ص.د.ى

ريا بدران

“أخبروهم بأننا كنا نطير، إذا ما سألوا. تكمن معارف الحرية في ابتكار المهرب، في استراق فاصل من الحدود والهياكل. هذه هي الحقيقة التي تهمسها أغنيات أولئك الذين من المفترض أن يبقوا صامتين.”

من: Undercommons: Fugitive Planning and Black Study لفريد موتين وستيفانو هارني.

بدأت أتأمل، بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من بدء الحجر الصحي الذي أتى مع انتشار فيروس كوفيد-١٩، التعليقات التي راحت تنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي، غالبًا على شكل نكتة أو طرفة. لا أتذكر هذه التعليقات بالحرف، إلا أن موضوعها كان زقزقة العصافير وأصواتها، هذه الأصوات التي طرب لها الناس في بداية الحجر، أصبحت فيما بعد صاخبة ومزعجة. شكلت تلك الزقزقات في البداية، مناخًا صوتيًا مُرَحّبًا، يخرق الصمت المزعج والسكون المريب للعالم، إلا أنها ما لبثت أن أصبحت صاخبة ومزعجة إلى حد لا يحتمل. لم تزقزق الطيور بصوت أعلى من المعتاد، بل أنها كانت أكثر هدوءًا من ذي قبل، لكنها ذكرتنا، بأننا طالما قدرنا على سماعها، علينا أن نبقى في العزلة، وفي الحجر، وفي الثبات. كان العالم ساكنًا، إلا أنه لم يصمت يومًا.

عندما غابت الأصوات المعتادة، ظُن بأن ذلك هو الصمت، إلا أن هذا الغياب، سمح لأصوات أخرى بأن تظهر وأن تتعظم. سُمعت، عندما كانت تدابير الحجر في أوجها في لبنان، أصوات المروحيات تطوف فوق العاصمة، وأصوات مذيعي الأخبار وهي ترتجي من الناس البقاء في البيوت، وأصوات سيارات الإسعاف وهي تجوب الشوارع الفارغة، وأصوات القدّاس الأسبوعي التي بدأت تُبَثُ من سيارات وشاحنات تدور في المناطق، وهمهمات موتورات الكهرباء، التي تعوّض عن شبكة الدولة الكثيرة الإنقطاع في وقتها، والغائبة تمامًا حاليًا. يلعب المنطق المعماري والمدني للمدينة دورًا هامًا لجهة توزيع الأصوات التي نسمعها، كاشفًا عن علاقة ثلاثية معقدّة، بين المباني، والسياسة، والظواهر السمعية.

تزامن انتشار فيروس كوفيد-١٩ في لبنان، مع حدث معلمي آخر، بدأ قبل بضعة أشهر، في تشرين من العام ٢٠١٩. انتشرت الجموع الغفيرة في المدن والبلدات والقرى اللبنانية خلال الأشهر الأربعة الأولى من الثورة، ناشرة معها صرخات من أعماق الغضب والوجع والقهر المزمن، الذي سببته الطبقة السياسية الحاكمة المجرمة. شَغَلْنَا الفضاء العام في هذه الشهور ليلًا نهارًا، مالئين الساحات والشوارع بأصواتنا وهي تهتف وتغني، وبالطناجر وهي تقرع في الليل، وبأغاني الثورات القديمة والجديدة وهي تصدح من مكبرات الصوت العملاقة، وبالحفلات في الهواء الطلق، والرقص العفوي، وحلقات النقاش والخطابات المباشرة. واجهت الثورة في هذه الأيام مقاومة عنيفة، بأسلحة متعددة منها الرصاص والقنابل المسيلة للدموع ورشاشات المياه وغيرها من معدات الشرطة والعسكر التي هدفت، كما أصواتها العالية، للسحق والبتر والأذى. غمرت الساحات أصوات متباينة ظلت تتردد في آذاننا وقتًا طويلًا، وظلت توقد حماسنا للرفض، وكل تجلياته الصوتية.

كان لفيروس كوفيد-١٩ في لبنان أثر مضاعف، إذ تزامن وصوله مع إحدى أبرز الثورات الشعبية في لبنان، ليخرج على إثره الآلاف من الشوارع والساحات، عائدين إلى منازلهم، في وقت مفصلي من الثورة.  قد يبدو هذان الحدثان متناقضان لجهة درجات الصوت في كلّ منهما، إلا أن التضاريس الصوتية التي صدرت عنهما، تتصارع تباعًا، لإرساء الحكم والتحكم، سواء عبر الإسكات، أو بث الرعب، أو التخويف، أو عبر محاولة السيطرة على الفضاء العام من خلال الذبذبات الصوتية والموسيقية.

ينطلق المشاركون الخمسة في هذه السلسة من نقاط بحث تُسائل انتشارات الموسيقى والصوت، وتخصيصها، وتردداتها. يصبح الفضاء المعماري، أو الفضاء المحسوس والمبني بيتًا للذبذبات. يشرح الكاتب والمؤلف الموسيقي محمد صفا ذلك في أولى نصوص السلسلة، باحثًا في كيفية تشكيل الترددات إدراكنا ووعينا للفضاء المدني، وهذا الفضاء المادي لا يقتصر على ما هو مبني فقط، بل يتمدد ليبلغ الإشعاعات الكهرومغناطيسية لموجات الراديو. يحرك الراديو، وغيره من الأدوات اللامادية المذكورة في نصوص هذه السلسلة، مميزات الثقافة السمعية المحلية وخصائصها الفريدة، في المنطقة والعالم.

بدأ الراديو في لبنان، كما في فلسطين مع الإستعمار. يشرح الفنان أرجونا نيومان، والفنانة لور دي سيليس، والقيمة ريتشيل ديدمان، في حوار معنون [1]“The Colonial voice” أو “الصوت الإستعماري”، على راديو  Earth Hold، كيف بث الإنتداب البريطاني صوته الإستعماري عبر الراديو، والطرق التي استخدم عبرها الفلسطينيون الراديو كأداة مقاومة، وكيف قمعت الجهات المستعمرة محاولات المقاومة تلك. شهدنا في فترة الحجر المنصرمة، طفرة في محطات الراديو الرقمية في العالم العربي، في مدن مثل بيروت وعمان وبيت لحم وتونس. أصبحت هذه المحطات، في ظل الحدود التي تتحكم بالناس وتصعّب التواصل بينهم، متنفسًا مهمًا للسمع والتبادل الصوتي في المنطقة، إذ تحررت من قيود إذاعات الراديو التقليدية وضوابط الدول والشركات الخاصة التي تتحكم بفضاء الـFM. راديو الحارة، الذي يبث من عمان، ورام الله، وبيت لحم، هو واحد من هذه المحطات التي ظهرت في فترة الحجر، وسرعان ما أصبح موقعًا للإحتجاج والمقاومة، إذ استمر ببث حي، طوال أربعة أيام، تحت عنوان “في المشمش”، ردًا على مقترح اسرائيل لضم أجزاء إضافية من الضفة الغربية. جمع هذا الحدث، منسقي موسيقى من المنطقة والعالم، وصدر عنه مقطوعات موسيقية، وأصوات مسجلة، وأغانٍ احتجاجية، وغيرها من المقاطع الصوتية. أصبح هذا الراديو موقعًا للإنشقاق والرفض، إذ أوصل، عبر الموسيقى والصوت، رسالة جماعية راوغت اذاعات الراديو التقليدية، والوسائل الإعلامية بشكل عام. أتاح انتقال الاحتجاجات من الفضاء المكاني إلى فضاء الراديو، إعطاء المجال لاتساع التضامن في كل البلدان المتحدثة بالعربية، بدأنا نرى، أو بالأحرى نسمع، هذا التضامن في كل أنحاء العالم العربي، كما سمعناه قبلًا في شوارع بيروت، عبر الأغاني والهتاف.

ولعل الراديو، أو البث والترابط الصوتي، أو الغناء والأغاني، كما تظهر في هذه السلسلة، تصبح كلها مواقعًا نستطيع منها أن ننطلق نحو قوة سياسية تأسيسية تدفعنًا لأن نرص صفوفنا بشكل أفضل.

ترجمة: حسين ناصر الدين


[1] كان هذا البث بتكليف من معرض قلنديا الدولي الرابع في فلسطين، ٢٠١٨.