الصوت العالي ما بموت: أغاني عبر الزمان والمكان

أوروك شرهان

عمل فني: سارة ساروفيم - الحق في الحنان

“هاي السنة سنة، مو مثل كل سنة”
— عزيز علي                                         

كان من الممكن أن تشير هذه الأغنية إلى سنة 2020 الغريبة التي نشهدها، إلا أن هذه الكلمات كُتبت منذ أكثر من ستين عامًا. سجّل المغني و المونولوجست العراقي عزيز علي اغنية “هاي السنة” في مطلع عام [1]١٩٥٨، على طريقة المونولوج وهو نوع من الموسيقى الساخرة، وبُثّت على راديو بغداد لشهورعدّة قبل انتفاضة الرابع عشر من يوليو. نقلت كلمات الأغنية مشاعر الأمل واليأس، متأملّة أن تكون “هاي السنة” مختلفة عن سابقاتها، وللأجيال القادمة أن تعيش من دون “فساد ولا افساد” وأن “نغني أحلى أغانينا”[2]. نجحت ثورة ١٤ يوليو التي قادها الجنرال عبد الكريم قاسم بإزاحة العرش الهاشمي عن حكم العراق، وتحويله إلى جمهورية، وأصبح عبد الكريم قاسم رئيسًا للوزراء. 

سجنت السلطات العراقية عبد العزيز علي تواليًا في فترة نشاطه الفني في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، على خلفية مونولوجاته اللاذعة، إذ كان صريحًا في نقده للمستعمرين البريطانيين ولأنصارهم من العرب.[3] أصبح عبد العزيز علي مشهورًا لأغانيه الساخرة التي تنتقد الوضع السياسي الفاسد، والقمع في المجتمع العراقي وفنونه وثقافته. [4]

في شهر فبراير من العام ١٩٦٣ قام حزب البعث العراقي بأولى الانقلابات العسكرية ، وتم اغتيال عبد الكريم قاسم. لم يستمر هذا الإنقلاب الأول إلا حوالي التسعة أشهر، إلا أن أحداثه كانت دامية وعنيفة، إذ قُتل على إثره الآلاف، ومن بينهم مئات المثقفين.  كان الحزب الشيوعي العراقي في تلك الفترة، من الأحزاب القليلة في المشهد السياسي العراقي، المهتمة بحرية الفنون والثقافة، لهذا، لم يفرّق البعثيون بين الشيوعيين والمثقفين، فقاموا بتصفيتهم على هذا الأساس.[5]

تمت الإطاحة بالإنقلاب البعثي الأول في نوفمبر من العام ١٩٦٣ وعم  الهدوء النسبي لسنوات قليلة سادت فيها استعادة الحريات السياسية والثقافية العراق، إلى أن استولى البعثيون على السلطة مرة أخرى، ولفترة طويلة هذه المرة، عبر انقلابهم الثاني في ١٧ يوليو من العام ١٩٦٨. أدّعى البعثيون، في محاولة لإصلاح سمعتهم السيئة التي عمت بعد انقلاب عام ١٩٦٣، استخدام نهجً “أكثر ليونة” في بداية حكمهم المتجدد، وذلك للحفاظ على واجهة ديمقراطية، أما على أرض الواقع، فقد استخدموا الرشاوى والابتزاز لبضعة أشهر، قبل أن يلجأوا إلى أساليب الخطف والتعذيب والإعدام المعتادة. [6]

لم تقلل ممارسات البعثيين التي جعلت خصومهم “يختفون” بأي وسيلة ممكنة، من ارتيابهم وخوفهم من الأفكار الشيوعية، التي ظلت بارزة في جميع أنحاء الجمهورية. منع البعثيون بالتالي، بث مونولوجات عزيز علي الاستفزازية مرة أخرى، كما وحظروا الأغاني والكتابات والأعمال الفنية السياسية التي تنتقد الحكومة علانية، وذهبوا أبعد من ذلك، في فرض الرقابة على الأغاني والقطع الموسيقية والفنية التي لا تحمل أي أهداف سياسية، ومن بين تلك الأغاني أغنية “يا ام الفستان الأحمر” الشهيرة للمغنية مائدة نزهت، التي صدرت في عام ١٩٦١، والتي كان عنوانها سببًا كافيًا لمنعها.[7]

طالعة من بيت أبوها،
رايحة لبيت الجيران
فات ما سلّم عليَّ
يمكن الحلو زعلان

-طالعة من بيت أبوها، ناظم الغزالي.[8]
بغداد ١٩٥٨.

سنة ١٩٧٤، والأغنية هي E Depois do Adeus (و بعد الوداع) لباولو دي كارفالو.[9] كانت مناسبة تلك الأغنية هي التقديم البرتغالي لمسابقة الأغاني الأوروبية السنوية ، والتي أقيمت في برايتون في السادس من أبريل. كتبت كلمات هذه الأغنية على لسان رجل مكسور القلب، يتساءل عن طبيعة الحب نفسه: “البحر لا يأتيني بصوتك، في صمت ، حبي، يرحل في الحزن أخيرًا “. كانت تلك النسخة من مسابقة الأغاني الأوروبية قد شهدت على انطلاقة المسيرة الحافلة لفرقة البوب ​​السويدية ABBA، إذ فازت أغنيتهم ​​Waterloo بالمركز الأول. حلّت البرتغال، وأغنية دي كارفالو في المركز الأخير، لكن تلك لم تكن النهاية، إذ وجدت الأغنية صداها في مكان آخر.

بعد ذلك بأسبوعين تقريبًا، تم بث أغنية كارفالو على الراديو البرتغالي كإشارة سرية، تؤذن ببدء انقلاب عسكري من شأنه الإطاحة بحكومة مارسيلو كايتانو اليمينية. تم التحريض على الانقلاب من قبل “حركة القوات المسلحة” (Movimento das Forças Armadas ؛ MFA)، وهي منظمة شكلها ضباط من ذوي الميول اليسارية في القوات المسلحة البرتغالية.[10] كانت أغنية “وبعد الوداع”، الإشارة التي أنذرت الضباط المتمردين وجنودهم لبدء الانقلاب. جاءت الإشارة الثانية بعد بضع ساعات عندما عزفت الإذاعة أغنية  Grândola Vila Morena لزيكا أفونسو[11]، الموسيقي الشعبي السياسي المؤثر، الذي مُنعت أغانيه من الراديو في ظل الديكتاتورية. كان دور الأغنية الثانية يكمن في  الإشارة إلى أن الأنقلاب يسير بنجاح.

نجحت الثورة التي أصبح تعرف لاحقًا بـ”ثورة القرنفل” بارساء الإنتقال الديمقراطي في البرتغال، وتحرير الأراضي التي كانت تقبع تحت استعمارها في أنغولا، وغينيا بيساو، والرأس الأخضر وساو تومي وبرينسيبي والموزمبيق، وكل ذلك في غضون عام واحد.[12] لعلها، المرة الأولى في التاريخ، التي تُشعل فيها أغنية عاطفية ثورة كبرى.

طالعة من بيت أبوها
رايحة عالإعتصام
طالعة بدها حرية
طالعة تسقط نظام

-طالعة من بيت أبوها، المسيرة النسوية [13]
بيروت، ٢٠١٩.

سنة ٢٠١٩، عصر نهار اثنين في بيروت، بعد أربعة أيام من ثورة ١٧ تشرين، وسبعة أيام من الثورة في سانتياغو، تشيلي، وأربعة أيام من بدأ التظاهرات في بغداد. كنت أمشي بين المئات، وربما الآلاف من المتظاهرين الشبان. كنا نمشي بخطى ثابتة من ساحة الشهداء إلى ساحة رياض الصلح، والكل يغني ويصرخ بأعلى الصوت. كانت الأغاني بأغلبها تبدأ من صوت واحد، يخرج من مكبر صوت محمول، وينتقل عبر مكبرات الصوت الكبيرة الموضوعة على ظهر سيارة متحركة تواكب السائرين. كان الكل يردد، إلى أن وصلنا إلى مركز الساحة، حيث توقفنا، ورأينا الجمع الذي امتد على امتداد البصر. صرخ الشخص الذي كان يحمل مكبر الصوت بجملة لا تزال تتردد في سمعي وفكري حتى يومنا هذا:

الصوت العالي ما بموت.

ردد الجمع تلك العبارة، ثم تمتم الشخص عبر المكبر القريب من  فمه “مش سامع!” ثم أعاد الجملة، بصوت أعلى هذه المرة: “الصوت العالي ما بموت!”، وها هو الحشد يصرخ فعلًا بصوت أعلى، مرددًا العبارة. أكمل الرجل الشعار، وهو راضٍ عن صوت الحشود العالي، ليقول “والثورة بوسط بيروت!”. رددنا كلّنا، بأصواتنا التي كانت تعلوا شيئًا فشيئًا، فيما كنت أنظر إلى هاتفي، مذهولة، ومليئة بالحماس، لأتأكد من أنني أسجلّ كل ذلك.

سنة ٢٠١١، شهر سبتمبر، في حديقة زوكوتي في نيويورك. يصرخ صوت واحد، ويكرر الحشد الذي يقف بالقرب من مصدر الصوت العبارة، ثم تتوالى الحشود المبتعدة على تكرارها.

هل الميكروفون يعمل!
(هل الميكروفون يعمل، هل الميكروفون يعمل)

صوتنا يعلو حين نكون معًا!
(صوتنا يعلو حين نكون معًا، صوتنا يعلو حين نكون معًا)

مهما كان ما نقوله!
(مهما كان ما نقوله، مهما كان ما نقوله)

لكي نسمع بعضنا!
(لكي نسمع بعضنا، لكي نسمع بعضنا)

ولكن أيضًا!
(ولكن أيضًا، ولكن أيضًا)

نستخدم ذلك كميكروفون بشري
(نستخدم ذلك كميكروفون بشري، نستخدم ذلك كميكروفون بشري)

لأن الشرطة لن تسمح لنا
(لأن الشرطة لن تسمح لنا، لأن الشرطة لن تسمح لنا)

بأن نستخدم أي آلات صوتية!
(بأن نستخدم أي آلات صوتية، بأن نستخدم أي آلات صوتية)

قدّمت حركة أوكيوباي مفهوم الميكروفون البشري، أو ما عرف بميكروفون الناس، كأداة لإعلاء صوت الخطيب في الإجتماعات العامة للحركة، إذ أن الشرطة منعت المتظاهرين من استخدام المعدات الصوتية كالميكروفونات ومكبرات الصوت.

أصبح الميكروفون البشري، أداةً يتعدى استخدامها غرض إيصال الصوت وإعلائه فحسب، إذ أن نجاحه تطلّب حضور الجماهير، ونقلهم لمضامين الخطاب، حتى ولو تعارض مع أفكارهم، ليصبح بذلك أداة توصل الصوت إلى المدى، وأداة تعزز أعلى درجات التعاطف، إذ تتردد الأفكار عبر الأجساد، وتتصّدى، وتُردد على ألسنة أناس قد يكونون بعيدين عنها. أصبح المتكلمون، يستمعون لتردد صوتهم في آلاف الأصوات.

سنة ٢٠٢٠، في هولندا حيث أقيم. أصدرت الهيئة الوطنية للصحة قرارًا يمنع الصراخ والغناء الجماعي: “يمكنكم إذًا، أن تهمسوا، في ظل شروط التباعد الإجتماعي في الحفلات ومباريات كرة القدم، إلا أنه يمنع عليكم الغناء بصوت عالٍ”.[14]

أفكر الآن، في ظل الإجراءات التي تُصمت الأغاني، وتمنع الإحتفالات، وتدفع بالجموع إلى الهمس، إن كان من جدوى لاجتماع الناس إذا لم يستطيعوا سماع بعضهم البعض. هل ستنجح  إجراءات “العزل الصوتي” هذه، بإخفاء الوجود الجماعي بالكامل؟

كان الميكروفون البشري ليُمنَع بالطبع في ظل هذه الإجراءات الصحية. لم يعد من المسموح لنا، أن نُعلي أصوات بعضنا البعض، لأن ذلك يتطلب صخبًا وحضورًا متقاربًا. أفكر في أن المايكروفون يُخفي هوية المتحدث، إذ يذوب الصوت الواحد في صوت الجمع، على عكس ما تسعى إليه الإجراءات الصحية، في تفريق الأصوات، وتفريدها، وإبقائها بعيدةً الواحدة عن الأخرى. 

استخدم الصمت الجماعي في مدننا الصاخبة قبلًا، كأداة للاحتجاج، في المسيرات الصامتة مثلًا، أو الإعتصامات التي أصبح فيها الصمت طريقًة للعصيان. عندما يكون الضجيج “سائدًا”، يصبح الصمت أداةً مهمّة، لكن، ما الذي يحدث عندما يكون الصمت هو السائد؟

ما هو صوت الجمع؟
جيفارا مات
جيفارا مات
آخر خبر ف الراديوهات
و ف الكنايس
والجوامع
و ف الحواري
والشوارع
و ع القهاوي وع البارات

جيفارا مات

سنة ١٩٦٧، جيفارا مات. كتب الشاعر المصري العامي أحمد فؤاد نجم قصيدة “جيفارا مات” وغناها الشيخ إمام. [15]  بقيت هذه الأغنية مثالًا شديد القوّة على إئتلاف الجنوب العالمي ولُحمته وتضامنه عبر الأغاني والخطابات. يستجذب سماع الأغنية وطأة خبر موت الثائر الأيقونة، وكأنه مات البارحة. تنجح الأغنية باستحضار هول الحدث والوقع الكارثي للخسارة.

لحّن الفنان العراقي جعفر حسن وغنى أغنية أخرى في الخسارات والفاجعة، وهي اغنية “سانتياغو”، بعد عدد من الاغتيالات على يد الفاشيين، والتي وقع ضحيتها المغني والاستاذ فيكتور جارا، والشاعر بابلو نيرودا، وغيرهم العديد من المثقفين والفنانين. نظم الشيوعيون العراقيون في وقتها العديد من الفعاليات الثقافية والسياسة تضامنًا مع رفقائهم في تشيلي. كان أسبوع بغداد التضامني مع تشيلي، الذي أقيم في أكتوبر من العام ١٩٧٣، في نقابة الفنانين في بغداد، أبرز هذه الفعاليات، وقد تضمن العديد من المعارض التشكيلية، والعروض المسرحية، والشعر، والموسيقى والغناء. [16]

المغني والمؤلف الكردي العراقي جعفر حسن كان عضوًا في الحزب الشيوعي العراقي من مطلع السبعينات، وهو أسس، مع أخته الهام حسن، وكوكب حمزة، فرقة الروّاد. أدى حسن في اسبوع بغداد التضامني هذا، أنشودة “سانتياغو، تشيلي تمر كالنجمة في سمائنا” كما وأدى نشيد “لا تسألني عن عنواني”:

لا تسألني عن عنواني
لي كل العالم عنوان
لا تسألني أبداً أبداً
أنا بيتي في كل مكان
لا لا لا لا لا تسألني
فأبي في موسكو فـلاح
وأخي فيها عامل ورشة
ورفيقي مات بشيكاغو
استاذًا ترك التدريس

تشير كلمات الأغنية أيضًا إلى الرفاق في فلسطين، وفيتنام، وباريس، وأنغولا، ولبنان، والهند الصينية وغيرها من الدول. اشتهر هذا النشيد السريع الإيقاع في الحفلات، فغنّاه الآلاف بحناجر صارخة، وحفظوه لدرجة أنهم صارو يعيدونه شبه كاملا مرّة ثانية بشكل جماعي، حال انتهاء ا جعفر حسن من غنائه. في المقابل، كان نشيد “سانتياغو” أكثر حزنًا، لكنه كان بنفس التأثير، مسلطًا الضوء على مأساة تشيلي.

أحدث اسبوع التضامن مع تشيلي ضجة كبيرة في بغداد، إذ كان أحد أول الفعاليات الثقافية الشيوعية العلنية في العراق منذ الهزائم التي لحقت بالشيوعيين في الستينات. ترددت أصداء الفعاليات في بغداد بدرجة كبيرة، مما دفع السلطات البعثية وأجهزتها الأمنية لفرض عدد من العقوبات على الفنانين المشاركين في المهرجان، لئلا تتكرر تداعياته العاطفية والأديولوجية مجددًا.[17]

كان جعفر حسن يعمل كأستاذ موسيقى في ذلك الوقت، وقد طرد من عمله إثر مشاركته في اسبوع التضامن مع تشيلي. عمل بعد ذلك كمحرر في مجلة الحزب الشيوعي “طريق الشعب” وتم سجنه مرارًا على يد القوات البعثية بين عامي ١٩٧٤ و١٩٧٨. كان جعفر حسن غالبًا ما يسجن مباشرة بعد حفلاته، أو عندما تنتشر أغانيه وتشيع بين الناس. دُفع حسن إلى المنفى عام ١٩٧٨، حين تفاقمت الأزمة السياسة في العراق، واستقر في جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية. أسس في جنوب اليمن فرقة “أشيد” للأغنية السياسية، وعاش هناك لأعوام، قبل أن يعود للعراق في أواسط الألفينات.

سنة ٢٠١٧، وها هو الصيف قد أطل بظلاله. كان صديقي سانتياغو قد أتى زائرًا من اسبانيا، فالتقينا في أمستردام لكي نشرب القهوة. حضرًنا سويًا عرضًا أدائيًا لفنان نعرفه، ثم شربنا كاسًا أو كأسين من النبيذ الأبيض وتحدثنا إلى ما لا نهاية. بعد أيام، كنت أتحدّث مع أمي، وذكرت اسم صديقي عرضيًا في الحديث، لأسمعها تبدأ مباشرة بالغناء:

سانتياغو دمٌ في الشوارع
سانتياغو دمٌ في المصانع
دمٌ في البيوت
وفوق صواري السفن
دمٌ في المحطات

شارك أهلي في اسبوع التضامن مع تشيلي، ولعلّهما قد أخبراني قبلًا، لكنها كانت المرة الأولى التي أنتبه فيها لذلك عبر أغنية. سألتهما عن تفاصيل الأسبوع، وعما يذكرانه، وأخذت أفكر، كعادتي، بما حصل لهذا التضامن الصوتي، الذي يتردد عبر المسافات.

لعلها كانت الصور، تبعدنا عن بعضنا كل ذلك الوقت.

هذه السنة، لم تنتهي بعد. لم تفرقنا الجائحة العالمية، بل وضعت بيننا وبين محيطنا حاجزًا جسديًا، لكنه حاجز قربنا من بعضنا البعض، لكي نتحد في اللحظة عبر الصوت، والموجات الإلكترومغناطيسية، والكلمة المكتوبة. الصور التي تأتي من مكان آخر، تأخذ شكلها هذا دائمًا، تظل غريبة، تذكرنا باختلافها، متحدية مفهومنا للحظة الآنية، والمكان الراهن. تفرض الصور نفسها، وتتنافس في ما بينها لتحظى بانتباهنا، أما الصوت، فيتغلغل بسهولة أكبر في حيواتنا، ويتجسّد، أينما كنا، وأيًا كان الذي نراه بأعيننا.

هل كانت الصور ما يفرقنا كل هذا الوقت؟ مبعدة المواقع عن بعضها؟ لعلنا نستطيع أن نعتمد على جهوزيتها الفورية، وقدرتها على إبلاغنا بالمعلومات، لكن حلف بغداد-سانتياغو في السبعينات، لم يتطلب هذا الكم المستمر من الصور، ولم يكن من أساسياته، أن يسافر الرفاق من بلد لبلد ليكونوا قرب بعضهم البعض. هل يعني ذلك أننا كنا نسير في دوائر، الواحد منا حول الآخر كل هذا الوقت؟

ولحين يجمعنا اللقاء مجددًا، فلنتدرب على أغنيات بعضنا، ولعلنا سنقدر أن نبتدع أغانٍ جديدة، في ذات الوقت، أو بفارق زمني، أو عبر الصدى، و الوشوشات والتمتمات والألحان التي تخرج عبر السمّاعات أو مكبرات الصوت، فلنحفظ أغاني بعضنا عن ظهر قلب، ولتتردد موسيقاها عبر أجسادنا، نُعلي صوتنا معًا، لأن أصواتنا ليست لنا وحدنا، بل هي أوعية لأصوات أخرى. عندما نتدرب، أو نغني، أو نحاول أن نقلد أغنية، يتحول صوتنا الفردي إلى صوت الجمع، وعندما نتحدث، نتحدث كجمع. نحن جمع منذ البداية، يُعلي واحدنا صوت الآخر، مهما كلّف الأمر.

الصوت العالي ما بموت.

تنويه

الصوت العالي ما بموت جزء من سلسلة قائمة من النصوص المكتوبة والمسموعة التي تتمحور حول الأغاني السياسية والأصوات.

الأعمال السابقة من السلسلة تتضمن Against Voices  ٢٠٢٠، التي نشر في عدد Contemporary Jornal المعنون Sonic Continuum. تتضمن السلسلة أيضًا، Lovesong Revolution ٢٠٢٠، الذي نشر كجزء من The City Talks Back: Assembly_01.

تم دعم هذا المشروع البحثي من قبل BAK basis voor actuele kunst in Utrecht حيث كانت شيرهان في إقامة بحثية في ٢٠١٩/٢٠٢٠. وعبر Theatrum Mundi و Onassis Stegi في أثينا.

تود الكاتبة أن تشكر ريم شديد وراديو الحارة لدعوتها لتطوير مقاطع أولية من البحث وبثّها (يمكنكم سماع الحلقة باللغة العربية هنا.) شكر خاص  لقاسم الساعدي  ونبال شمخي على مساهماتهم الغزيرة في المصادر النقدية، والقصص المخبأة والتواريخ الخفية.

ترجمة: حسين ناصر الدين


[1] Aziz Ali – “Hay Elsana Sana” (1958)  عزيز علي – هاي السنة سنة. www.youtube.com/watch?v=P4FYA_twYhE

[2] حسن العلوي. عزيز علي اللحن الساخر.  (بغداد، ١٩٦٧) ص، ١٤٢- ١٤٤

[3] هولس، كليف. “The Iraqi ‘monologist’: ‘Aziz ‘Ali (1911-1995)” في  Casini, L., La Spisa P. & Suriano, A.R. (eds.) The Languages of Arabic Literature: Un Omaggio A Lidia BettiniQuaderni di Studi Arabi, N.S. ٩ ص ٢٢٩ ٠٢٣٧.

[4] الحطاب، جواد. عزيز علي.. فنان عراقي نادى بـ”الربيع العربي” قبل 70 عاماً في العربية. ١٢ أبريل ٢٠١٣.
www.alarabiya.net/ar/culture-and-art/2013/04/12/عزيزعليفنانعراقينادىبـالربيعالعربيقبل-70-عاماً

[5]تريب، شارلز. تاريخ العراق. مطبعة جامعة كامبردج. (نيو يورك، ٢٠٠٠) ص. ١٧١.

[6] مكية كنان. Republic of Fear: The Politics of Modern Iraq مطبعة جامعة كاليفورنيا. (بيركلي، ١٩٨٩) ص ٥٨-٦٣.

[7] يا أم الفستان الأحمر – مائدة نزهت. ١٩٦١.  www.youtube.com/watch?v=6ptYCMrs2Js

[8] طالعة من بيت أبوها – ناظم الغزالي ١٩٥٩.   www.youtube.com/watch?v=hVBzhvov0w0.

[9] باولو دي كارفالو – E Depois do Adeus  ١٩٧٤. www.youtube.com/watch?v=LEoqusKeqxk

[10] Portugal: The Carnation Revolution”, This Week, Thames Television Productions, ١٩٧٤.
www.youtube.com/watch?v=36K79SUiRFI

[11] زيكا أفونسو  – Grândola Vila Morena ١٩٧١. www.youtube.com/watch?v=Tx9BZowHxB8

[12] البرتغال أولى القوى الأوروبية استعمارًا لأفريقيا، وذلك عندما استعمر كويتا في ١٤١٥، والآن هي إحدى آخر الدول التي انهت استعمارها. انظر أيضًا:

www.newworldencyclopedia.org/entry/Portuguese_Colonial_War

[13] طالعة من بيت أبوها – مسيرة نسويه، بيروت. أكتوبر ٢٠١٩. www.facebook.com/watch/?v=2367951440187448

[14]  بيكمان باس. “Voetbalfan mag bij goal ‘hoera’ fluisteren” in De Volkskrant, ٢٥ يونيو ٢٠٢٠
www.volkskrant.nl/sport/voetbalfan-mag-bij-goal-hoera-fluisteren-dat-kun-je-niet-verwachten-van-supporters~b2f95e0d/

[15]الشيخ إمام – جيفارا مات ١٩٦٧، قصيدة لأحمد فؤاد نجم. https://www.youtube.com/watch?v=ekPYgAi36C8

[16]“غيتار جعفر حسن” .علي عبد الأمير  في إيلاف ٢ سبتمبر ٢٠٠٦. www.aliabdulameer.com/inp/view.asp?ID=256

[17] المصدر نفسه.