قد نختلف حول أسباب ومدى وسبل التحرر من الظلم في لبنان. لكن، من الصعب علينا أن ننكر وجوده. هذا لا يعني أننا نفهم هذا الظلم، أو أننا ندرك بنيته وكيفيّة قمعِه قدرتنا على التفكير والتصرّف. منذ بداية الحرب الأهلية (١٩٧٥)، على الأقل، والناس في لبنان يعانون على أصعدة متعددة. لكن المعاناة بحدِّ ذاتها ليست ظلماً. معاناة الشعب، مثلاً، في الدفاع عن هويته قد تكون شيئاً موجعاً جدّاً، لكن ليس بالضرورة أن تكون ظلماً. فهم الناس لمعاناتهم مرتبط بشكل مباشر بما إذا كانت هذه المعاناة تشكّل ظلماً لهم كشعب.[1] في ما يأتي، ومن خلال التعقيب على فكرة “ردم حُفرة شعب”، أودُّ إيضاح بُعدٍ من أبعاد الظلم في لبنان.[2] سأتكلم عن الحرب الأهلية كحُفرة في تاريخ الشعب في لبنان. ومع أن جذور المعاناة قد تمتد عميقاً في تاريخ المنطقة، ولكن الحرب هذه هي مرحلة مفصلية وجامعة، يمكن أن يكون من السهل للجميع ـ نسبيّاً – الارتباط بها واستخدامها كنقطة انطلاق في عملية فهم معاناتنا كشعب.
مرّت معاناة الناس في لبنان بفترات تُعتبر أفضل من غيرها، لكنّنا لم نشعر يوماً (مع إمكانية استثناء المرحلة الأولى في “انتفاضة/ثورة ١٧ تشرين”) بأنّنا أسياد في تقرير مصيرنا الجماعي. وبيد أن الفئات الاجتماعية المختلفة قد تعلم لماذا تعاني، بمعنى أنّها قادرة على تحديد، مثلاً، بعض المحسوبيّات التي تقف وراء معاناتها، إلا أن هناك معنىً آخر لسؤال “لماذا نعاني؟” أو “في سبيل ماذا نعاني؟” وفقط من خلال الإجابة عن هذا السؤال يستطيع الناس فهم معاناتهم كشعب. هذه الإجابة تتطلب، من ناحية أولى، شمل وإشراك كل الفئات الاجتماعية، ومن ناحية ثانية، التواصل العادل والمتساوي بين هذه الفئات في عملية الفهم الجماعي لمعاناتهم. وبما أنّ لا يحق لأيّ فئة أن تحتكر المعنى، فهذه العملية تتطلّب أيضاً من كل الفئات أن تفهم معاناتها في ما يتعلّق بتقرير المصير الجماعي. هنا تبرُز القدرة الكامنة في المعاناة المشتركة بين الناس على توحيدهم ودفعهم إلى التعاون البنّاء، بهدف تجاوز العوائق في مسيرة تحررهم. معاناة الناس، كقاسم مشترك بينهم، قد تكون الأساس في إمكانيّة حصولهم على فرصة جدّية لتخطِّ ما، والتخلّص مِمّن يقمعهم، كما أنّها يمكن أن تلعب دور المرجعية في الحوار والتداول العام.
قد يعترض الكثيرون، وبسبب الفروقات (طائفية أو طبقية الخ) بين الفئات الاجتماعية، أنّ الخوض في هذه العملية الجماعية سيزيد من الخلافات والانقسامات بين الناس. في ما يأتي سأواجه هذا الاعتراض في سياق إيضاح كيف يعيق تعاملنا مع الحرب الأهلية قدرتنا المعرفيّة في ما يتعلّق بتقرير مصيرنا الجماعي. وهذا ظلم بحق الشعب ككل. سأشرح كيف أن هذا الاعتراض، ورغم أنّه يهزم نفسه على الصعيد العملي، إلا أن له تأثيراً سلبياً قادراً على الاستمرار نتيجة استمداد قوّة من ثباته على الصعيد النظري. سأذكّر بعاملين أساسيّين يظهران كيف أن ردمنا الحرب يشكل ظلماً معرفياً[3]، أيّ ظلماً يقمع قدرة المتحدث/ة بصفته/ا عالِم/ة أو عارِف/ة، ولذلك فهو يهدّد أحد الشروط الذاتية لقدرتنا على البدء في حل خلافاتنا حول تقييم ردم الحرب الأهلية. تكمن الأهمية النقدية هنا في تبيان أن ردمنا هذا فاشل وسيّئ، بغض النظر عن إمكانية حل خلافاتنا، وسأختم مع اقتراح لمواجهة هذا الظلم المعرفي.
الحُفرة
نحن نردم حفرة ما في الطريق أو ثقباً في الثوب كي نستمر في استخدام الطريق أو الثوب. هذا لا يعني أنَّ كل أشكال الاستخدام والاستمرار متساوية. هناك ردم أفضل من ردم، وهناك ردم سيّئ لا ينفع أو هو حتّى مُضرٌّ ومُهلِك. حفرة الطريق تُردم بالتراب، ومن ردمها بالذهب أو بعظام الموتى فقد أهدر وأخطأ، هذا إن لم يرتكب جرماً. في حين أنّه من السهل نسبياً تقييم ردمنا لحُفر الطريق، فهناك حُفر من نوع آخر، مثل حُفرة لا تراها أعيننا في حياة الفرد أو المجموعة، وإن أبصرناها قد لا نتمكن من الاعتراف بها، وإن اعترفنا بها قد نعجز عن معالجتها وسدِّ خللها. فمن تعرض/ت للتنمّر والبلطجة والتحرش
سيجد/تجد عوائق مختلفة في علاقته/ها مع جسده/ها ونفسه/ها والآخَر. هناك أيضاً حُفر في أجيال ومجتمعات بأكملها، مراحل في تاريخ شعب ذات تأثير سلبي على قدرته على تقبّل ماضيه والتعامل مع واقعه والتطلّع إلى مستقبله. الهولوكوست-المحرقة في حالة ألمانيا، والعبودية والاستعمار في حالة الولايات المتّحدة الأميركية وأوروبا، مثلاً، هي بصمات عار في مخيلة هذه الشعوب وذاكرتها الجماعية وفهمها لنفسها.
في حالة لبنان، تُعتبَر الحرب الأهلية حُفرةً في التاريخ الشعبي الحديث. عدا عن الدّمار والتهجير والضحايا، زعزعت الحرب العديد من الممارسات الاجتماعية والأفكار المعيارية وأعادت تعريفها على المستوى الفردي والجماعي؛ كإعادة تعريفها معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي، ومفهوم “المقبول” و”المشروع” سياسياً واجتماعياً ونفسياً ومكانياً. كما أنّها عمّقت الانقسامات القائمة منذ ما قبل الحرب وخلقت شقوقاً جديدة وأنتجت انعداماً في المصداقية والشفافية بين الفئات الاجتماعية، ما أحدث خللاً مؤذياً جدّاً على مستوى الثقة بين هذه الفئات المختلفة وبين هؤلاء والدولة. هذا وما زال غياب الدولة ومؤسّساتها والفساد البنيوي والاستغلال يساهم في تفاقم الأضرار والعوائق الّتي تسبّبها هذه الحُفر المتراكمة والمركّبة في قدرة الشعب على تحقيق أبسط حقوقه.
على عكس حُفر الطريق، تلاحقنا الحُفر في حياتنا كأفراد ومجموعات وتتفاعل فينا ومن خلالنا وتستمر بالتحوّل مع مرور الزمن وبحسب كيفيّة تعاملنا معها وردمنا لها. ومن أجل معرفة ما إذا سُدَّ خلل الحُفرة، أين نجحنا، أين أخفقنا ولماذا وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟ علينا أن نقيّم هذا الردم. تكمن أهمية هذا التقييم في العلاقة بين نوعية ردمنا الحرب ونوعية استمرارنا كشعب. يدفعنا هذا التقييم إلى التفكير سويّاً بكيفيّة تعاملنا مع ماضينا الحديث في سياق واقعنا الحالي بخلفيّة التطلّع إلى مستقبلنا الجماعي.
الخلاف والانقسام كتحدٍّ
مهمّة من هذا النوع – وهنا قد يعترض الكثيرون – صعبة إن لم تكن مستحيلة، بحيث إنها تتطلب الحدّ الأدنى من الحوار البنّاء والتوافق بين توجّهات الناس وانتماءاتهم التي تتعارض في فهمهم الحرب وتحليلهم الوضع الحالي وتطلّعهم إلى المستقبل. تقييمنا لردم حُفرة الحرب الأهلية سيتناول، بشكل مباشر أو غير مباشر، تقييم فهمنا لأنفسنا ومبادئنا وممارساتنا السياسية والاجتماعيّة. “هل يسمح اختلاف الانتماءات والآراء والمواقف في لبنان لهذا النوع من المصارحة والمواجهة بأن يحصل وبأن يكون حقيقيّاً؟” ي/تسأل المعارض/ة.
هذا الاعتراض الذي يعتمد على الاختلافات الاجتماعية لصد مهمة تقييم ردم حفرة الحرب الأهلية، هو واحد من سلسلة من الاعتراضات التي تشير إلى التعددية أو الانقسامات في لبنان. تتميّز المجتمعات في عصرنا الحديث بالتعددية والتنوّع في الآراء المتناقضة. لكن هذه المجموعة من الاعتراضات تستخدم التعددية والتنوع والتناقض كحجّة ضد تقييم ردمنا الحرب الأهلية الذي يشكّل في هذا السياق عنصراً محورياً في بناء دولة تضم جميع الفئات الاجتماعية وتقدّم الخدمات لكل الناس. بغضّ النظر عن دقّة هذه الاعتراضات أو صحّتها، هي مهمّة كونها تعمل خفيةً وبشكل أحادي الجانب في خلفيّة الكثير من المواقف المنحازة والانحياز والأحادية لا يقيّمان حرباً أهلية ولا يبنيان وطناً لكل سكّانه. لذلك فإن أهمية هذا التقييم تكمن في أنه يمكن أن يُستخدم كنقطة انطلاق ومرجعيّة في عملية فهم معاناتنا كشعب.
تقييم ردم الحُفرة
على الصعيد العملي، تهزم هذه الاعتراضات نفسها. إذا قلنا إنّنا لا نريد مضاعفة الانقسامات الطائفية، مثلاً، فنحن نعترف ضمنيّاً بأنّ الانقسامات الطائفية أمرٌ سيّئ. وبدلاً من محاولة تخطّي هذه الانقسامات عبر فتح النقاش العام والمناظرات في تقييم الحرب وما بعد الحرب وعبر المحاسبة وليس عبر قانون عفو عام كما حدث، تؤدّي هذه السلسلة من الاعتراضات، عمداً أم بغير عمد، إلى مواقف وسياسات تكرّسها وتطبّع معها وتفاقمها حتّى. فالانقسام الطائفي والتوتّر موجودان في كل ما يتعلّق بنا، وعندما لا نتكلّم عنهما يصبحان مع الوقت أمراً واقعاً، ويُدرجان تحت شعارات مثل “لبنان هيك”. كما أنّ هذه الاعتراضات تقف وراء التبريرات لعدم إنشاء وتشجيع مساحات آمنة للنقاش الموضوعي والصريح حول المشاكل المشتركة للناس عامةً والانقسامات الطائفية خاصةً. والحالة الأكثر وضوحاً في هذا الصدد، هي غياب الحرب الأهلية من المناهج التعليميّة، ما يلغي دور المدرسة كمساحة آمنة للأجيال القادمة لفهم ماذا حصل، وأين نقف نحن اليوم، والأسباب الكامنة وراء كل ذلك. وفي معظم الأحيان، يكون البديل هو أن تُطرح هذه الأسئلة في مساحات خاصة تميل في طبيعتها نحو أحادية الجانب والانحياز. هناك حاجة ماسة للمساحات العامة الآمنة للنقاش، وهو ما يفسّر النشأة العضوية لحلقات النقاش وانتشارها خلال انتفاضة/ثورة ١٧ تشرين.
أمّا على الصعيد النظري فقد تكون هذه الاعتراضات أكثر ثباتاً. أيّ عملية تقييم تتطلّب الاعتماد على أساس معياري. فالتحدّي النظري الذي تطرحه هذه الاعتراضات هو أنّه لا يمكن تأمين مشروعيّة الأسس المعياريّة في ظلِّ التعددية أو الانقسامات في لبنان. ورغم أنّ هزيمتها لنفسها على الصعيد العملي قد تتفوّق على المدى الطويل على ثباتها النظري، فإنّ الثبات النظري قادر على إنعاش قدرة قبضتها المعيارية على عقولنا وتصرفاتنا، ما يطيل بعمر التأثيرات السلبيّة لهذه الاعتراضات وإمكانية استخدامها (فيما يتناسب مع مصالح السلطة) في صدّ محاولات التغيير الجدّي وإبقاء الحال على ما هو عليه. هناك فكرتان يجدر ذكرهما في مواجهة هذا الثبات النظري.
أوّلاً، وبينما قد لا يكون هناك إجماع على ما يُفترض أن يكون عليه لبنان (هوية جامعة لكل الفئات والأفراد)، هناك مصالح وعوامل مادية تجعل السكان شعباً واحداً، شاؤوا أم أبوا. وترتبط هذه المصالح والعوامل مباشرةً بالمعاناة المشتركة بين الناس فيه، وهي متعددة ومتنوّعة، تشمل الظروف المعيشية التي يعانيها معظم الناس مثل سعر صرف الدولار وغياب الخدمات من كهرباء ومياه وطبابة، كما أنّها تشمل العيش مع النفايات ومع تدمير المدينة بأقل من دقيقة (إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب) ومن ثم التعامل مع الموضوع وكأن شيئاً لم يكن. على المرء أن يعترف بأنّه من المثير للإعجاب مدى اتساع وطول هذه القائمة. على كلّ حال، هذه النقطة تساعدنا على ترجمة الفكرة المذكورة أعلاه وتحديدها بدقة أكثر، ما يعني أن المعاناة المشتركة قد تكون نقطة انطلاق في مسيرة التحرّر الجماعي. فالمصالح والعوامل المادية هي خزّان تجارب موحِّد للناس، وعن طريق مواجهتها سويّاً وفهم أسبابها وإمكانيّة معالجتها تدخل الفئات الاجتماعية المختلفة في عملية تقييم نقدي لنفسها للآخر ومعه، بحيث تجد كل فئة نفسها على طريق فهم معاناتها في ما يتعلّق بتقرير المصير الجماعي.
ثانياً، وبدون الغوص في الاستراتيجيات النظرية للإجابة عن التحدّي للفكر النقدي، تكفي الإشارة إلى أنّ أيّ معيارٍ نقديٍ مشروع، عليه أن يتميّز ببعد “داخلي” -، بمعنى أنّه عليه أن يعتمد على معايير معترف بها، علنياً أو ضمنيًّا، من قبل أعضاء المجتمع المَعني. في غياب البعد الداخلي، يُنظر للنقد، من زاوية هؤلاء، على أنّه يَفرض عليهم كيف يجب أن يعيشوا حياتهم وأن يديروا أمورهم، فهم لا يفهمون أو لا يتواصلون أو لا ينتسبون إلى الأرضية التي يتم على أساسها انتقادهم-. بالإضافة إلى ذلك، في الواقع وعلى الأرجح، قد يؤدّي ذلك إلى نتائج عكسية حيث أنّه يبرر للأفراد المَعنيين تبَنّي موقف دفاعي يتمثّل في التمسك بشكل دغمائي بأساليب حياتهم التقليدية. مع البعد الداخلي، لا يتمّ استبعاد النقد لكونه أبويًّا أو إمبرياليًّا أو مفروضاً، ما يسمح للتفاعل الحقيقي والبنّاء معه. النتيجة قد تكون اعتراف المنتقَدين بوجود خلل في طرقهم التقليدية، ما يحفزّهم على تغيير نظرتهم وبالتالي ممارساتهم.
ضرورة وجود بعد داخلي للنقد تُبرز أهمية أخذ وجهة نظر الجهة المُنتقَدة بالاعتبار. تشكّل الخلافات والانقسامات في لبنان جزءاً مركزياً من العنصر الداخلي في عملية تقييم ردم الحرب الأهلية، وهو جزء لا يجوز تجاهله. هنا، من الضروري جداً عدم الخلط بين الصعوبات لحل هذه الخلافات، من جهة، والشروط لقدرتنا على الشروع في حل هذه الخلافات، من جهة أخرى. ولأن هناك ادعاءً دائماً بأن محاولة حل خلافاتنا لن تنجح، أي أنها ستؤدي إلى الفشل، يجب دحض صحّة هذا الادّعاء عملياً من خلال التجربة. فالإصرار والتمسّك الدوغمائي بهذا الادّعاء وقبل التجربة، يعبّران عن مخاوف أو يهدفان إلى التخويف، والحالتان لا تبرران تجاهل وجهة نظر الجهة المُنتقَدة من خلال تفادي الحوار والنقاش العام حول كيفيّة التعامل مع حُفرة الحرب.
من جهة أخرى، فإن النقطة الأعمق والأهم تخصّ شروط قدرتنا على الشروع في حل هذه الخلافات. وبيد أنّ هناك شروط نظميّة لقدرتنا على الخوض في الميكانيزمات اللازمة لحل خلافاتنا، تركيزي هنا هو على تظهير أن ردمنا الحرب الأهلية يهدّد أحد الشروط الذاتية لقدرتنا على البدء في لعب دورنا كمواطنين/ات وسكّان في تقييم هذه الحُفرة، وبالتالي لقدرتنا على تقرير مصيرنا الجماعي. تكمن الأهمية النقدية لإظهار هذه الشروط الذاتية في تخطّي الصعوبات لحل هذه الخلافات كمرحلة أولى قبل أن نباشر في مرحلة ثانية لتقييم ردم الحرب الأهلية. بمعنى آخر، إذا كان ردمنا الحرب الأهلية يهدّد أحد شروط البدء في حلّ الخلافات، وبالتالي في تقييمنا لردم الحرب، فإن ردمنا هذا سيكون فاشلاً إذاً وسيّئاً بغض النظر عن إمكانية حل خلافاتنا.
الظلم المعرفي
الخلل الأساسي في ردمنا الحُفرة هذه، يكمن في تقويض قدرة الشعب على أداء دوره، حتّى واجبه، في عملية استيعاب وهضم ماضيه (النظر إلى الوراء) كي يتمكن من الدفع نحو مستقبل يمتلكه (النظر إلى الأمام). قد تكون بعض الأعمال الأخيرة في مجال المعرفة الاجتماعية النقدية وبالأخص ما يسمّى بنظرية الظلم المعرفي الأكثر إفادة في تبيان كيف أن ردمنا الحرب الأهلية يهدّد أحد الشروط الذاتية لقدرتنا على البدء في لعب دورنا في تقييم هذه الحُفرة. [4]
الفكرة الأساسية لهذه النظرية هي أن بعض أنواع التمييز تشكّل ظلماً للمتحدث/ة بصفته/ا عالِم/ة أو عارِف/ة. تركّز نظرية الظلم المعرفي على القضايا المتعلقة بقدرة الأفراد على صنع المعنى في ممارساتهم التواصلية، وتشير، في هذا السياق، إلى الأشكال المتعددة للممارسات والهيكليات القمعية وغير العادلة، المرتبطة بالمعرفة والفهم والمشاركة مثل الإسكات، والتشويه المنهجي، وتحريف المعاني، والاستهتار أو التقليل من القيمة المعرفية لمساهمات بعض الأفراد على أساس الجنس أو الطبقة الاجتماعية أو العرق. وبيد أن هذه النظرية قد ركّزت في بدايتها على الأفراد، هناك محاولات جدّية لتطبيق هذه الأفكار على صعيد المجموعات.[5] فبأيّ معنى يشكّل ردمنا الحرب ظلماً معرفياً؟
يتميّز تعاملنا مع الحُفرة التي تشكّلها الحرب الأهلية في تاريخنا الشعبي والرسمي، بالإنكار والإخفاء والتنصّل. دون إطالة، يمكن ذكر كيف تم التعامل مع وسط المدينة المدمّر ذي الرمزية الكبيرة لمعاناة الناس، كأنه موقع للاستثمار التجاري دون أيّ نقاش جدّي يشمل الشعب ويأخذ بالاعتبار الرأي العام في هذا الموضوع. هذا الإغفال والاستهتار طال البشر أيضاً، إذ هناك ما يقارب الـ١٧٠٠٠ مفقود جرّاء الحرب الأهلية الذين تم التغاضي عنهم ولم يتم الإقرار بهم حتى سنة [6]٢٠٢٠. والحالة ذاتها تنطبق على الصعيد السياسي والاجتماعي، فما زال أمراء الحرب يتحكّمون بكل مفاصل الحياة السياسية. على مستوى آخذي القرار، نحن انتقلنا إلى مرحلة ما بعد الحرب دون فتح أي ملف من ملفات هذه الحرب أو الحديث عن المرحلة السابقة في سبيل فهم جماعي لما حصل ولسبب المعاناة أو، على الأقل، “هضم” معنى تجربتنا للحياة الـ “طبيعية” في الـ “لا طبيعي”. لا اعتذار ولا مصالحة عداك عن المحاسبة. وأودّ ذكر عاملين أساسيّين (قد يكون هناك أكثر) لإظهار كيف يشكّل ردمنا الحرب ظلماً معرفياً.
العامل الأول: استراتيجية عدم الكلام عن الحرب، إنكار تأثيرها على حياتنا اليومية حتى الآن، وعدم احترام أو الاعتراف بالضرر الهائل والجروح التي تركته هذه الحرب، هي فعليّاً عملية إنكار لمعاناة الشعب من مخيّلته الجماعية. بدوره، يؤدّي هذا إلى استبعاد ما تسلّل إلى داخل وعينا الجماعي نتيجة الحرب، ما يفصلنا عن جزء من ذاتنا الجماعية. هذا الفصل يمنعنا من مواجهة ومعالجة آثار الصدمات والمعاناة التي تعيش معنا من خلال وعينا الجماعي، كما أنّه يعيق قدرتنا على فهم أنفسنا. إحدى نتائج هكذا فصل هي إسكات النفس عن تجاربها. تُذكر الحرب في الخطاب العام، وفي الكثير من الأوقات ضمنياً، للتخويف والترهيب فقط. وبينما تنطبق مقولة “تنذكر وما تنعاد” على حربنا الأهلية، هذا لا يعني ألّا نفهمها، من ظروف اندلاعها وصولاً الى تقييم كيفية ردمها، خصوصاً أنّه من الطبيعي أن نعيد تكرار ما لا نفهم.
العامل الثاني: عمّقت الحرب الانقسامات القائمة منذ المرحلة التي سبقتها وخلقت شقوقاً جديدة. صنّفت الحرب وسياسات ما بعد الحرب الناس في لبنان إلى فئات ذات صفات مختلفة وغذّت التحيّز السلبي لهوياتها. ويؤدّي التحيّز السلبي على أساس الهوية أو المنطقة أو الطائفة إلى فشل مستمر ومتكرر بالتعبير عن أنفسنا والتحاور مع الآخر بسبب سوء فهم الآخر لنا. ويؤثّر هذا بدوره سلباً على قدرة الآخر على الاعتراف المعرفي بقدرتنا على التعبير والفهم والمشاركة الـ “لا أحادية” والبنّاءة في الحقل العام. تؤثّر نظرة الآخر إلينا، ونوعية تواصله معنا، على فهمنا لأنفسنا وعلى قدرتنا على التفكير.
يهزّ هذان العاملان علاقات ثقة الفئات بأنفسهم وبين بعضها البعض وبين أفرادها ويهدّدانها. وعلاقات الثقة هذه أساسية في قدرتنا على التعبير عن تجاربنا بصدق وبصراحة وبدون خوف أو دفاعية، وبدون قدرة من هذا النوع هناك عجز جماعي في المصداقية. باختصار، يعيد ردمنا الحرب صناعة سردية الماضي في الحاضر ويكرّسها، ما يغذّي عجزاً منهجياً في المصداقية وفي قدرتنا على التعبير. في ظلّ هكذا عجز، نعيش في حالة جهل جماعي للحرب وأنفسنا وفئات المجتمع المتعدّدة. كما أننا، ومن خلال هكذا جهل وعبر ممارساتنا السياسية والاجتماعية والشخصية، نساهم في ترسيخ جهلنا الجماعي والمحافظة عليه.
بالإضافة إلى ذلك، يرتبط هذان العاملان بمنظومة ذات نهج يستفيد من انتشار هذا الجهل حول حقيقتنا وفئاتنا الاجتماعية المختلفة، وقضايا مصيرية في بلدنا مثل قضية المفقودين أو تفجير المرفأ. يخدم جهلنا الجماعي السلطة والطبقة الحاكمة ويغذيها، ولقد أثبتت التجربة أنّنا طالما بقينا تحت رحمة هذه السلطة، سنظل نعيش تحت قمع المحسوبيّات واللامبالاة وعدم الكفاءة والاستغلال.
ماذا الآن؟
فلنكن واقعيين\ات ونضع جانباً فكرة المنقذ القومي أو الصحوة المفاجئة لآخذي القرار في لبنان. بعبارة أخرى، لا محال إلا في العمل المباشر والمبادرات الشعبية. وبيد أن غياب الدولة أجبر الناس على أن “يدبّروا راسن”، فإن النتيجة لم ولن تكون ناجحة طالما تعمل هذه الجهود من داخل، ومن خلال، جهلنا الجماعي. قبل أيّ شيء علينا خرق حواجز هذا الجهل. بعض الاقتراحات هنا قد تشمل العمل في الأحياء، والمدارس، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي لخلق مساحات آمنة، حيث يمكن بذل مجهود واعٍ ومركّز لمحاربة الجهل، وذلك بإعادة تثقيف أنفسنا حول ماضينا وواقعنا. من خلال هذه المساحات، هناك فرصة أن يتحوّل الاعتماد الفردي على النفس إلى اعتماد جماعي على النفس. تتاح هذه الفرصة من خلال طرق متعددة للنشاط والتنظيم الاجتماعي الهادف إلى تحديد ومن ثمّ التشكيك والتحقيق في الميكانيزمات وأنماط التفكير و”ردّات الفعل” التي يتغذّى منها جهلنا الجماعي وينتشر من خلالها، مثل الشعارات والادّعاءات التي نردّدها عن أنفسنا والآخرين بدون تفكير، والأسئلة التي طالما اعتبرنا إجاباتها أمراً مسلّماً به. الطريق طويل وصعب. المهم أن نكون على الطريق الصحيح. وبرأيي، فإن هذا الطريق يبدأ بالاعتراف بالجهل الجماعي وبمراقبته الواعية كي نعرف كيف، أين، ومتى يمكن أن نُحدِث فيه ثقباً على مستوى الأفراد والمجموعات. ثقب على ثقب، يُخرق الجهل الجماعي ونصبح أكثر فأكثر استعداداً وقدرةً على التواصل والحوار العادل والمتساوي مع الآخر، ومن هنا “تدبير راسنا” يمكن أن يكون ناجحاً على صعيد تقرير مصيرنا الجماعي. هكذا ثقب لا يجوز ردمه، بل إنّ ردمه هو ظلم بحق الشعب ككلّ.
[1] مفهوم “الشعب” هو بناء أو تركيب اجتماعي. في هذا النص، أفترض أن أحد المكوّنات الأساسية لاعتبار مجموعة من الناس شعباً، يكمن في فهم هذه المجموعة لنفسها كمجموعة. قد تلعب عناصر عدّة دوراً في هذا الفهم الجماعي، منها القواسم المشتركة على الصعيد الفكري أو المادي، والعادات والتقاليد، ونوعيّة علاقات أفراد المجموعة مع بعضها وكيفيّة تواصلهم مع بعضهم عبر الزمن. مضمون مفهوم الشعب إذاً وحدوده غير ثابتين، بل متحرّكان ويتغيّران بحسب تحرّك وتغيّر أفراد المجموعة مع السياقات التاريخيّة والاجتماعية والسياسية.
[2] استمعت مؤخراً إلى مقابلة مع كلوي قطّار وساعدتني تلك المقابلة في ربط بعض النقاط التي أوردها في هذا النص https://www.youtube.com/watch?v=pt_aVKvZfwU
[3] Fricker, Miranda. Epistemic Injustice: Power and the Ethics of Knowing. Oxford: Oxford University Press, 2007
في هذا الكتاب ميّزت فريكر بين نوعين من الظلم المعرفي، “ظلم الشهادة” و”الظلم التأويلي”. ومن ثمّ طوّر البعض هذين النوعين وزادوا عليهما (Kidd et al. 2017).
[4] Fricker, Miranda. Epistemic Injustice: Power and the Ethics of Knowing. Oxford: Oxford University Press, 2007.
Dotson, Kristie. “Tracking Epistemic Violence, Tracking Practices of Silencing.” Hypatia, vol. 26, no. 2, 2011, pp. 236–257.
Medina, José. The Epistemology of Resistance: Gender and Racial Oppression, Epistemic Injustice, and Resistant Imaginations. Oxford: Oxford University Press, 2013.
Jenkins, Kathatine. “Rape Myths and Domestic Abuse Myths as Hermeneutical Injustices.” Journal of Applied Philosophy, vol. 34, no. 2, 2017, pp. 191–205.
Kidd, Ian James, Medina José, and Pohlhaus Gail, eds. The Routledge Handbook of Epistemic Injustice. London and New York: Routledge, 2017.
[5] وبيد أن هذه النظرية قد ركّزت في بدايتها على الأفراد، هناك محاولات جدّية لتطبيق هذه الأفكار على صعيد المجموعات. كمثال على هذا
Altanian, Melanie, and Nadja El Kassar. “Epistemic Injustice and Collective Wrongdoing: Introduction to Special Issue.” Social Epistemology 35.2 (2021): 99-108.
[6] على الرغم من إقرار القانون رقم 105 للمفقودين والمخفيين قسراً سنة 2018، إلّا أن مجلس الوزراء اللبناني لم يقرّ مرسوم قانون إنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرياً إلّا عام 2020.
أيوب، لور. “خطوة متقدمة لتكريس حق الأهالي معرفة مصير ذويهم : تشكيل الهيئة الوطنيّة للمفقودين والمخفيين قسراً”. المفكرة القانونية، 23 حزيران\يونيو 2020، https://legal-agenda.com/%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D9%85%D8%B5/، تمّ دخول الصفحة في 28 نيسان\أبريل 2021.