برّاد

ألكسندرا شريتح

العمل الفني: ألين ديشامب، "سيارة مدمرة جزئيا بالانفجار في الجميزة تنتظر انتهاء التضخم الجامح لعل يتم اصلاحها". تصوير فوتوغرافي، 2021

مقطع من رواية “من قتل عصام سكّر؟ أو: لحوم طريّة”

            في المقطع التالي، تنزل إحدى الشخصيّات الرئيسيّة إلى قبو أختها في بلدةٍ لبنانيّة على الحدود السوريّة، لتجد جثّةً مدسوسةً في البرّاد. من هذا الشخص، ومن وضع جثّته هناك؟ هل قتلته العائلات السائدة في البلدة الحدوديّة مثلاً، أم جرّته إلى القبو إحدى المجموعات المسلحة القادمة من وراء الحدود؟ أو هل وضعت الأخت تلك الجثّة في البرّاد بنفسها؟

            تبدأ نفيسة بالبحث عن القاتل، وتبحث الرواية بدورها في العلاقات بين الجنسانية والعمل، الهجرة والكوارث البيئيّة، الوطنيّة والعنف. وما يجمع تلك الخيوط فهو اللحم: العلاقة بين الظاهر والباطن، بين المادّة وما عداها.

            فكلمة “بشر” بالعربيّة متعلّقة بالبشرة، أي غلاف الجسم المساميّ، إلّا أنّها باللغات الساميّة الأخرى كالأوغاريتيّة والآراميّة والعبريّة، تشير إلى اللحم تحت الغلاف: لحم الإنسان أو لحم الحيوان، لحمٌ يؤكل ويهضَّم، لحمٌ يوخز ويتحلّل ويُخرق.

            متى يصبح الإنسان مساميّاً؟ متى يتحوّل البشر إلى لحم؟

***

كان عدد الملاحم ومحلاّت الألعاب ومغاسل الموتى كبيراً في البلدة الحدوديّة “ن”، بحيث أنّه يبدو لكلّ عابرٍ فيها أنّ سكّان تلك البلدة لا يولدون إلّا ليَذبحوا خاروف العيد، ويفرقعوا ليلةً على سطح بنايةٍ منخفضة، ثمّ ليرحلوا عن دنيانا، عابقين برائحة ماء الزهر ومطاعم الفول المجاورة لمعظم المآتم المحلّيّة.

            لكنّ سكّان البلدة الحدوديّة “ن”، في الحقيقة، نادراً ما يولدون، ونادراً ما يحتفلون بالأعياد، فلا يخدّرون أنوف جيرانهم برائحة اللحم المشويّ وثاني أوكسيد الكبريت، لأنّ هواء بلدتهم مثقلٌ أصلاً بمازوت السيّارات والمركبات العابرة لنقطة الحدود بين لبنان وسوريا. فالبلدة الحدوديّة “ن” هي آخر استراحةٍ للمسافرين المتزرزبين عرقاً في الصيف، والمتجمّدي الحلمات في الشتاء، قبل عبورهم إلى البرزخ الممتدّ بين جمارك البلدين.

            تلك الليلة، ليلة بدأ كلّ شيء، قدمت نفيسة إلى بيت أختها سوسن في البلدة بقنّينة ويسكي خبّأتها في جيب عباءتها، ودخلت البيت غامرةً بطّيخةً كبيرة. وقبل أن يلحق أحد الأولاد أن يخلّصها من الثقل، فكّت أزرار العباءة، فظهر بنطلونها الذهبيّ وقميصها المطبوع بجلد نمر وحزامها المندسّ بين طبقات السمنة في خصرها.

“كل عام وأنتِ بخير، يا سوسن!” صاحت نفيسة في فضاء البيت الضيّق.

وقفز ضجيج النشرات الإخباريّة بين الجدران، وارتفعت كركرة بطون السكّان إلى دهاليز آذانهم، وحلّقت الصحون المكوّمة طعاماً من المطبخ إلى طاولة السُفرة، وتشابكت الأرجل المسرعة في المعابر الضيّقة، ولم يجب أحدٌ بشيء على كلام نفيسة.

ولمّا امتلأت البطون، وأنزلت نفيسة طبق البطّيخ البارد على شرشف الطاولة البلاستيكيّ، حرّكت أختها سوسن ذراعها، وتزحزح كمّ قميصها، وسجّلت عينا نفيسة رضّة على الرسغ الأيسر، سرعان ما اختفت في طيّات القماش.

            “ما هذا؟” سألتها نفيسة، هامّةً بأن تمسك بكمّ سوسن لتعيد الكشف عمّا رأته. إلّا أنّ سوسن ابتعدت عن يد أختها الفاحصة، وقامت عن كرسيّها، تاركةً حزّ البطّيخ الدامي على صحنها، واتّجهت إلى المطبخ لتعيد ملء كأس ابنها عصيراً.

            “ماذا حدث لكِ؟” تتبّع إلحاح نفيسة خطى أختها المبتعدة.

            لكنّ سوسن لم تجب، فأصرّت نفيسة وأصرّت، حتّى تنهّدت سوسن أخيراً واعترفت بأنّها انزلقت البارحة على قشرة بطاطا في المطبخ ووقعت، خابطةً معصمها بالمجلى. إلّا أنّ نفيسة شمّت في جوابها رائحة التفادي، خصوصاً لأنّ موسم البطاطا كان ناشفاً هذه السنة، فصعب عليها لذلك أن تتخيّل أن يكون قشرها زلقاً بهذه الخطورة.

            “كل عام وأنا بخير!” قالت سوسن أخيراً، ناهيةً الحديث عن معصمها بدقّة قنّاص.

وأنزلت سوسن الشموع في بطن كعكة العيد بطعناتٍ سريعة ثمّ أضاءتها، فبرقت السماء وانطفأت الكهرباء وتوهّجت عيون الجالسين حول الطاولة، ونزل المطر حجارةً على الأسقف والسيارات والطرق والأرصفة والقطط الشاردة، واستمرّ تطبيله على قوالب الصفيح فوق ساحات البيوت حتّى بعد أن كوّر دسم الشوكولا بطن نفيسة.

            حينئذٍ، تراخت نفيسة على الكنبة، ورفعت ساقيها، وفتحت زرّ بنطلونها الذهبيّ، وقرّرت أن تبيت عند سوسن ليلتها.

(وكانت تلك غلطتها الأولى).

            “عودي إلى بيتكِ يا نفيسة”، قالت سوسن، لكنّ نفيسة لم تسمعها لأنّها غطست في سباتٍ عميق.

             ولم تخترق سباتها هذا أصوات الرعد والمطر، أو اعتراضات والدتها الحجّة على حمّامها الأسبوعيّ، ولم يدغدغه أزيز باب القبو المجاور للمطبخ، وصوت خطواتٍ ثقيلة على باطون درجاته. ونام الجميع، فانتشر شخيرهم بين الغرف، وهبّت ريحٌ من باب الشقّة الأماميّ لمّا فتحته ابنة أختها رشا وخرجت. حينئذٍ فقط شقّت نفيسة عينيها ونظرت إلى تلفونها، فإذا بها الثانية بعد منتصف الليل، فتنهّدت وقالت في نفسها:

            “أمور غريبة عجيبة تدور اليوم في هذا البيت”.

وأجابت بطنها مكركرةً، فتجاهلتها نفيسة في البدء، إلّا أنّ البطن أصرّت، فقامت نفيسة إلى المطبخ وفتحت البرّاد. فصفق خدّيها الهواء المكبوس داخل الهيكل المعدنيّ، ولذع عينيها ضوء لمبته الجديدة الموفّرة للطاقة.

“أفّ،” تأفّفت نفيسة، كاشّةً ذبابةً حامت بتوتّر حول وجهها.

كانت قد تخيّلت، في سهوتها، أن يكون برّاد سوسن محشوّاً بألذّ الأطايب: الخضار بالبشاميل، والسباغتي بالصلصة الحمراء، والبيتزا بالفطريّات والفلفل، والأرز البسماتي بالكاري، والبطاطا المقليّة، والسمبوسك بالجبن، والسمبوسك بالفطريّات والبصل المفروم، والفتّوش. فقد تناست نفيسة أنّ أختها سوسن قلّما طبخت شيئاً شاءت نفيسة أن تهضّمه، أمّا طوابير الخبز فقد التفّت حول البنايات واخترق الرصاص دوائر الأرغفة.

وأفراد عائلتها الفجاعنة، فقد شفطوا عشاءهم الصغير كالمكانس الكهربائيّة، ولم يُبقوا شيئاً لعابر سبيلٍ قد يسري في المطبخ تحت ضوء القمر. فهدر البرّاد فارغاً، وتدحرجت على رفّه السفليّ نصف خيارةٍ منسيّة، وأحسّت نفيسة بطنها تمتلئ بالخيبة، فملأت كأساً بالماء وسكبته في حلقها، وكركرت معدتها وقالت:

“هيّا بنا يا نفيسة إلى القبو”.

ففي بيت أختها سوسن برّادٌ ثانٍ تقاعد من مجلسه في المطبخ، تملؤه سوسن بوجباتٍ طبختها وسكبتها في علب بلاستيكيّة، وثلّجتها لليوم الأسود: أي لمّا ينقطع الموتور عن الحيّ ويجلس الجميع في العتمة جائعاً.

ارتدت نفيسة عباءتها فوق البيجاما القطنيّة التي أعارتها إيّاها سوسن ليلتها، والتي كانت تنحشر على نحوٍ قاهرٍ في مؤخّرتها، وبرمت مسكة باب القبو، دافعةً إيّاه بكتفها. لكنّ الباب بقي مغروساً في مكانه، فلم يتحرّك مهما شدّته نفيسة ومهما دفعت.

“غريب”، همهمت في نفسها.

فسوسن نادراً ما تقفل هذا الباب، خاصّةً بعد أن كبر التوأم وقلّ تدحرجهما على الأدراج كالتفّاحات المتساقطة. وتذكّرت نفيسة أنّ أختها تخبّئ أثمن أشيائها في علبةٍ وراء آظان المياه على التّتخيتة. فكركرت معدتها بإلحاح، ووقفت نفيسة على أطراف أصابعها، وتحسّست بكفّ يدها أرض التّتخيتة، فإذا بإحدى البلاطات تتزحزح، وإذا بمفتاحٍ ملفوفٍ في منديلٍ حريريّ، أصبح الآن بين أصابعها.

أدخلت نفيسة المفتاح في باب القبو، فاحتكّ بالثقب الصدئ، واستدار الباب على نفسه وتمرجح على رسغيه مصرصراً.

“لن تنجحي في تجويعي اليوم، يا سوسن”، قالت نفيسة في نفسها، وابتسمت.

 خلّفت قدماها الحافيتان آثاراً رطبةً على باطون الأدراج البارد. ثمّ فتحت البرّاد، فأسقط مستطيلاً ضوئياً على الأرض الباطونيّة، انعطف وجرى مرتفعاً على طول الحائط وراءها.

وفي وسط مستطيل الضوء الضيّق، وقفت نفيسة شاهقةً. ووقع التلفون من يدها المهتزّة، فقرقع على الأرض الباردة، ثمّ سكن.

ما هذا؟

فقد أنارت لمبة البرّاد كتلة لحمٍ تحدّبت وحدها على الرف البارد، فكادت أن تملأ الهيكل كلّه:

إذ

انطوت الساقان عند الركبة،

وتهدّل الكتفان،

وجلس الرأس على الركبتين.

أمّا الوجه، فقد كان مداراً نحو نفيسة،

            فحدّقت فيها عينٌ واحدة، دون أن تغمز أو تنغلق أو يتعبها التحديق.

وفتحت نفيسة فمها هامّةً بأن تقول شيئاً، لكنّ الكلمات لم تأت، وانزلقت كفّها فوق فمها المفتوح بصمت.

            ثمّ استدركت فجأةً، فأمسكت باب البرّاد ودفعته بكلّ قوّتها. انغلق مدوّياً، وانقطع ضوء اللمبة، فوقفت نفيسة في العتمة مفتوحة العينين.

لا، لم يكن ما رأته صحيحاً. لا بدّ أنّها تخيّلت كلّ شيء.

 لم تجرؤ نفيسة أن تعيد النظر، لكنّها جمّعت قواها أخيراً، وعادت وفتحت الباب. فإذا بكتلة اللحم ما تزال متحدّبة على الرفّ المتسقّع، وإذا بالضوء ينسكب أمواجاً من اللمبة في السقف المعدنيّ. وأنارت اللمبة طيّات بشرة نفيسة: زوايا لم تر ضوء النهار سنينا.

في البرّاد، كانت الساقان مطويّتين عند الركبة، وتهدّل فوقهما الكتفان، وحدّقت العين المفتوحة في نفيسة كعين السمكة، دون أن تغمز أو تنغلق أو يتعبها التحديق.

أمّا العين الثانية، فقد اختفت في فجوةٍ عميقة بين الصدغ والذقن، كشفت عن لفافات العضل تحت الجلد المقشور.

ثمّ تحرّكت الجثّة: انزلقت الذراع اليسرى إلى الأرض، وتفتّحت الأصابع، وردةً، على الباطون البارد. ولمعت على الرسغ ساعةٌ ذهبيّة ذات عقارب خضراء، لم ترَ نفيسة مثلها من قبل.

            “لا حول ولا قوّة إلّا بالله”، وشوشت في اضطرابها، وفي اضطرابها أيضاً تصلّبت.

            وخطت إلى الوراء، واصطدم ظهرها بأحد حيطان الغرفة، وأحسّت أنّ رجليها تحوّلتا إلى شيءٍ كالهلام، وانطوت ركبتاها وانزلق جسمها حتّى جلست على الأرض الباردة. كان باب البرّاد ما يزال مفتوحاً، فحدّقت نفيسة في الجثّة، وحدّقت بدورها في نفيسة عينٌ واحدة: عينٌ مفتوحة، كعين السمكة.

***

            صعدت نفيسة درجات القبو قفزاً، وأقفلت بابه بالمفتاح، ثمّ حشت المفتاح في بوليستر صدريّتها، واتّجهت إلى غرفة نوم أختها سوسن.

            لكنّها ما إن حاوطت بأصابعها مقبض الباب الدائريّ، حتّى لاح في بالها رسغ سوسن، فأزلقت نفيسة يدها عن المقبض عابسةً. لا، قرّرت في نفسها، لا داعي لإيقاظ سوسن الآن، ولا داعي لأن تزيد على مصائب أختها واحدةً أخرى.

            (ما الذي أكّد لنفيسة أنّ أختها لا تعرف شيئاً عن الجثّة؟ كانت تلك غلطتها الثانية).

وقرّرت نفيسة في صمت منزل أختها أمراً واحداً: أنّها سوف تتخلّص من الجثّة بنفسها، دون أن تنتبه سوسن إلى شيءٍ.

وتلك كانت غلطتها الثالثة.

***

النهار التالي، انتظرت نفيسة ريثما تحوّل الظهر إلى عصر وشخرت والدتها الحجّة في كرسيّها في الصالون، وخرجت سوسن إلى عملها في الملحمة. فغطّت نفيسة والدتها الغافية بلحافٍ منمّر، وسحبت مفتاح القبو من صدريّتها.

واقتربت من الباب، فإذا ببصماتٍ سوداء تمرّغت على المقبض، وبخدوشٍ في خشب الباب الأبيض، لم ترها نفيسة ليلة البارحة، أو ربّما لم تنتبه.

“لحظة”، شهقت في نفسها. فماذا تفعل إذا التقت الآن بأحدٍ في القبو؟

وتذكّرت أنّ ابنة أختها رشا قالت لها مرّةً: إن أردتِ أن تردّي معتدياً، فاطعنيه بقلمٍ في الوريد. لم تسأل نفيسة البنت المراهقة وقتها من أين تعرف ذلك. أمّا الآن، فقد وجدت قلماً مرميّاً على طاولة المطبخ فأمسكته في قبضة يدها كالحسام.

“افتح يا سمسم”، قالت للباب وبرمت فيه المفتاح. فأجاب الباب بأزيزٍ حادّ أوقف الشعيرات على طول ذراعيها، وانفتح.

انزلقت نفيسة على الأدراج كالشبح.

كان القبو مظلماً، لكنّ عينيها بدأتا بتمييز الأشكال في العتمة، حتّى بان أمامها هيكل البرّاد المستطيل كجبل الجليد المقترب.

لحظة ــ قالت نفيسة في نفسها ــ هل كان ذلك صوت حرتقةٍ في إحدى الزوايا؟

وجال نظرها في القبو، لكنّه صعب عليها، في العتمة، أن ترى شيئاً. فحبست نفسها وانتظرت، لكنّ القبو بدى فارغاً، فزفرت نفيسة طويلاً وأقفلت الباب من الداخل. هكذا، لن يزعجها أحدٌ في عملها، ولن يدخل أحد لنجدتها أيضاً، إلّا إذا كسر الباب بأكمله.

كانت الكهرباء مقطوعةً عن الحيّ، فإذا بالهواء في البرّاد أدفأ ممّا كان ليلة البارحة، لكنّ الجثّة المحشوّة فيه ما تزال باردة. أضاءت نفيسة تطبيق المصباح في تلفونها، وصوّبته باتّجاه البرّاد المفتوح.

            “هاي،” قالت للجثّة، لكنّ الجثّة لم تجب.

            كانت نفيسة قد أمضت ليلة البارحة محدّقةً في شقٍّ كبير في سقف صالون سوسن، ومعيدةً في بالها لحظة فتحها البرّاد للمرّة الأولى. فتقلّبت على كنبة أختها كسيخ الشاورما حتّى بلّلت الشرشف الدقيق بعرقها. وأحسّت نفيسة أخيراً، في ساعات الصباح الأولى، لمّا اندلق الفجر على البلدة الحدوديّة “ن” كقسطل الشطف المكسور، بأنّ حواسها بدأت تتخدّر.

            “تمْسحْنا،” قالت في نفسها، وتثاءبت.

            لكنّ شيئاً تفتّح عندها في قلب ذاك الخمول، شيئاً يشبه الغضب: ومض كالبرق البعيد ثمّ اختفى.

            وقد أحسّت نفيسة بذاك الغضب يملؤها الآن مجدّداً، كالماء الضاخّ في حوض استحمام. وكان عليها الآن أن تعمل بسرعة، قبل أن تستيقظ والدتها الحجّة أو تعود سوسن من العمل.

ولكن أين تبدأ؟

“قبل كلّ شيء”، قالت في نفسها أخيراً، “يجب إخفاء الأدلّة”.     

            كانت نفيسة تشاهد البرامج البوليسيّة بانتظام، وقد عرفت لذلك ضرورة أن تفرغ الجياب، لعلّها تجد فيها محفظةً أو بطاقة هويّة، أو عنواناً، أو أيّ أثرٍ لاسم صاحبها، أو حتّى دليلاً يشير إلى من يكون. وعرفت كذلك ضرورة التخلّص من الثياب وباقي الأغراض الشخصيّة. إلّا أنّ الجسد التفّ حول نفسه في هيكل البرّاد الضيّق، فاضطرّت نفيسة أن تقلبه لكي تصل إلى أحد الجيوب.

            أغرقت أصابعها في قماش البنطلون، لكنّ الجثّة كانت أثقل ممّا توقّعت. فشدّت نفيسة ذراعها اليمنى، وشدّت كفّي رجليها، وقرصت صدرها حتّى تكوّم الجلد داخل قبّة قبضتها، وانزلقت نقطة عرق على طول صدغها، لكنّ الجثّة لم تتحرّك.

            “عندنا مشكلة،” أعلنت نفيسة أخيراً، وبدى لها أنّ الجثّة هزّت رأسها بالإيجاب.

            فإن صعب عليها إخراجها الآن من البرّاد، فكيف تحملها إذن على أدراج القبو؟

***       

بعد أن انتهى كلّ شيء، فكّرت نفيسة في هذه اللحظة بالذات: لحظة وقفت أمام هاوية تورّطها في الحادثة كلّها. فقد سهل عليها الآن أن تغيّر رأيها، فتعود إلى المطبخ، وتدسّ المفتاح في التّتخيتة حيث وجدته، ثمّ أن تسرع إلى بيتها في أعلى بنايةٍ في البلدة الحدوديّة “ن،” كأنّ شيئاً لم يكن.

فإن فعلت نفيسة الآن، لكانت منعت انفجار سلسلة أحداثٍ أدّت بها إلى جثّةٍ ثانية، فثالثة، ثمّ إلى تحقيقٍ وطنيّ نشر وجهها في الإنترنت كالجرثومة المدبقة، وألصق شبهها على سطح كلّ سيّارة في البلدة الحدوديّة “ن،” ورشّ صورتها على بنايات المدن الساحليّة البعيدة والحيطان فوق تنكات الزبالة.

لا، لم تتخيّل نفيسة أن تقذفها الحياة إلى الشهرة هكذا.

فمنذ عقدين، حين اعتزلت الغناء اضطراراً بعد أن اقتحمت الشرطة أحد الأعراس وسحبتها وباقي فرقتها الموسيقيّة عن المسرح ثمّ حشتهم في سيّاراتٍ مدنيّة واختفت، تمنّت نفيسة أن يتزحلق اسمها على جميع الألسنة كما فعل قبل جلوسها في السجن. لكنّها لم تتخيّل، في أسوأ أحلامها، أن يحدث ذلك في هذه الظروف بالذات.

***

 اهتزّ الضوء في البرّاد بترقّب، ووضعت نفيسة كفّيها على حزامها بحزم.

“لا،” قالت في نفسها: “لا يمكننا أن نستسلم الآن.”  

فغمّست أصابعها في الشعر النامي بكثافةٍ على قفا الرأس البارد، وأرخت وشدّت، وشدّت وأرخت، حتّى خرجت من بطنها صرخةٌ شقّت الصمت في القبو كالحجر المرميّ عبر شبّاكٍ مغلق، وتزحزح الجذع أخيراً، وزحف الجسد ببطءٍ باتّجاهها.

“أخيراً”، قالت نفيسة، وشدّت الشعر خفيفاً مرّةً أخيرة. فازدادت سرعة الجسد فجأة، وانزلق باتّجاهها كالقطار المسرع. وخطت نفيسة خطوةً إلى الوراء، وتهاوى الرأس نحو الأرض الباطونيّة، وارتطم بها ككرة السلّة بأرض الملعب، وتماوج صداه الأجوف بين الحيطان، ثمّ اختفى.

            أرخت نفيسة كفّيها، فإذا في يدها اليمنى كتلة شعرٍ، علقت جذورها برقعةٍ ضيّقةٍ من فروة الرأس.

            وتدلّت الجثّة الآن بين البرّاد والأرض:

فقد تهدّل الرأس

 والكتفان

والصدر

عن الرفّ السفليّ،

وتكوّم الجذع والساقان في الداخل.

حشت نفيسة فروة الرأس في جيب عباءتها، وقبضت على قماش البنطلون، بين الفخذين تماماً، وشدّت، حتّى تلألأ البرّاد إلى الأمام وإلى الخلف، ثمّ استفرغ أخيراً باقي الجسم على باطون القبو البارد.

            حينها، أسندت نفيسة بالحائط ظهرها المتوهّج ألماً، وتنهّدت.

وتساقطت نقاط عرقها على الأرض: مجموعة نجومٍ رطبة، مجرّة إفرازاتٍ سرعان ما تبخّرت عن سطح الباطون الرماديّ دون أن تترك عليه أثراً.

تعالت في القبو تكّاتٌ ملحّة، لكنّ نفيسة لم ترتد ساعةً.

            فقامت وسحبت كومة الأضلع مبعدةً إيّاها بضع خطواتٍ عن البرّاد. وانتبهت إلى أنّه لم يكن يرتدي حذاءً، فتساءلت لماذا، ثمّ رأت أنّ سبّابته اليمنى مبتورة.

            “من فعلَ لكَ ذلك؟” سألته نفيسة، مداعبةً فروة الرأس في جيبها.

            ثمّ قلبت الجسم على بطنه، فالتصق الوجه بالباطون البارد.

وقشرت البنطلون عن الفخذين، وعن الكاحلين، إلّا أنّ جيوبه خلت من أيّ دليلٍ على هويّة لابسه، فلم يكن فيها غير بعض العملات الورقيّة المجعلكة، وبطاقة طبيب، طُبع عليها بحبرٍ أسود عنوانٌ في بيروت ورقم تلفون. ووجدت كذلك أغلفة علكة قديمة، وبعض كتل الغبار، وكباتيل محارم، ولا شيء أكثر.

من كان ذلك الشخص؟

فكلّ ما استخلصته نفيسة عن الجسد خلال حملتها الاستطلاعية تلك، هو أنّه لرجلٍ في منتصف الثلاثينات. فقد بدأ الجلد يتهدّل عند الحنك والذقن والذراعين، وبدأت التجاعيد تنحفر في الجبين وحول العينين، وبدأت السمنة تترسّب عند البطن والفخذين والرقبة.

            “طيب،” قالت أخيراً حاشيةً كومة الثياب في كيسٍ بلاستيكي. “سوف ندفئكَ، على الأقل.”

ولفّت الجسد العاري في لحافٍ سحبته بسرعةٍ من إحدى خزائن سوسن (لم تكن سوسن قد عادت إلى البيت بعد). وثبّتت اللحاف بحبل مصّيصٍ أخذته من أحد جرّارات المطبخ (كانت والدتها الحجّة ما تزال شاخرة في كرسيّها). وبدت الجثّة، بعد أن انتهت منها نفيسة، أشبه بأضلع الموز العملاقة التي تشتريها سوسن خضراء من الحِسبة، وتلفّها في لحاف لكي تستوي بدفء غازاتها.