هناك أسماءٌ لا يمكن نطقها، وبالرغم من ذلك لا يمكن أن يحدث تبادل من دونها. كلماتٌ مُخيفةٌ تدور في اقتصاد كاملٍ من الأصوات التي تُسكِتُ نفسها بنفسها. هناك طريقةٌ واحدةٌ لإبطال سحر هذه الكلمات، ألا وهي الصراخ بها وليس نطقها. الصراخ إلى حدّ تمزّق الحناجر. عندها فقط يمكن للآذان أن تنتبه إلى الهمهمات المحيطة بها، والتي لم تكن تسمعها من قبل. إنّها همهمات من ماتوا وهم يقاتلون كلمات السلطة المخيفة. همهماتٌ لا تزال تنبعث من الشروخ التي أحدثها موتهم بين حروفها. ب ش ا ر. ب ش ي ر. كلّ فجوة حياةٌ كاملة أصبحت ممكنة مرّةً أخرى. عالمٌ مشحوذ الحواسّ، يمتدّ من بلاد الموتى إلى بلاد الأحياء، ومن بلاد الأحياء إلى بلاد الموتى.
حرف علّة
أسيرُ بحذاء قناة لاندفير وأنا أردّد جملَتك في الظلام: “when a specific distortion in the vowels is achieved we can hear heaven”. أسيرُ كما سرتَ أنت بحذاء القناة نفسها، وأنت تردّد بصوتك جمل من ماتوا. رامبو، ماركس، انجبورج باخمان، هيجل، بازوليني، شيلي، وليام بليك، أنيتا بيرجر، هوجو بَل، ديانا دي بريما، ارنست بلوخ، إيما جولدمان. تُعيرهم صوتك، أو تستعيره منهم. تظلّ تردّد جملهم حتى يتكسّر صوتك، فتحمل كلّ شظيّةٍ إلى طرفٍ من أطراف المدينة، وتخفيها هناك، كلعنةٍ أو تعويذة. كحرف علّةٍ قد يمكنه أن يُعيد الحياة إلى المدينة الميتة.
“تشكيل الحواسّ الخمس هو عمل تاريخ العالم بأكمله وصولاً إلى اللحظة الحاضرة”. هل كانت هذه هي جملة ماركس التي كنتَ تفكّر فيها، عندما فقدتَ صوتك في شارع سيباستيان ذات يوم وأنت تردّد سطراً قرأته عند الشاعرة موريل روكايزر؟ يقول هذا السطر: “الهزيمة تعيش بيننا، والحرب، والنبوءة”. ظللتَ تصرخ بذلك السطر متجاوزاً كلّ صوتك، وكلّ جسدك، وكلّ حدودك. لكنّك لم تكن تصرخ كنبيٍّ يحمل نبوءة، وإنّما كنت تصرخ وأنت تفكّر فيما يحدث عندما تتزعزع الحواس الخمس. إذا كان تشكيل الحواسّ هو عمل التاريخ، كما قال ماركس، فإن هذا العمل الجماعي للماضي لا يمكن أن يظهر للعيان سوى في اللحظة التي تُشحذ الحواسّ الفرديّة فيها إلى أقصاها، كما فعلت أنت. ففي هذه اللحظة ينحرف الماضي عن مساره، ويدخل مجال الحاضر فجأة، مصطدماً به في النقطة المناسبة لانبعاث شرارة المستقبل. عند هذه النقطة بالضبط قد ينحرف حرف علّة عن صوته المعتاد، محدثاً اهتزازاتٍ غير مسموعة.
العلّة في اللغة هي المرض، وهي السبب، كما تقول المعاجم. علّة الأمر ضعفه، وسبب وجوده في الوقت نفسه. والفعل المعتلّ هو فعلٌ يتغيّر تغيّراً مفاجئاً عندما يُصرّف لغويا. كأن تنقلب ألفه واواً مثلا، أو واوه ياء. الفعل المعتلّ، أي الذي تكمن في علّته إمكانيةُ تعبيره، هو الفعل الذي يمكن التعويل عليه في التغيير والتغيّر، لأنّه يستمدّ قوّته من قلب ضعفه. الثورة بهذا المعنى هي فعل معتل. والشعر أيضاً فعلٌ معتل، يراوغ ويختفي، ويظهر في اللحظة المناسبة، حيث لا يتوقّعه أحد. حروف العلّة التي سمعتَها أنت في شعر رامبو كانت حواساً انحرفت وتجاوزت نفسها بفضل “الزعزعة الطويلة المنظّمة” التي يقوم بها الفعل الشعري. حروف العلّة هذه سمعتَها تقول من الماضي: “أنا آخر”. وعثرتَ فيها على برنامج من أجل “هدم الذاتيّة البرجوازية”. هذا الهدم هو أيضاً فعلٌ معتل، لأنّه بحاجةٍ إلى دهاء حروف العلّة، لا إلى قوّة الحروف الساكنة وحدها. اللغة بحاجة إلى حروف العلّة القادمة من الماضي، لتصبح لغةً متصدّعةً لا تقبل بما يُقال فيها، ولا ترضى بما يُعطى إليها. لغة معتلّةٌ تقاوم لغة الهُلام المهيمنة.
أسيرُ بحذاء قناة لاندفير التي كنتَ تسير بحذائها، بعد أن التحقتَ أنت بركب الموتى. أسيرُ في ساعة من ساعات اليوم المخفيّة، والتي لا يمكن للشيطان أن يعثر عليها، ولا الشرطة، كما قلتَ في رسالتك “We Are The Dead”. أسير وأُفكّر في حروف العلّة. في رواية أوكتافيا بتلر “نَسَب” تعيش بطلة الرواية دانا، وهي كاتبة إفريقيّة أمريكيّة، في سبعينيّات القرن العشرين. تصيبها نوباتٌ غير مفهومة، فتجد نفسها تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر في رحلاتٍ متتالية. في كلّ رحلة إلى الماضي البعيد تجد نفسها تنقذ جدّ جدّها، صاحب مزرعة العبيد، والذي اغتصب جدّة جدتها، وباع نسلهما عبيدا. وفي آخر رحلاتها تعرّضت دانا لمحاولة اغتصاب على يد ذلك الجدّ، واستطاعت أن تعود بشقّ الأنفس إلى الحاضر، بعد معركة داميةٍ معه، طعنته فيها وهربت. لكنّها خلّفت ذراعها في الماضي، بعد أن انحشر في جدار غرفتها الذي تخترقه في كلّ رحلةٍ ذهاباً وإيابا. عادت دانا إلى الحاضر مبتورة الذراع، فأصبح لها يدان، يدّ تكتب في الحاضر، وأخرى تعمل في الماضي. يد الماضي تعمل مثل أيدٍ كثيرةٍ غيرها في مزارع تجار العبيد. تعمل في الحقل، أو في المطبخ، أو تعلّم الأطفال الصغار. دانا تقاتل الجدّ تاجر العبيد بيد، وتكتب كتباً في الحاضر بيدٍ أخرى. لعلّ حرف العلّة يشبه دانا. فهي أصبحت جسداً موجوداً في زمنين معاً، لها يدّ تكتب في الحاضر، وأخرى تعمل في الماضي. حضور غير متزامن، يظهر فقط عندما يصطدم مدار الماضي بالحاضر. وبفضل ظهوره يتجلّى عمل الماضي، الذي لم يكفّ يوماً عن العمل في قلب الحاضر. عمل الماضي هو المحاولات المتكرّرة لأصحاب الأيدي المأسورة من أجل الفكاك من الأسر. وحرف العلّة هو هذا الماضي الذي لا يريد أن يترك الحاضر على حاله أبدا.
أحجار
شُقّت قناة لاندفير في القرن التاسع عشر بموازاة نهر شبريه الذي يقطع مدينة برلين من شرقها إلى غربها. الهدف منها كان تسهيل نقل البضائع القادمة إلى المدينة. بضائع كثيرةٌ تدخل المدينة كلّ يوم، موادٌ خام للمصانع، سكّر، تبغ، قهوة. بضائع قادمةٌ من الموانئ. جلبتها السفن عبر البحار من المستعمرات. تتدفّق المياه اليوم بهدوءٍ وسلامٍ عبر مجرى القناة، ويجلس المتنزّهون والمتنزّهات في استرخاء على ضفافه العشبيّة، يحيط بهم البط والبجع. لكنّ المشهد المسالم لهذه القناة يخفي داخله عنفاً سقطت ضحيّته جثثٌ كثيرة. فهذا المجرى المائي لم تصنعه الطبيعة، وإنّما صنعه عمل كثيرين. وأثناء العمل على حفر القناة، وفي خضم ثورة ١٨٤٨، قُتل الكثير من العمال الذين احتجّوا على ظروف عملهم. وبعد أشهرٍ من اشتعال شرارة ثورة ١٩١٨/١٩١٩، قُتلت روزا لوكسمبورج وأُلقي بجثّتها في القناة. هناك أيضاً جثثٌ أخرى كثيرة، لم يسجّلها كتاب التاريخ. جثثٌ التصق كدحها القسري بالبضائع المنقولة، وبقي ذائباً في ماء القناة حتّى اليوم. وجثثٌ أخرى لفظتها حياة المدينة. القناة المائيّة هي مجرى يحمل معه تاريخاً كاملاً من العنف ومقاومته. هذا التاريخ ليس صامتاً كما يبدو. إذ ينجح صوته أحياناً في اختراق الهُلام الذي تسبح فيه حواسنا. سمعتَ أنت ذلك الصوت الذي اخترق كثافة الهلام وأنت تسير على ضفاف القناة ذات يوم، وظللتَ ترقص عليه أياما.
الهلام هو كتلة جيلاتينيّةٌ ضخمةٌ تتكوّن من نتف ونسائر وأيدي وآذان وأعين ممزقة ومنتزعة من أزمنة وأماكن كثيرة، كلّها عملت وكدّت حتى هلكت، ثم عُجنت جيداً حتى أصبحت هلاماً لا يكاد يُبقي لها على أثر. أصبحتْ عملاً ميّتا. في هذا الهلام السامّ تسبح حواسنا دائما، حتّى يحدث أن يخترقه فجأةً صوتٌ أو مشهد. حدث لك ذلك وأنت تكتب قصيدتك “Letter Against The Language”، وحدث لي ذات يوم وأنا أجلس على ضفة قناة لاندفير، يائساً من جدوى الكلام مع البشر. كنت أجلس في النقطة التي تلتقي فيها القناة بالنهر في أقصى الشرق، متذكّراً من يقبعون في السجون بسبب كلامهم، عندما خرجت عليّ يد ابن المقفّع من الماء. لمستُها وتأكّدتُ من وجودها. كانت أصابعها نحيلة، يعلوها لون أزرق، وتتدلّى نسائر اللحم من موضع بترها. لا تعرف ابن المقفّع؟ هو كاتب عاش قبل أكثر من ألف عام. استطاع أن يسمع كلام العجماوات، ثم ترجمه إلى العربية في كتابٍ يُدعى كليلة ودمنة. كتابٌ خفيف الروح، وصل إلى قلوب قرّائه وأضحكهم. وبلبلهم أيضا، إذ جعلهم يعيدون التفكير في حياتهم المشتركة. لكنّ اللغة التي زُعزِعَت للتو، لا ترحم بعد أن تستعيد توازنها. حرف العلّة الذي يُدعى ابن المقفّع، والذي تحدث مع غير البشر، مات ميتةً بشعة. فقد قُطّعت حواسّه: يده، لسانه، أذنه، عينه، وأُلقيت جميعها أمامه في أتّون مستعر. مات ابن المقفّع وظلّت ضحكته وصرخته تسكنان اللغة العربيّة منذ ذلك الحين. أصبحتا الآن بالتأكيد حرف علّة جديد. وعلى من يأتون بعده أن يبحثوا عن ذلك الحرف ويستمعوا إليه.
أيّ أنا هذه التي يمكن أن يتحدّثها من تمزّقت حواسه؟ الشاعرة فرانسيس كروك تقترح ذاتاً تسميها “الأنا المتصدّعة”. تؤدّي هذه الأنا الوظيفة الأساسية للصوت الشعري. فهي ذات متكلّمة وحرف علّة معا. أنا معتلّة. صوتها هو تهشّم الأصوات المتماسكة. والصدوع في هذه الذات هي الفراغات المجازية الضئيلة التي يتسرّب عبرها تاريخٌ كاملٌ من العنف. تاريخٌ ليس كلّه بالضرورة تاريخاً شخصيّاً. هذا التاريخ يُعالَج، ثم يُخفق جيّدا، ثم يُقذف به إلى العالم مرّةً أخرى على شكل قصائد. التاريخ (الميّت) يطلّ عبر عمل الأنا المعتلّة. وعملها هو إعادة الموت إلى اللغة، واستحضار الأشباح فيها، والدفع ضدّ كلمات السلطة المخيفة.
قناة لاندفير مسكونةٌ بالكثير من تلك الأصوات المعتلّة. وصلتَ أنت إليها قادماً من لندن بعد احتجاجات الطلبة هناك. قد تكون قد جئتَ هرباً من الجنون، أو من الإحلال الطبقي في مدينتك. أو هرباً من الهزيمة، أو من السموم التي تُبثّ يومياً في الهواء وتقتل الحواسّ. فهذه هي الأسباب المعتادة لمن يأتي لهذه المدينة. حرف العلّة الذي يُدعى شون أو بوني، أو إيما، أو إرنست، عاش في برلين في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ودرس السحر واليوتوبيا وصناعة الأسلحة، ومات قبل أن ينصرم ذلك العقد، تاركاً هذه المدينة كما وصل إليها… مدينة هاربين. يصلون إليها كأمواج، تتشكّل من جديد عند كلّ منعطفٍ تاريخي. موتى لا يريدون دفن موتاهم. برلين هي خريطة للأمل والانكسار. مجموعة نجميّة نشأت بالصدفة، على تخوم ثقبٍ أسودٍ قديم. لكنّها أيضاً مدينةٌ أطبقت فيها لغة الهلام على كل شيء. فهي كذلك خريطةٌ للفاشيّة الجديدة والإحلال الطبقي. في حي نويكولن أحرق الفاشيون الجدد مؤخّراً سيارات المهاجرين، ومحالهم ومقاهيهم. وفي شوارع ليبج وريجا وفايزه شنّت الشرطة حملات دمويّة جديدة لإخلاء منازل ومقرّات الفوضويين، وسحق مقاومتهم. في شارع أدالبيرت يأس موسيقيٌّ عجوزٌ من العثور على غرفة مناسبة يستطيع دفع إيجارها، بعد أن طردته صاحبة البيت، فانتحر. رأس المال أحكم قبضته على بنايات المدينة، وأُلقي بعائلاتٍ بأكملها في الشوارع لأنّهم لم يعودوا يستطيعون دفع الإيجارات. والشوارع الباردة التي تلقّفتهم أصبحت ماكينات لاستنساخ عمل الحواس وليس لزعزعتها.
في هذه المدينة يمكن لحروف العلّة أن تموت. وحروف العلّة إذا ماتت، أو قُتِلَت، أضحت أحجارا. وأنتَ تعرف بالتأكيد من دراستك أنّ الأحجار تصلح أيضاً أن تكون سلاحا. سلاحٌ قد يكون الزمن تخطّاه، لكنّه لا يزال صالحاً لإعطاب القناة الهضميّة الكبيرة التي ابتلعت كلّ شيء. الأحجار يمكن أن تكسر أسنان من يقضمها، ويمكن أن تنشّف ريق من يبلعها، وأن تلبّك أمعاء من يهضمها. الأحجار سوف تهشّم النوافذ، وسوف تضيء الليالي المظلمة عندما تنقطع الكهرباء. الكتل الإسمنتية سوف تقطع الطرقات. الحصى الأملس سوف يتسلّل عبر فتحات أجهزة الـ ATM ويبقى عالقاً هناك. والمذنّبات الساقطة سوف تهتزّ بتردّداتٍ قادمةٍ من نجومٍ ماتت منذ وقت بعيد، وتوقظنا من ظلام غرفنا. نحن؟ من يعيشون في قلب هذه القناة الهضميّة المُهلِكة. من اختُطفت حواسهم، من أعشت أضواء سيّارات الشرطة أبصارهم، من صمّت موسيقى الأيّام آذانهم، من اعتلّ كلامهم بسبب موت حروف العلّة. من يسيرون بحواس منفيّة في سجن بعيد، أو منقوعة في هلام كثيف.
نحن؟
ديوانُك الأخير أسميتَه Our Death. لكي نقول “موتُنا” علينا أولاً أن نتعلّم أن نقول نحن. لكن ما هي هذه النحن التي يمكن أن تجمع أحياءً بأموات؟ بشراً بغير بشر؟ أيّ نحن هذه التي يمكن أن تجمعنا أنا وأنت من دون أن تسحقنا في الهلام من جديد؟ أين هي النحن التي يمكن أن تتّسع لكلّ هؤلاء الغرباء؟ لكلّ هؤلاء المهزومين؟ لكلّ هذه الأشياء؟ لكلّ هذه الحواس؟ ما هو شكل هذه النحن التي لا هي أنا واحدة كبيرة يذوب فيها الجميع، ولا هي نقيض الأنا؟ إذا كانت هناك إمكانيّةٌ لوجود مثل هذه النحن، فإنّ المكان الوحيد الذي يمكن العثور عليها فيه هو اللغة.
كتبتَ ذات مرة: “speak the language of the dead”. ولكي نتعلّم لغة الموتى علينا أن نزعزع آذاننا، لأنّ كلمات هذه اللغة غير مسموعة، أو صاخبة حدّ الجنون. الكلام فيها لا يُقال في كلمات، وإنّما يزحف عبر حطام الكلمات. لكي نتعلّم لغة الموتى علينا أن نتعلّم الكلام بضمير النحن. لكن هذا الضمير ليس كلمة يمكن أن تُوضع على اللسان، بل لا يمكن النطق بهذا الضمير سوى عندما ينقطع اللسان، ويتصدّع ضمير الأنا الذي تتكلّم به لغات الأحياء. فقط عندما أُصبح “أنا” حرفَ علّة، يمكن ساعتها أن أقول نحن. نحن؟ ما ينزّ عبر الشقوق. من حاولوا ولم ينجحوا. من قاوموا ولم ينتصروا. من جاءوا من المستقبل. نحن؟ ١٦٦٢. ١٩٦٨. ١٧٧١. ٢٠٢٠. ١٨٣٠. ٢٠١١. ١٨٥٠. ضمير نحن لا يُحيل إلى جماعةٍ ممكنةٍ، وإنّما إلى أخرى مستحيلة، تطلّ من انهيارات الأولى. فنحن دائماً جماعةٌ من الأحياء والموتى. جماعةٌ ليست حاضرةً أمام حواسنا، بل جماعةٌ مُستبعدةٌ منها، وبحاجة إلى جهد وعمل، وزعزعة طويلة ومُنظمة للحواس حتى تظهر. علينا أن نَخرُجَ من النحن الممنوحة لنا، حتى نتمكّن من رؤية النحن التي نشترك فيها. أو نشكّلها إذا لم تكن موجودةً بعد.
لا يمكننا إذن الكلام بضمير الجمع سوى في لغة الموتى، لأنّ كلمة نحن فيها ليست مجرّد ضمير يتحدّث بلسان جماعة. أن نقول نحن يعني أن نقول نحن الأحياء الذين تخترقهم مطالب الموتى. يعني أن نتعلّم لغةً مستحيلة. والمستحيل هو المستقبل الذي حَلُم به من رحلوا، ولم نتمكّن، نحن من جئنا بعدهم، من أن نحقّقه. هناك ضرورةٌ ملحّة لتعلّم تلك اللغة ومعها النحن التي تسكنها، وإلّا ذهب عمل الموتى سدى. إنّ عملهم الذي بذلوه وهم يقاومون الهلام، قد ابتلعه الهلام. ولا يزال يعمل هناك.
لكنّ عمل الموتى يقاوم تجمّده على شكل عملٍ ميّت، يُدعى رأس المال. ماركس تعلّم ما هو العمل الميّت وهو يصغي إلى لغة غير الحيّ. فإذا كان الاقتصاد السياسي هو لغة الأحياء، كما تحدّثوا مثلا على لسان آدم سميث، فإنّ نقد الاقتصاد السياسي هو تعلّم لغة الموتى. ماركس أصغى لكلام السلع بينها وبين بعضها، وتعلّم منه الفارق بين العمل الحيّ والعمل الميّت. تعلّم منه ماذا تعني القيمة، وماذا يعني فائض القيمة. تعلّم ماركس أن السلع تتوسّط العلاقة بين البشر، مثلما يتوسّط البشر العلاقة بين السلع. يدّ السوق غير المرئيّة عند سميث، والتي تُحضّر العشاء إلى مائدة البرجوازيين بفضل انشغالهم بمصالحهم الفرديّة فحسب، هذه اليد هي عند ماركس يد عاملٍ مُستلب، تظلّ تعمل حتّى وهي ميّتة.
اللغة المستحيلة هي لغةٌ أخرى غير لغة الهلام الذي يسحق كلّ شيء. هي بالضبط لغة ما سُحِق في هذا الهلام من أيدٍ وحواسٍ ولحمٍ وعظم، ولا يزال يعمل هناك. لغةٌ معتلّةٌ بسبب تاريخ العنف، ولذلك قد تصلح أن تكون أقوى سلاحٍ ضده. ليست لغة، وإنّما ل غ ة. لغةٌ ليست موجودة، ولا قواميس لها. تلمع كلماتها فقط عندما تحترق كل لغاتنا الحيّة. لعلّ هذه هي اللغة التي علينا أن نتعلّمها حتى يمكننا أن نعيش سويّا.
لم يتم إرجاع الاقتباسات في هذا النص إلى مصادرها عملا بنصيحة شون بوني الذي كتب في نهاية ديوانه رسائل ضد السماء: “يحتوي العديد من هذه القصائد […] على اقتباسات مُجهّلة المصدر، وذلك وفقا لتقليد في الموسيقى الشعبية يُدعى في بعض المناطق “أغنية الوقواق”، حيث يقوم المغنّون بنثر كلماتهم فوق كلمات أيّ أغنية تعنّ لهم، صانعين بذلك نسيجاً أو كولاجاً تفقد فيه الذات الغنائيّة كيانها المنفصل، وتصبح عوضاً عن ذلك كياناً جماعيّا. كيان جماعة مناهضة، تمتد إلى الأمام وإلى الخلف، عبر أزمنةٍ معروفةٍ وأخرى غير معروفة. ستبقى مصادري مُجهّلة، تماما مثل الأغاني القديمة الُملهمة لعملي. وقارئي المثالي سيعرف بعض هذه المصادر، إن لم يكن معظمها”.
جزيل الشكر لكل من ساهموا في كتابة هذا النص: شون بوني، آرتور رامبو،كيستون ساذرلاند، روزا لوكسمبورج، كارل ماركس، عبد الله ابن المقفع، سيدريك روبنسون، فالتر بنيامين، سيلفيا وينتر، سي إل آر جيمس، اوكتافيا بتلر، إيمي سيزير، ملادن دولار، فريد موتون، كوجو إيشون، اميري باراكه، سويرج.
* عنوان هذا النص يلتقط الخيط من عنوان قصيدة شون بوني “رسالة ضد اللغة”، والمنشورة في ديوانه الأخير “موتُنا” الصادر عام ٢٠١٩. شون بوني Sean Bonney (١٩٦٩ – ٢٠١٩) هو شاعر أناركي، وُلد ونشأ في بريطانيا، ثم “فرّ” منها، وعاش آخر سنين حياته القليلة، في مدينة برلين. يستمع بوني في شعره كثيرا إلى الموتى، ويهتم بإيجاد أشكال أدبية للصراعات الاجتماعية التي أودت بهم. في قصيدته الطويلة “رسالة ضد اللغة” تصل أنا متكلمة إلى مدينة جديدة، لا يمكنها نطق كلماتها، ليس لأنها لا تعرف اللغة الجديدة، وإنما لأن كلمات السلطة بحاجة إلى سحر مضاد لنطقها. وتستحضر القصيدة طيف بازوليني الذي يقول في إحدى مقالاته الأخيرة إن تلك الأشياء التي “لا يمكن التعبير عنها” هي أسماء. “أسماء من قاموا بالمذابح”. هذه المدينة الجديدة التي وصلتها الأنا المتكلمة في القصيدة هي المدينة نفسها التي وصلتها الأنا المتكلمة في هذا النص. أنا متكلمة، وكاتب وكاتبة، وصلوا جميعهم إلى المدينة في أوقات مختلفة، وفي لحظات تاريخية مختلفة، ولأسباب مختلفة. وصلوا إلى مدينة برلين، التي أصبحت بمرور الوقت مأوى للكثير من الفارين من الهزائم واستحالة الحياة. ولم يكن لهذا النص أن يكتب في مدينة أخرى سواها، حيث تعرفت كاتبة النص وكاتبه لأول مرة على شعر شون بوني بعد موته. والكثير مما يرد في هذا النص هو محاولة لالتقاط خيط الكتابة من نصوصه، أملا في الحفاظ على الخيط الضعيف الذي يربط مستقبل الأحياء بماضي الموتى.