ترجمة: محمد النجّار
عن ما وصلت للي يسموها العهود الزمنيّة المتأخرة، هو آني خو ما ﭽنت ادري وين رايحة. ﭽان صايرلي مدة مختفية – بحيث يمكن فاتت سنين قبل ما أظهر. وبديت أﮔـص المناطق المستبعدة وأدوس على مواطن الغبن بيها. من تباوعون شلون سحـﮔـوها وهمّشوها، إلى أن فقّدوها قيمتها وموّتوها – تخليكم تصرّون بسنونكم إلى أن تنطحن. علمود هذا باوعت على كل شي بتمعن، وضخّمتْ كل جوانب المسألة بعقلي، وتأكدت من وسم كل التفاصيل حيل بعيوني من الداخل. “إلى أن ما بقى شي” – واللي هي الكلمات التي يستعملوها بوصف آثار الكوارث. بس ما ﭽان المعنى هو اللي جردوه من كل شي؛ وإنّما المعنى نفسه تغير. وآني هنا حتى أستخلّص نفسي من السالفة.
أول شي أستفتح بي هو أن أنسى الأسماء. حتّى اسمي راح اخسره. وبالنسبة لذرّات التراب المتجمعة بمنحدرات تزحلـﮒ: فهذي هي موطئ القدم اللي أفترض أنه راح يكون متماسك بحيث يكدر يشيلني. ملمسه رطب على باطن الرِجِلْ. لكن إذا تفركه بين الإبهام والسبابة: فالباقي مو فعلاً رطوبة. وإنما بقايا دهنية، طين بي لزوجة؛ فد شيء عبالك مستنقع قابل للاشتعال، أو أي شي شبّت بي النار مؤخراً. أحاول أﮔص مقطع عرضي بقطعة معدنيّة طويلة ألـﮔيها بجانب الطريق؛ وأمرّر القطِعْ من خلال الصلصال إلى أن أوصل إلى القاع على عمق شبر أو شبرين من الطين. وهذا يذكرني بخبالات أيام زمان: محاولات التجارة الرقمية بالطين الخلاب اللي ينأكل – وتحديداً طين المستنقعات: “طعمه شوية حلو، بس بي مرورة، وية نكهة نفط.”
الجغرافيا جابتلنا الأسماء. لكن ما تـﮔدر تظهر على السطح إلا إذا تنسى الأسماء – بحيث هذا ممكن يكون أي مكان، وهذا هو الأساس. فلمّن أحاول ألفظ الأسماء، بالكوّة أنطق مقاطع: به، بن، باه، بي، بر، بف … فما أﮔدر أتجاوز الأصوات البدائيّة. لأن الوقت، مثل ما تعرفون – لمن “يشتغل” فد مرة زائل – ومن ذاك الوكت صار خربان. لكن بعدين لمن الجغرافيا خفّفت قبضتها على الكوكب، ﮔـعد كل شي بمكانه، بس ما دامت. يعني هسة نـﮔدر نطير: شلون إنجاز هذا! وطبعاً احتجنا ندبر أجهزة – وبأغلب الحالات المستعملات اشتغلت مثل الساعة – لكن بدقيقة ما تتصدﮒ، رفضنا – كلنا – الخطوط اللي نطونياها، ورفضنا الخطوط اللي رسموها داير ما دايرنا.
شظايا الـﮔصب اليابسة تطشرت فوﮒ هاي الجزيرة الزغيرة. ﭽان جمعتهم بكومة واشتريت راحتي لو ما ألسنة اللهب تنط هنا وهناك على غفلة. وهذا بالضبط مثل الأيام الطويلة مال المصايب، أبد ما كان سهل أفرش حتى أنام؛ لأن لازم يكون عندﭺ استعداد بلحظة تلمين وتركضين – يعني تتعودين على هيـﭻ وضع. بس ألسنة اللهب المرعبلة هذي ما تضوجني؛ مو مثل ﮔبل. ﭽنتي تفوتين وانتي سهرانة فوﮒ حقول النفط المهجورة، وما تكبحين أي شي – وتفتحين المجال لشكو أنقاض باللاشعور حتى تطفح. قسم ﮔالوا على هذا خبال: أحلام تستبدلها اندفاعات. أكو جيوش كتلت نفسها علمود هذا “الفردوس”: بحيث الانتفاضات مالتنا تحرر أشكال سلوك ممكن يدمروها أو يسجنوها؛ بس لا، أحنا مجرّد ﭽنا دنرتقي بأخلاقياتنا الجمعية.
مو كل شعلة تحترﮒ بنفس الشكل؛ كل وحدة منها عدها مزاجها الخاص بيها. ألسنة اللهب داير ما دايري – ومن ضمنها الشعلات اللي تنطفي إذا تدوسين عليها بدون انتباه – تجدح بأضعف اهتزاز يوصل من الـﮔـع. احتكاك الجزيئات اللي دتتحرك يتسبب باحتراق ذاتي، شلون حجر الجداحة. آني ارتعبت لمن شفت ألسنة اللهب دتلحـﮔـني أو تـﮔـمّز ﮔـدامي – على الإيقاع مال خطواتي. بعدين قررت أجاريها. فـمن أﮔـمُز، أشوف تلاث ألسنة لهب طويلة تظهر. بعدين أرجع لي ورة: وأشوفها تختفي، بس تطلع غيرها وراية. وما فاتت مدة طويلة قبل ما بديت أحبهم اكثر؛ كل ما أتعرف على طبيعتهم أكثر. ويجوز هذا ﭽان شعور بالوحدة نابع منّي، بس أكو فد قرابة ما احد يـﮔـدر ينكرها تربط بين كل جروحنا اللي جوّة السطح.
آني راح أقاوم تسميتهم طبعاً – حتى لو ﭽنت متعودة هسة على مزاج كل واحد منهم. فَأثبت تماماً، وعيني مثبتتها على التحويل ما بين تدرّجات الثبات والزوال. وأﮔـعد أباوع، وأحاول أتكيّف لمن واحد منهم يستلم التحكم أو يحورن. على الجرف، أكو شعلة لهب وحدة بس دتحترﮒ؛ أغذّي النار شوية ﮔصب يابس وأنقاض طايفة. فـَصارت عندي نار الطبخ مالتي وأخلي حافظة معدنية متروكة على حافتها. فَلمّن أجمع البراعم الزغار اللي تعيش بالمي الـﮔيش، أتحرك بسرعة زايدة وأخوّف شوية طيور صدّاحة – فينتشرون لي فوﮒ بالسما. أرجع للنار، وأشوي جذوع الـﮔصب؛ وأﮔشّر الطبقات الخارجيّة حتى أوصل لداخلها الناعم. أزلطها؛ والأوراق النيّة أعلسها للترطيب.
تاكل النيران كل اللي بطريقها – ومن أبقى وياها أحس كأنّما آني نفسي لهب. ما اﮔدر انتـﭽـي، وتستحوذ عليّة فكرة أنّ اللهب ما يحترﮒ بشكل أفقي. وحتى أحاول وجرب أستوعب هاي الشغلة، أبني ﭽلـﭻ من جذوع الـﮔصب المشدودة سوة بأليافها. وحتى لا تاكله النار، أخليه على الكومة الأكثر تشبع بالمي، مو بعيد عن منطقة الطيور الصدّاحة. أتمدد عليه وأحاول أغفّي، وآني دا أباوع الـﮔـع تزوع ألسنة لهب ترفرف وترجف وتكبر وتتراجع. الهوا الدافي ما يتحرك؛ والضباب يحجب الشمس. الطيور المغردة تفتر وتغني، “ﭽررر إررر توصل ﭽـﭻ رررت تخلينا ننزح من الموطن الهش مالنا وﭽـررر بالكوة خلصنا من آخر خمس كوارث تررر رررت تررر رررر.”
بعد وقت قليل أﮔوم مرة لخ، وأمشي. أقيس المسافة بين الضفاف المتقابلة وأشوفها حوالي ألف وخمسميت خطوة. هذي القارة الزغيرة، بأضيق نقاطها، عرضها بس عشر خطوات. أعثر بألسنة اللهب، وخصوصاً البخارية والشريطية؛ ﭽـعوب رجلي اللي جلدها ثخين ما تتأثر، لكن أقواس رجلي الفلات تحترﮒ مرة لخ. احترﮒ شعر رجلي وتبيّن على الحافة الطويلة لثوبي علامات اشتعال. أدوّر على طريق أنسحب منه، لكن بعدني ما ملـﮔية الثغرة المناسبة بالقصة. ودا أشوف ثورة بكل برعم ناري ينطلق من التراب: حلوﮒ مطينة تحـﭽـي بلغة العناصر الأساسية – لسانات مقندلة دتدرب شلون تتمرد على المعتدين اللي ﮔلبونا كلنا عالبطانة.
جوة الـعباة، ﭽنا مختارين هرموناتنا بكيفنا. والجرعة ضبطوها بدقة عالية بحيث تـﮔدرون تعدلون جنسكم كل يوم شكل، إذا ﭽانت هذي ميولكم. وآني دائماً اختار كوابح الأندروجين؛ جزء من نظام معتقداتي – أن اللي وصلناله من مستوى الدمار كان بسبب المواد التي تغمر دوافع المنافسة، والاختراق، والأسلحة، والحرب، والربح، والموت… أتصور افتهمتوني. كانت الدورة منتظمة عندي، لكن نزف الدم صار شغلة عتيـﮔـة من ﮔبل دهر. فـَهنا، وآني دا أفرغ مثانتي بحفرة محفورة بالطين، شفت ﭽم قطرة دم وحسيت بألم قوي ابطني. كل هذي البتروكيماويات خلّت هذا المي ما ينـﮔاس، وبكل تأكيد ما ينشرب. ماكو شي يقاوم هنا مدة طويلة.
هسّة صرت أعرف أتجنب ألسنة اللهب بمهارة. أتوجّه على باﮔـة الـﮔصب اللي تعشّش بيها الطيور الصدّاحة، وأجر نفسي لي جوة على الـﭽلـﭻ. وأنجطل عليه بشكل جانبي – هذي المرة، بحيث المي ﮔبالي. وأباوع من خلال الـﮔصب على حقول النفط المندثرة من مدة طويلة والمليانة أكوام ضخمة مايلة تبخ أشباح الشعلات. جلي كيمياوي ثخين يسيح ويطلّع فقاعات من الـﮔـع. شلون شغلنا فقد قيمته – الشركات المتعددة الجنسيات أبد ما يقبلون يشغّلون الناس المحليّين – حتى يقتلون نفس الـﮔـع اللي ساكنين بيها؟ مستحيل. معدتي هسة دتوجعني كُلّشْ. أعصر بطني كأنّما دا أفصل جذعي عن الجزء الجواني من جسمي: الألم يندفع بداخلي مثل تشنج كهربائي مطوّل. بهذي الهزة المحمومة، يتزبلط طفل من بين زروري على الـﭽلـﭻ.
فاتت فترات طويلة وآني بس دا أباوع، وأحاوط إيدي داير ما داير الشعلة اللي كبرت بداخلي بفد طريقة. لكن اسمعوا: إذا ﭽانت كل شعلة انتفاضة، فهذي همينة راح تكبر. أبوس التمرد على شفايفها قبل ما أشمرها بالسما، اللي تنضم بيها لصفوف الطيور الصدّاحة المُجنّحة. وبعدين، أدوّر على المكان الذي ظهرت منه أول مرة. لـﮔيته، وخليت حلـﮔـي عالفتحة، وصحت بأعلى صوتي: حتى أﮔـعّد العصبية، وأجعجع الزعزعة من فـُﮔر العبودية ضمن طيات الأرض. شعلة أو اثنين مثلي تماماً برزت على السطح. وصح عددنا قليل، بس نبدي نهيّج العاصفة مالنا. بعدين عشرة يـﮔـعدون، ويصعدون؛ بعدها خمسين، وميّة. نبدي نزحف عبر القارات، ويقوى زخمنا شوية وية كل شعلة تضوّي دربنا.
نتحرّك سوة بخطوات منسقة باتجاه الطرمة المسيّجة: هذي القطعة الأخيرة من الأرض اللي تصلح للسكن واللي ألحقتها الجهة اللي دتستغل ألمنا وتغييبنا – المنتفعين من الحرب والدمار. وهنا، ماكو بوابة أو مدخل، ولا أكو طريق يمتد على طول المحيط المسيّج بلا نهاية. ولا أكو سبب، انتبهوا، لأصحاب الامتياز حتى تدوس رجلهم الحقول اللي موتوها بكسب أرباحهم. هواية من عدنا يتراجعون علمود الركضة اللي تنتهي بـﮔمزة. وبعدين، تندمج كل حشودنا، وتنتج قوة جماعيّة من الضغط الجوي اللي بس يتزايد، ويوصل ذروته بانفجار قوته وسرعته مهولة بحيث الاهتزاز المناخي مالتنا يرسل الكون وهو ديطنطن إلى ﭽم تقسيم فرعي من اللانهاية.
العنف مال طقسنا يمحق كل آثار الانفصال إلى أكوام من التراب. وما ضاع وقت قبل الدخول للحلبة: وهذي المرة وية تقدم النار بالهشيم من خلال الأرض اللي ﭽنا مستبعدين منها لمدة طويلة؛ وهي دتحرﮒ المناطق المحصنة بلا رحمة أو رغبة أنانية بتراكمات هائلة لرأس المال، والتوقف بس للأنهار وخزانات المياه الجوفية – مع الخضوع بتواضع للقدسيّة المطلقة للمي – وما عدا هذا ابتلاع كل شي كأنّما دتحاول تعكس وهج الشمس اللي ما إله نظير. وبعدين، لمن هدأنا، وانتـﭽينا بشكل جمرات متوهجة، استقبلنا العهد الجديد: عهد مقدس بعد ما غطس الكوكب بالنار، وتطهر من شروره.