بداية، لا بدّ من الاعتراف بما يأتي: لقد وَلَّدَتْ آليّةُ كتابةِ السطور هذه، كما أغلب آليّات الكتابة، عاصفة قلق صغيرة خاصّة بها. أقلّه لأنّه، كما يبرز من تحليلي لموضوع القلق، لا أستطيع إلّا أن أتساءل عن جدوى الكتابة عن القلق التاريخي الثقافي في لحظة يبدو فيها الحاضر نفسه غارقًا في القلق.
أنا أكاديميّة أدبيّة. أقرأ، وأَمحَص ما أقرأه، ومن ثمّ أكتب عمّا قرأت. حاليًّا، أكتب مؤلّفًا عن… القلق. بشكل خاص، أكتب عن قلق ثقافيّ محدّد مرتبط بالهجرة التي ساكنت الثقافةَ الوطنيّة اللبنانيّة وتغلغلت فيها – بغضّ النظر عن الحالة والمعنى – منذ بداية القرن التاسع عشر. يبرز القلق هذا في كلّ مكان، ساكنًا الروايات والأشعار والنصوص، يشبّعها بالزخرفات والكلام المنمّق حول أمّهاتٍ يندبن أبناءً غائبين، وأبناءٍ ينتحبون في المهجر، وقرى مفجوعة لغياب شبابها (أليس الأمر مألوفًا لدرجة تثير الرعب؟). قبل بضع سنوات، في معرض التحقّق من فرضيّتي التي تقول إنّ الهجرة متغلغلة في النصوص الثقافيّة اللبنانيّة، قرّرتُ أن أستكشف أرشيف المجلّة الكاريكاتوريّة الساخرة الدبّور، التي أسّسها يوسف مكرزل سنة 1922 والتي لا تزال قائمة حتّى يومنا هذا على الموقع الإلكتروني addabbour.net. كنت مهتمّة بأنواع الصور التي استخدمها رجال عشرينيّات القرن الماضي، وهو العقد الذي انطلقت فيه المجلّة، من أجل وصف الهجرة من لبنان وتجسيدها. لم تتناسبِ الصورُ التي أتناولها هنا تمامًا مع ما كنت أبحث عنه حينها، ولكنّني وثّقتها واحتفظت بها لكونها أثارت اهتمامي.
قرأت مرّةً، أنّ من مؤشّرات القلق غياب القدرة على تخيّل المستقبل؛ وبتأمّلي في هذه الرسوم الكاريكاتوريّة القديمة، أطرح على نفسي المسألة الآتية: هل أنا قلقة، نظرًا لاهتمامي بدوّامات تتناول الحاضر على أنّه ليس سوى التكرار اللامتناهي للماضي، ومعاودة أزليّة للشيء عينه؟ أم أنّ القلق هو قلق هذه النصوص ومبدعيها؟ بالطبع، قد يكون الجواب في الطرحين – ومن المرجّح أن يكون الأمر كذلك – غير أنّ أحدنا فقط على قيد الحياة ومستعدّ للاعتراف بهذا القلق.
يُطلعني القاموس على أنّ اختبار القلق بالعربيّة يعني الاضطراب والانزعاج وعدم القدرة على الاستقرار في مكان واحد. أتعمّق بالهجرة وبالاضطراب الذي تتركه حرفيًّا بعد حصولها، أي مع انتقال الأشخاص من مكان إلى آخر. أفكّر في وضعي الخاص، أنا المعلّقة كما كثيرين من قبلي (ولكنّي أحظى بتكنولوجيا أكثر تطوّرًا) بين لبنان ومشاكله المتزايدة التي تحوم في الأفق، وبين الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث لم أعتبرها منفىً دائمًا أصلًا. ما هي ملامح مستقبلي، مستقبلنا؟ هل سأكمل العمل على هذا المشروع الذي يستنبط خلاصات مبكرة لظواهر اجتماعيّة ما زلنا نختبرها اليوم؟ وفي حين تُحبَكُ خبراتي المهنيّة والحياتيّة وتتلاصق أكثر من أيّ وقت مضى، أنجذب إلى مستقبل مُتَخَيًّلٍ سابقًا وأنفر منه في آن: مستقبَل رَسَمَهُ بصعوبةٍ القيّمون على المجلّة الساخرة الدبّور. لربّما لم يكن خوفهم ناتجًا عن غياب القدرة على تخيّل المستقبل، بل عن غياب القدرة على تخيّل مستقبل سخيّ وإيجابي؛ وهذا لا يعود الى نقص في المخيّلة، بل سببه نقص في الثقة بما سيحصل. في كآبة الإدراك هذا أعي قلقي أنا، حتّى ولو أنّني أنفر من تبعات هذا الإدراك وأرفضه. لربّما كان هذا الأمر كلّ ما علينا التعامل معه في ظلّ الأوضاع القائمة، أعني المعرفة والرغبة في عدم إعادة إنتاج ردّات فعل أسلافنا المريعة، حتّى ولو كُتب لنا بشكل من الأشكال خوض تجارب تاريخيّة مماثلة.
كما هو معلوم عند الأشخاص الذين يعانون القلق بشكل دوري، يُنتِجُ القلقُ قواعدَ خاصّة به. فهو مليء بالبدايات البلاغيّة ويفتقر إلى استراحات؛ يطرح أسئلةً لا أجوبة عنها، واضعًا المجهول في المستقبل اللامعلوم. هو يفتقر إلى علامات الترقيم، ويستبدل علامات الاستفهام بالاختزال، وجمل لم تلقَ أيّ جواب، ولا يمكن الإجابة عنها، معلّقة في الزمان وعلى مساحة الصفحة من دون خواتيم. لا خواتيم مع القلق.
سنة 1927، كما في أيّامنا هذه، وكما في مراحل متعدّدة منذ ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام اللبنانيّة السائدة منشغلة بمسألة الهويّة اللبنانيّة: ماذا كانت تعني هذه الهوية؟ أكان الأمر مهمًّا أصلًا، في ظلّ واقع اقتصادي وسياسيّ متزعزع وفي دولة لم ترقَ بعدُ إلى مرتبة الوطن بُعيد الحرب؟ من أمكَنَ ووَجَبَ إدماجه، ومن وجب إقصاؤه؟ في ما يأتي غلاف للدبّور:
تستوقفني أشياء عديدة أجدها مثيرة للفضول وللغضب في آن في هذا الرسم والنصّ المرافق. هو حوار بين مندوب المفوّضيّة العليا الفرنسي لدى الجمهوريّة اللبنانيّة الموسيو سُلومياك والشيخ يوسف (على الأرجح يوسف اسطفان) . يُظهرهما رسم الكاريكاتور وهما واقفان أمام باب غرفة تحمل تسمية الوطن. لكن يبدو وكأنّ هذه التسمية تلائم تطلّعات سُلومياك، والشيخ يوسف، وتطلّعاتنا نحن الموجودين داخل الغرفة، لا المسافرين الذين يحملون صُرَرًا على أكتافهم محاولين الدخول. لمَ يقوم المرء بوضع تسمية كهذه داخل منزله/وطنه المجازي، لا خارجه؟ ألا يعلم أين يسكن؟ تستحضر هذه الأسئلةُ المُربِكة أسئلةً إضافيّة. يتّسم الحوار بين الرجلين بالحدّة فيما يُحاول الشيخ يوسف فتح “باب الجنسيّة”. يترجّى المسيو سُلومياك بلباسه الغربيّ إغلاق الباب على مسألة الجنسيّة. أمّا يوسف، وقد رسمه رسّام الكاريكاتور “طبّارة” بتأنّ، فينظر إلى سُلومياك بسخط طارحًا أحقّيّة المهاجرين “بلبنان من آل يان”.
تُشعرني العنصريّة العاديّة للنكتة ضد اللاجئين الأرمن بالخجل في كلّ مرّة أقرأها. عند قراءتي لها للمرّة الأولى وبكل صراحة، لم أكن أعرف حتّى إنّ إعطاء الجنسيّة للاجئين الأرمن قد شكّل مسألة شائكة (شأني شأن أطفال اليوم الذين قد لا يعرفون أنّه قبل عقود من الزمن، أي قبل أن يشكّل السوري البُعبُع المهاجر الأمثل للطبقة السياسيّة المقيتة في لبنان، احتلّ الفلسطينيّون هذا الموقع المأسوي لعقود، وما زالوا محرومين من حقوقهم المدنيّة في مخيّمات لبنان). يدفع الرسم الكاريكاتوري والحوار بالتماهي مع الشيخ يوسف، خاصّة بسبب اسمه وطربوشه الرائجَين. هو، كما حسابات السياسيّين المعاصرين على شبكة تويتر، يحمل صوت السلطة الأخلاقيّة في وجه العميل الأجنبي الذي سمح لهؤلاء الأرمن الوضيعين بالدخول، وترك المواطنين المستحقّين للجنسيّة خارجًا. يصدّ جسدا الرجلَين بعضهما بعضًا باحتراس، وقلق، وينبثق عن الأسئلة البلاغيّة – رغم افتقادها لعلامات الاستفهام – للحوار العنصري البغيض القلقَ عينه، أسئلة أُلقيت في صدع بقيت فيه لتسعين سنة. هل من أسلوب بلاغي مثير للقلق أكثر من سؤال لا يأتي جوابه أبدًا؟
تلوّن تعابير البلاغة “روح الفكاهة” في الدبّور، ويكمن الاستفزاز في السؤال الذي لا ينتظر أي جواب، واللغة البلاغيّة هنا هي أنّه بالطبع سيعرف الجمهور المعني بالنكتة كيفيّة الإجابة بالشكل المناسب، بطريقة متناغمة. إنّه أسلوب جبان يَرْشح على الصفحة، كما في الرسم الذي يُظهر امرأة أوروبيّة تسأل أخرى لبنانيّة عن تطلّعاتها لأطفالها (مرّة جديدة، المستقبل يومئ لنا!).
يوحي العنوان، “مطامع الأمّهات”، بغايات هذا الرمز المحلّي الطامح المرتبط بالخصوبة. لا يوفّر طمعُها أولادَها، فتأمل أن يصبح أحدهم محاميًا، والثاني مهندسًا، والثالث طبيبًا، والرابع صحافيًّا… عندما تسأل المرأة الأوروبّيّة (بشكل ضمني غير المثقلة بهذا العدد من الأولاد؟) منتقدةً، أي من أولادها سيصبح مزارعًا، تردّ الأم: “والأرمن شو عم يعملوا عنّا…”. يحلّ الاختزال البلاغي مكان علامة استفهام، ولكن، كما حال سؤال الشيخ آنفًا، يظهر الهدف بوضوح: الأرمن، دخلاء يجب أن يكونوا ممنونين لقدرتهم على القيام بوظائف وضيعة لصالح أولاد المدام.
تمامًا كما عدد كبير من الأشخاص المتعصّبين والمُغالين في الوطنيّة ومن منشوراتهم، لم يتوقّف الدبّور أبدًا عن التهجّم على الضعيف أو المختلف. تخصّ المجلّة المرأة العصريّة بحنق وغيظ حادّ. في رسم كاريكاتوريّ آخر يخبرنا عن “مشكل هذه الأيّام”، نفهم أنّه لو لم يكشف الكلب غطاء المائدة، لم نكن لنعرف الفرفور من الفرفورة. تظهر “امرأة مسترجلة” أخرى وهي ترضّع في ثياب رجّاليّة، محاطة بعصا وقفّازين قبل – أيُعقل هذا؟ – أن تتوجّه إلى العمل صباحًا. ما من ضرورة للتعبير عن الحنق وعدم الفهم – فالصورة أبلغ من ألف كلام. تكفي الصورة والعنوان من أجل فهم السخط في وجه الأزمان والأنماط المتغيّرة (على الرغم من أنّ بعض الأشياء، طبعًا، لم تتغيّر وعلى سبيل المثال لا الحصر: هذه المرأة وبناتها ما زلن مواطنات من الدرجة الثانية في نظر الدولة الذكوريّة حتّى يومنا هذا).
أستذكر الرسوم الكاريكاتوريّة هذه عندما أفكّر بالقلق الثقافي، لأنّها مثال على الطريقة التي يُنتج فيها هذا النمط من الفكاهة مجتمعات مزيّفة ومغرورة وهشّة من خلال حرف النظر وتوجيهه نحو أجساد المستضعفين. تقول لنا هذه الصور شيئًا عن كيفيّة تعامل مجموعة محافظة من الرجال مع مشاعرهم المتعلّقة بتفلّت عالمهم من بين أيديهم من خلال التهكّم على الفقير، والمهمّش، والمستضعف: اللاجئ، والمرأة، والمرأة اللاجئة. لسوء الحظّ، ما زال أمثالهم موجودًا اليوم بيننا، متسلّحين بمنصّات وسائل التواصل الاجتماعي، وبالنفاذ إلى محطّات التلفزة، وبمتابعين يصغون إليهم ويشجّعون خطابهم المقيت.
إليكم رسم غلاف يتناول الأزمة الاقتصاديّة، صدر هذا أيضًا في أواخر عشرينيّات القرن الماضي. بسبب احتوائه على رسم للمرفأ، ونظرًا لكون الأغلبيّة الساحقة ممّن أعرفهم قد غادرت أو تفكّر في المغادرة، في حال كان لديها القدرة على ذلك، يتبادر لنا اختزالان اثنان. لربّما كان هذا الرسمُ النموذجَ الوحيد الذي استحقّ أن أحتفظ به من الحقبة تلك من بين الرسوم التي لا تعتمد أسلوب التهكّم المعهود؛ ولكنّه لا يخلو من القلق، إذ بالكاد يستطيع احتواء قلقه البلاغي. ففي حين يتوجّه رجال منحنون يعتمرون الطربوش نحو سفينة تنتظر نقلهم بعيدًا، يعمل رجال منحنون آخرون على حمل براميل وقود على ظهورهم بُعيد تفريغ مركب. يحمل الغلاف عنوان “الأزمة الاقتصاديّة…”، هنا أيضًا من دون أيّ إشارة إلى احتواء بلاغي في الاختزال الذي يُنهي الجملة. أمّا التعليق المضحك المبكي، فيحمل أيضًا اختزالًا وقلقًا وطابعًا لانهائيًّا: “نصدّر رجالًا ونستورد سيّارات والجمرك يقبض الكانيوت…”
…ومن ثمّ أفكّر في حال الأمور في ما لو كانت الاختزالات نقاط تعجّب، فينحرف الشعور بالقلق والعجز وعدم المعرفة نحو غضب مشروعٍ رقّم اللحظة ورفض الانزلاق بنعومة نحو مستقبل يُستجوَب بقلق من دون أن يُساءل حقًّا. أفكّر في شعارات المقاومة والثورة التي صدحنا بها وأطلقناها بأعلى صوت خلال سنة 2019 وقبلها وكيف أنّها انتهت جميعها بالشعور بالارتقاء والإلحاح. ولربّما – لربّما – كلّ ما يمكننا أن نقوم به الآن هو العمل على سبل من أجل تغيير نقاط الاستفهام والاختزالات لقلقنا المعاصر إلى علامات التعجّب تعبيرًا عن سخطٍ ورفضٍ مشروعَين.