على أرصفة بيروت

مجد الشهابي

العمل الفني: ألين ديشامب, "التحديق في شاطئ الرملة البيضاء للمرة الأولى" مقتطف من سلسلة "أنا لست حيوانك" تصوير فوتوغرافي. 2021

ترجمة: حسين ناصر الدين

أحدّق به ويحدّق بي، أبتسم ثم أعبر بجانبه. أمشي خطواتٍ قليلةً قبل أن أستدير لأرى إن كانت نظراته لا تزال مثبّتةً عليّ. عندها يشير إليّ ولصديقي بالسرّ أن نقترب نحوه، فيما تعلو وجهه ابتسامة عريضة يعلوها شارب مشذّب بعناية – ذاك الشارب الذي كان شائعاً لدى الرجال في سوريا في أواخر التسعينيات، والذي لا يزال يزيّن وجوه بعض الرجال في سوريا والعراق حتى اليوم. كنّا أنا وصديقي نسير على الكورنيش غربا، كانت الساعة الثامنة إلّا ربع، وكنّا لا نزال بالقرب من مسجد عين المريسة. كان علينا أن نسرع في مشينا لكي نلحق موعد العشاء الذي دعينا إليه في المنارة عند الساعة الثامنة، كان علينا أن نسرع الخطى، ولم تكن دعوة ذاك الرجل الوسيم لنا جزءاً من خطّتنا لتلك الليلة.

أكملنا مشينا على الرصيف الواسع، ومررنا قرب العائلات التي تأركل تحت يافطةٍ لبلديّة بيروت كتب عليها “ممنوع الأراكيل”، ثمّ مرّت من قربنا عداءةٌ بلباسٍ وعتادٍ كاملٍ من ماركة lululemon. كانت أسرع منّا، نحن الذين نمشي مسرعين. ننظر إلى الصيّادين الواقفين في أماكنهم المعتادة، قرب ميناء الصيد القديم، متسائلَيْن عمّا (أو عمّن) سيصطادون الليلة. نخفّف من سرعة مشينا قرب الصبية الذين يترامون على رؤوسهم (أو بطونهم) من سياج الكورنيش إلى البحر. كم يبلغ ارتفاع هذه القفزة؟ عشرون متراً ربّما؟ تسألني الصبيّة الجالسة على الأرض ورضيعها في حضنها إن كنت أريد أن أشتري العلكة منها، كما كلّ مرة، لأجيبها “غير مرّة”.

كما أنا، صديقي فلسطينيّ الأصل، لكنّه عاش مثلي أغلب حياته في الخارج، أردت أن أشرح له كيف “يزبّط” الشبان بعضهم البعض على هذا الرصيف الواسع في المدينة، مغتنماً أصوات الموج الهائج، وزحمة السيارات التي حجبت أصواتنا وأعطت حديثنا القليل من الخصوصية.

نقطع أنفاسنا حين نمرّ قرب المجرور الذي يرمي أحماله في الماء مباشرةً، محاولين أن نقنع أنفسنا بأنّ المياه الخارجة منه ليست سوى مياه العاصفة، لكنّ الرائحة لا تترك لنا مجالاً لكيّ نصدّق ما نقول. كنّا في أواخر الشتاء، ولم يكن شاطئ الجامعة الأمريكيّة قد فتح أبوابه رسميّاَ ككلّ عام، لكنّنا عمدنا حين مررنا قربه أن نمعن النظر بالرجال الذين احتلوا الشاطئ، وهم يمارسون رياضاتهم المختلفة على أرضه الاسمنتيّة. رأينا شاباً يختبأ خلف باقةٍ ضخمةٍ من البلاوين الملوّنة التي تشع منها أضواء الـ LED. كان يبيعها للأطفال والعشّاق الذين يخرجون في موعدهم الأول، وكان يشبه شخصيات أفلام ميازاكي. بعدها رأينا شابّاً وشابةً من البشرة السوداء، يميلان على سياج الكورنيش، تارةً ينظران إلى البحر، وتارةً أخرى ينظران إلى بعضهما، ربّما لتجنّب نظرات المارّة الثقيلة. كان الإسمنت تحت أرجلنا يتزينّ بعلامات تحدّد الطريق للدراجات الهوائيّة، لكنّها إشارات لا تعني الكثير للمارّة أو حتّى للدرّاجين على الكورنيش، لكنّني رغم ذلك، استغربت بأنّ الحوادث والتصادمات بين المارّة والدرّاجين لم تحدث قط، لحد الآن.

نمسح بنظرنا الناس على الكورنيش، أفكّر: إن أمسكت يد صديقي، هل سيرانا الناس كسوريين؟ أم أنّهم سيرونا أولًا كهومويات؟ هل كنّا نريد أن نضع أنفسنا في خطرٍ كهذا؟ عمليّا، أنا سوري، لكنّني لا أظن أنّ المارّة على الكورنيش سيفطنون إلى ذلك مباشرة.

صارت الساعة الثامنة، في العادة كنت لأمشي مع صديقي مسافة الـ ٤،٨ كيلومتر من الرصيف، وكنّا لنستقبل اللقاءات التي يتيحها الكورنيش بصدرٍ رحب، لكنّنا فضّلنا أن نصعد في الباص رقم ١٥، والذي سيسرّع من وصولنا إلى المنارة. دفعنا ألف ليرة ثمن تذكرة الباص في تلك الفترة التي تبدو الآن مختلفةً بعيدة، الفترة قبل الانهيار المالي في ٢٠١٩.

***

سرعان ما أتى السابع عشر من تشرين الأوّل، واحتشد الناس في ساحات الاحتجاج وأعادوها إلى كنفهم. فجأة، لم يعد الكورنيش المساحة العامّة الوحيدة في المدينة. عاد الوسط التجاريّ لبيروت ليُسمى باسمه الأصلي، وسط البلد، وتحوّل من شوارع متصلّة إلى شبكةٍ واسعةٍ من الأرصفة. حتّى الرينغ، ذاك الأوتوستراد المكتظ، صار رصيفاً (أو غرفة جلوس، عندما افترشه المحتجّون ووضعوا فيه أثاثاً يليق بصالون حقيقي). صارت حياة الكورنيش تجري هنا أيضاً: الباعة، والاستجمام، وحتّى الرياضة والركض، ذهاباً وإياباً نحو خطوط الشرطة وقنابل الغاز المسيّل للدموع.

“التزبيط” صار يحدث هنا أيضاً، وبشدّة، لأنّنا كنّا متواجدين بكثرةٍ في الخطوط الأماميّة. رُشّ على علبة تحويل الهاتف العام تحت جسر الرينغ، مقابل الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، عبارة “ثورة قوم لوط”. لم أكن واثقًا إن كان الفنان (أم هل هي فنّانة؟) الذي رش تلك العبارة (لأن من رشّ تلك العبارة لا بد أن يكون فنانًا بالغريزة) يعلن عن جنسانيته، أم إذا كانت عبارةً تسخر من المحتجين، أم الاثنين معاً؟

في كتابه المعنون “زعزعة المدينة” (Unsettling the City)، يستقرئ نيكولاس بلوملي مثل هذه المداخلات العامة وكأنّها نوعٌ من الصلاة والترجّي، فهل كان ذلك حال تلك العبارة؟ هل هي أمنيةٌ بأن تحلّ الاحتجاجات الهائجة محل موكب فخر بيروت الذي فشل مراراً وتكراراً؟ أهي أمنيةٌ لإعادة تشكيل التوازنات الهشّة للعلاقات الاجتماعية التي شكّلت المدينة حتّى يومنا هذا؟

“من الصيفي: ثورة قوم لوط” صورة من حساب Sanaakhouri (Twitter)@

يقع هذا الرجاء، في واحدةٍ من أكثر المناطق ازدحاماً في المدينة، تحت جسر الرينغ المحاط بالأوتوسترادات وفانات رقم ٤ المسرعة، وهي منطقة تكره المشاة بشدّة. طوال أيّام حوّل المحتجون وسط المدينة إلى مكان مخصّصٍ للمشاة، بدلاً من السيارات، مبطئين حركة الناس والأشياء في نسيج المدينة، ومُجبرين الجميع على التمهل، والنظر، وتأمّل ما يحصل في الشارع. حوّل هذا الرجاء منطقة أسفل الجسر إلى مكانٍ للإشتباك البطيء، داعياً إيّانا لرؤيته، وهو يرانا بدوره، و​بطريقةٍ ما يتحوّل إلى إعادة تصوّرٍ للمواطنة الحضريّة، إذ ابتعدت عن مقاصدها الأصلية، لتحلّ محلّها مساحة من الاحتمال.

***

تعتبر الأرصفة مساحات فريدة في المدينة، لأنّها فاصل تمشي بسرعة الأنسان، وتقف بين المباني الثابتة (مع العلم بأنّ المباني في بيروت سُرعان ما تُهدم وتتغيّر)، وبين سرعة سيّارات الشارع (مع أنّ السيّارات قد تتحرّك أبطأ من المشاة في زحمة شوارع بيروت). دُفع بالمشاة، الذين احتلوا -من فترة ليست ببعيدة- الشوارع بأكملها إلى الهوامش، لذا تكون الهوامش المتبقّية ثمينةً جدا، إذ تُمكّننا، نحن البشر -المكوّنين من لحمٍ ودم، والسّائرين بسرعة أقل من متر في الثانية، بأدمغتنا التي تحلّل المعلومات بشكلٍ أبطأ حتّى- من الالتقاء.

على الطرف الآخر من طيف استخدامات الرصيف، تقع مدينةٌ أخرى من مدن البحر الأبيض المتوسط، مدينة على علاقةٍ ملتبسةٍ بالمياه التي أوجدتها، ألا وهي البندقيّة. لا يوجد في البندقيّة سوى أرصفةٌ للمشاة، عندما تمشي على قدميك للتنقل في أنحاء المدينة، تراها تكشف عن نفسها بحميميّةٍ وبألفةٍ فوريّة. يجرّك الرصيف إلى نسيج المدينة، ويحتضنك وأنت تتنقل فيها، فتصبح اللقاءات البشريّة الحال السائد في المدينة، إلى حدٍّ مزعجٍ أحياناً.

لكنّ أرصفة بيروت – حيثما وُجدت- تشتهر بأنّها غير صالحةٍ للاستعمال، لذا لا نستغرب عند رؤية الآباء والأمهات إذ يختارون دفع عربة أطفالهم في الشارع بدلاً من الرصيف، وعندما نرى الناس وهم يساعدون بعضهم البعض، لتسلّق حواجز الأرصفة المرتفعة بشكلٍ هزلي. لكنّني أتساءل أحياناً ما إذا كانت المدينة تتعمّد عرقلة مواطنيها في وظائفهم الأساسية – مثل المشي من مكانٍ إلى آخر- وبأن تحوّل نفسها إلى مساحة لصراعٍ مستمر. هل تريدنا هذه المدينة أن نعاني لكي نثور؟ هل تزدحم الأرصفة بالعقبات كدعوةٍ للتكافل؟ أم أنّها عقوبة مدفوعةٌ بنفس المنطق الذي تحرم المدينة من خلاله العديد من سكّانها الضعفاء – الفلسطينيين واللاجئين والمهاجرين – وكأنّها تجبرهم على حياة بائسة بالقوة؟

وإذا كانت الأرصفة بنى تحتيّة للرعاية، فهل يعني غيابها، تعمّد الإهمال؟

***

تتّصل ساحة الثورة بالكورنيش بعدّة أرصفة تمّت صيانتها بشكلٍ عشوائي.

أخذ طريق الرينغ عائدًا، متّجهًا نحو الغرب، ثم أمشي على الرصيف الذي يحاذي الأوتوستراد من جهة، والمنطقة العسكريّة الشديدة الحراسة من جهة أخرى. أتذكّر هنا، أن تلك المجموعات المشكّلة من مواقف السيارات، والمباني المرمّمة بشكلٍ غريب، والمنازل الفخمة، كانت فيما مضى حيّ اليهود في بيروت. أمشي -كما لم يتجرأ الكثيرون- بمحاذاة مسار فان رقم ٤، وأحسّ بالفجوة التي تركها غياب أولئك الذين عاشوا هنا منذ زمنٍ ليس بعيد جدّاً، أفكّر في اللقاءات التي كانت لتحدث على هذا الرصيف، والتي لن تحدث .

ثمّة غيابٌ ناتجٌ عن إخلاء/طرد اليهود من بيروت، غيابٌ مزّق النسيج العمراني، وحوّل حيّهم إلى مواقف للسيارات، لن نعرف أبداً ماهيّة اللقاءات التي لن نعيشها في هذا الشارع.

***

تمنحنا الأرصفة فرصةً للّقاء، سواءً كانت هذه اللقاءات ثورية أو جنسيّة بالسر (وهي أيضاً فعلٌ ثوريٌ بطريقة ما)، وهكذا، تصبح الأرصفة بنى تحتيّة للرعاية، وفي عالم تسرّع فيه السيارات تباعدنا، حيث يجلس الناس معزولين في علب موتهم الميكانيكيّة المكيّفة والمبنيّة من زجاجٍ ومعدن فوق أربعة دواليب، نحتفظ، نحن المشاة، بالأرصفة بين الأبنية حيث نمشي دون خوف (نسبيّاً). يخبرنا الرصيف بأنّنا لسنا وحدنا، نظريّاً على الأقل، وبأنّ المساحة الهامشيّة بين المباني الثابتة والطريق السريع هي لنا، لكي نتحرك على سجيّتنا، ولكي نلتقي، بالأجساد والعيون، ولكي نمسك بأيدي بعضنا البعض. وأحيانًا، لكي تعاود النظر لتتأكّد من أنّ الرجل صاحب الشارب المشذّب ما زال ينظر نحوك باهتمام.