادنا تسهر، ترقص على إيقاع الفوائد المرتفعة، تيك تاك تيك تاك، صوت ماكينة عد الاموال في البنوك التي لا تخطئ، نرقص على إيقاعها، على وضع اقتصادي موهوم بفكرة الاستهلاك، مديرة البنك تبتسم، لقد استفدتم من كل هذا النظام المصرفي أليس كذلك؟ يتراجع جسدي الى الوراء كمذنب، بسبب ما آل إليه البلد، أنا المسؤول! انا الرقم بين أرقام المسروقين، أنا الصدى المرَجِّع لصوت الفساد.

الشكر لكل من ساهم، وسيساهم في هذه النشرة من محررين وكتاب وفنانين ومصممين ومترجمين.