مادة لزجة سوداء تعشعش في أحشاء مدينة منكوبة

أحمد غصين

يقال إن صورتك عن نفسك مغايرة لصورة الآخرين عنك. ويقال أيضاً إن كلّما ابتعد الواقع عن المثال، يزداد القلق الوجودي وتزداد الصورة تغبيشاً، فيستيقظ التوحش في انفصال النفس عن السياق العام المعاش، فتظن أن ردم القديم هو حل للمستقبل، لأنك غير قادر وعاجز عن أن تعيش في اللحظة. 

نفتتح العدد الجديد من نشرة “المشتق”، وهو العدد الثاني، مع ثلاثة ضيوف محررين جدد هم: رشا السلطي عن محور “قلق”، طارق العريس عن محور “وحش” و”استديو أشغال عامة”مع جنى نخال، وعبير سقسوق عن محور “ردم”.

 ثلاث كلمات “جذر” جدد اخترناها بالتنسيق مع المحررين الضيوف لارتباطها اللصيق مع كل الظروف المحيطة بنا، والتي نعيشها ونعانيها ونطرح أسئلة عن كيفية معالجتها وقراءتها من زوايا مختلفة. جذر “كلمة” سينطلق منها المحررون إلى تكليف كتاب وفنانين مختلفين وأوراق متنوعة.   

على أعتاب المجهول التام في لبنان، من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، ورغم تعوّد الناس هذا التعطيل الذي يراد منه فقدان الأمل بظهور خطاب وممارسة مغايرين عن هذا النظام، الذي أصبح عاجزاً عن تجديد نفسه، هو الذي كان يجدد نفسه من ضمن أزماته كما تعوّد من قبل، وبسبب فايروس كورونا والإغلاق الذي أجبر الناس على مراوحة مكانهم، طاف القلق على الوجوه.  ما بين جريمة انفجار المرفأ في ٤آب إلى اليوم، تستطيع أن تلاحظ شحوب الوجوه وزوغان العيون، في لبنان البلد المعتاد على المصائب والنكبات، يبدو أن فرز الأدرينالين المتأهب لرد الخطر، لم يتوقف حتى بعد زوال الخطر المباشر. نفرز أدرينالين الوهم بأن الآتي أعظم. من هنا منبع نوبات الهلع. 

أن تمشي في شوارع بيروت، هو أن ترى عيوناً ترتحل من دون تركيز. هنا رجل واقف في الشمس وحده يدخّن سيجارة تلو الأخرى، وعينه على الأرض يكلّم نفسه. وهنا فتاة تركض، تتنفس بصعوبة، تحاول الركض ليس كرياضة فقط، بل بدافع طرد القلق، لكنها تتوقف بعد دقائق، تنحني، أشعر بالوجع في معدتها، تكمشها وتشد عليها، في محاولة للركض مجدداً بعد أخذ نفس عميق. قلق، نوبات هلع، كأن هناك مادة سوداء في المدينة تنتقل من جسم إلى آخر، تعشعش في أحشائه، تارة في الصدر، وتارة أخرى في الرأس، وطوراً في شهقة كبيرة من رجل عجوز، عجز عن التقاط الهواء، تحسه يريد أن يبتلع العالم. 

والقلق آت من عدم قدرتنا على التعبير، أو بالأحرى من عدم فهم كيف لنا أن نعبّر عن الغضب – ينصح الأطباء النفسيون بأن تجد طريقة معينة للتعبير والتنفيس عن غضبك – في بلد دُمّرت عاصمته، أصبحت مألوفة رؤية امرأة على ناصية الطريق تجهش بالبكاء. إنه فائض الأدرينالين الذي يرفض لسبب سياسي نعرفه، أن يتحول إلى غضب عامر. تفجير بيروت، أزمة اقتصادية حادة، فساد تحوّل إلى وقاحة مفرطة إلى حد السخرية، إغلاق لم تعد الطبقات الفقيرة قادرة على أن تتحمله، بعد أن سرق البنك آخر ما تملك. كل هذا، وبسبب غياب أي أفق سياسي، نردم غضبنا كما ردموا مدينتنا. وإلى أن يستيقظ الوحش الذي لا تخمد عواقب استيقاظه، سيظل القلق ونوبات الهلع تطوف على وجوه الناس. 

هذه البلاد لن تعود كما كانت من قبل – جملة أستهجنها مراراً – لا يعني أنها كانت أفضل. أشعر أن المقصود هنا بالقبل ربما، أنها كانت مشروعاً لدولة أفضل، نحلم بها جميعاً، أي أنها الآن لم تعد حتى مشروع حلم بدولة.  فلبنان لم يمرَّ في مرحلة وضوح لمشروع الدولة الحريصة على عيش مواطنيها في كافة المجالات. لم تمرَّ هذه الجمهورية إلا بأزمات حكم وهوية وحروب. حتى مشروع إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية، لم يكن إلا تمهيداً لهذا الانفجار الذي نشهده الآن. إذاً، مخنوقة هذه البلاد بنظامها الطائفي الرأسمالي، حتى تخالَ أن أبناءها لا يعرفون منطقاً سواه، أزماتٍ متلاحقة، ومثقفين يجهدون بتحليل كل مرحلة من مراحله، بخطاب يسعى إلى فهم هذه المنظومة ونقدها، من دون تسجيل أدنى انتصار عليها.

وهذه البلاد لم تعُد كما كانت من قبل، قبل هذه الأزمة والانتفاضة وفشل جمهورية الطائف. هي غربة نعيشها نحن المهزومة أحلامنا، ومن لم يتحمل غربته عن نفسه وعن البلد، اغترب إلى بلاد بعيدة.  

لم نعرف كيف نترجم غضبنا عنفاً، لم نعرف كيف نغضب حتى في ساحات افترشناها وقت الانتفاضة. ساحات سوليدير لم تكن لنا. نحن نعلم هذا، والشرطي الذي أطلق رصاصاً من بندقيته علينا يعلم هذا. لم نترجم غضبنا عنفاً، خوفاً أو حماية لمصالحنا. ولأننا رفضنا عنف السلطة وقابلناه بالطرق السلمية، أتى تفجير المرفأ ليُكتب على حيطان بيروت، “سنعلّق المشانق”، بدأ الوحش بالظهور. 

والوحش، وقبل أن نتكلم عنه كمادة تنمو داخل كل واحد فينا، أوعن الوحش في اللغة والأدب والشعر، هنالك الوحش الأكبر الجاثم على صدورنا، وحش بأذرع طويلة متمددة إلى كافة تفاصيل حياتنا، هو وحش السلطة، جشع هذا الوحش، ينهش من لحمنا ولا يشبع، وله أشكال مختلفة، مطاط ويأخذ أحجاماً عدة، ليس ثابتاً على حال. تراه يفتش عن حبة دواء ليلتهمها ويزوّرها “ملف أدوية السرطان المزورة”، ويرميك في العتمة ثم يخرج عليك وقحاً قائلاً: إن من لا يعجبه الحال فليهاجر. يتسلل في عباءة طائفية ليبرر فساداً، وبعباءة قانونية ليعفو عن سياسي. يتضخم إن أزعجته فيطلق عليك الرصاص، يفجّر مدينة، وقد يغتال من لا يتوافق معه. جشِعٌ هذا الوحش، يفجر حروباً، فيزرع داخل كل واحد منا وحشاً صغيراً “كم مقاتلاً في حرب تحول وحشاً،”يريد أن ينهش ما تصل إليه يداه، ونحن الخائفين أمام جشعه، نحاول الهرب منه هجرة أو قلقاً، ونردم ما استطعنا من ذاكرة وبحر ومدينة. 

والردم هو فعل سياسي متمرسة فيه هذه السلطة، تعتاش عليه، تمارسه لضمان بقائها، من ردم لطمس معالم جريمة كما حدث مع مجازر الحرب الأهلية، إلى ردم المدينة الخارجة من الحرب الأهلية لمشاريع نهب ومال، ردم الذاكرة كي لا نناقش ونتصالح مع تاريخنا كما حدث في ملف المخطوفين. والردم عند السلطة يحدث بسرعة وبشكل ممنهج، حتى تسارُع الأحداث السياسية وعنفُها ينطويان على قدرة هذه السلطة أن تنسيك تبعات هذا العنف، ونحن حين نقول كي لا ننسى، أو حين نحاول أن يكون هناك استمرارية ما للنضال اليومي السياسي، هو موقف ضد ردم ومحاولة هذه السلطة أن تنسينا فسادها وعجزها. 

أمام هول القلق من تفكك أواصر الدولة والمجتمع وانحلالهما، وهو قلق عند جميع أطياف هذا المجتمع بطوائفه ومجتمعه المدني وملحديه، قلق عن وعي عند البعض، وعن عجز واستسلام وانتظار الزعيم السياسي عند البعض الآخر، ناهيك عن قلق الطوائف من بعضها البعض ومن غلبة واحدة على أخرى. قلق من أن هذه الجمهورية كما هي الآن انتهت وفي طور التحلل. قلق من أن الآتي أسوأ مما هو عليه الحال الآن. قلق من أن هذا التحلل ينتج وحوشاً هائمة على وجهها، تنهش ما تطاله بعنف. قلق من معرفتنا أننا نردم غضبنا، نردم عجزنا عن بلورة مشروع مجتمعي ينطوي على عقد اجتماعي جديد. أمام هول هذا القلق، نقف نحن القلة الخارجة عن طوائفها، الحالمة بمجتمع العدالة، أمام وحش السلطة الأخطبوطي بعجز، نراهن على مأزق السلطة نفسها، آملين بسقوطها، أو آملين بعجزها، وننتظر انفجاراً ما من داخلها. 

تتوارد الأخبار عن قطع طرقات هنا وهناك. مجدداً هي ردة فعل على كل الأوضاع المزرية اقتصادياً وسياسياً. أتوجه إلى ساحة الشهداء، أعلم أن قلة تتظاهر، وقلة تقطع الطرقات وتحرق الإطارات. أنظر حولي، لا وجوه أعرفها منذ أيام انتفاضة تشرين، لا مجموعات سياسية، بضعة فتية غاضبين، يشعلون النار على طريق تكسَّر زفته من كثرة حرق إطارات السيارات مراراً وتكراراً على مدى كل هذه الأشهر. يقترب شاب يسكب المازوت أكثر على دولاب لم يشتعل بعد، ترتفع تلك السحابة السوداء بسرعة، أراقبها ترتفع وتغطي المشهد كله. في خلفية ساحة الشهداء آثار الدمار الناتج عن جريمة المرفأ ما زالت هناك. ترتفع تلك المادة السوداء. أراها تغطي المدينة، تتحول إلى مادة لزجة متحركة سريعة، نتنشقها نحن سكان المدينة المنكوبة. تتحرك داخلنا وتنتقل تارة إلى الرأس وتارة في ارتفاع دقات القلب معلنة عن نوبة هلع، ومجدداً في شهقة رجل عجوز يقف وحيداً في الشارع، وامرأة تعصر معدتها لعلها تردم هذا القلق المرعب قبل أن يتحول إلى وحش. 

وجوه هائمة على وجهها، عيون زائغة في مدينة مفجَّرة. ولا أمل في التخلص من هذه المادة اللزجة إلا تجميعها مجدداً، وقذفها في وجه هذه السلطة القذرة بكل أركانها. ما زال هذا الفتى يقطع الطريق احتجاجاً، يسكب الزيت على دولاب، بانتظار المجموعات السياسية المعارضة أن تثور. لا أحد يملك الحل لهذا البلد المنكوب، والانكسارات والهزائم متتالية، ولم يعد طرح الأسئلة مجدياً. وحتى لا يكون الكلام سوداوياً، لا أمل إلا في الالتحاق مجدداً بهذا الفتى المنتظر هناك في الساحة وحيداً. لا خيار إلا في خوض الصراع وتكراره. وقبل أن يتحول هذا الفتى الساكب للزيت على دولاب محترق إلى وحش، لعل التحاقنا نحن اليتامى، الأفراد المنهكين به، لنقذف غضباً تلك المادة السوداء في وجوههم، طاردين هذا القلق من ردم حاضرنا، لعل الشارع مجدداً هو الأمل الباقي، قبل أن نغترب جميعاً في وطن يهوى ردم ضحاياه.