توقّفت سباقات الخيل قبل بضعة أشهر وسُرِّحت الخيول. كان لدى معظم المالكين إسطبلات خاصة، وعلى الرغم من ذلك، تُركت بعض الخيول تتجوّل حول مضمار الخيل في مجموعات من ثلاث، معلنةً عن مطالبها قبل وقت إطعامها بلغة خيل حزينة. في الظهيرة كان صهيلها، أو على الأقلّ بدا لي صهيلها، كما لو أنّه نمّ عن استياء عميقٍ من التدفّق الأخير للبشر الى الميدان ووجودهم المستمرّ فيه.
في أيلول، ولسبب كان أم نزوة أم اِبتِلاء، انضممت أنا ومزنة إلى الرعاع: المجموعات التي تمّ إعفاؤها حديثًا من واجبات العمل وتلك التي كانت دائماً على هامش الدورة الإنتاجية وأولئك الذين يحملون الجنسية أو لا يحملونها وصفوف العاملين سابقاً في البناء والنادلون وعمّال توصيل الطلبات وعمّال النظافة والحمّالون ومعلّمو المدارس وأعضاء هيئة تدريس جامعيّة وطلاب المدارس والجامعات والمسوّقون ومشغّلو مراكز الاتّصال وفنّيو المختبرات وفنّيو المسرح وربّات البيوت الفارّات من منازلهن والعاملات المنزليات المهاجرات الفارّات من منازلهن والجحيم البيروقراطيّ تحاولن مغادرة البلاد وعدد قليل من عائلات اللاجئين السوريين الذين لم يخيفهم العداء المتزايد الموجّه إليهم وموظَّفو القطاع العام من ذوي الرتب الدنيا والمتقاعدين وموظَّفو ما يفوق ألفي منظّمة غير حكومية وموظَّفو أكثر من ستين مصرفًا وموظَّفو السفارة والمطار ووكالة السفر وخدمة التأشيرات الذين كان يعمل بعضهم في مركز «TLScontact» على الجانب الآخر من الشارع الذي ما عاد متعاقدا مع سفارات منطقة «الشنغن»… التاليون شكّلوا مجموعات فضفاضة: موظّفو المركز الطبّي بالجامعة الأميركية في بيروت الذين تمّ تسريحهم بشكل جماعي، وعاملات المنازل الإثيوبيات والكينيات والسنغاليات والسيراليونيات اللواتي طُردن من منازلهن وتم رميهن عند مباني سفاراتهن، وعمّال النظافة البنغلاديشيون والهنود الذين تركوا «رامكو»، إضافة الى آخرين. قد يتهيّأ للبعض أن هذا الحشد شكّل احتلالا للميدان بامتلاكه إرادة سياسية إجماعية ونوايا لمقارعة الخصوم (من؟). ذلك ممكن إذا كان الحشد على اتفاق او تنسيق فعّال، لكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق. في الحقيقة، كان جلّياً أنّه لم يكن هناك ذرّة من الرؤية المشتركة أو الالتزام بين أولئك الذين أرادوا العودة إلى بلدانهم الأصلية حالما تسمح لهم الظروف بذلك، وأولئك الذين لم يرغبوا في العودة إلى بلدانهم الأصلية، والمواطنين الذين لم يكن لديهم لا مقدرة على الالتجاء إلى جوازات سفر أجنبية ولا خطة هروب. لم يتمكّن معظم الأشخاص الذين تحدّثت إليهم من شرح سبب وجودهم هناك ولجأوا إلى التفصيل المبهم للظروف الملتوية التي نجوا منها بعد تواتر أزمات العام الماضي. عند عرض موضوع الوباء تلكّأوا وناوروا وأنكروا، أو أشاروا الى كمّاماتهم. كانوا جميعًا هنا، في المكان نفسه، يهدرون الوقت (أي وقت؟).
شغّل المجتمعون المطابخ وأقاموا الخيام وتسلّقوا الأشجار ولعبوا الورق وطاولة الزهر وحبكوا وأجروا مناظرات غير جادّة. في الأغلب، شاهدوا الأخبار من محطّات متعددة أقيمت عبر الميدان. لم يكن أحد يعرف بالضبط من أين أتى المال لإنشاء ذلك، وأصلا آنذاك، كان القليل منهم يكترث كفاية ليسأل. كما في معظم الأحيان، كان هناك بعض من الخيّرين المحلّيين وأفراد في المهجر يرسلون الدولارات الطازجة. لم يكن هناك من ترتيبات لفصل الشتاء القادم. في الهواء الطلق، بثّت الشاشات الحروب الصغيرة: انفجار موسمي لمستودع في مكان ما والمزيد من الاحتجاجات والاحياءات ورصد لنشاط الخلايا الإسلامية الأصولية النائمة في الشمال وتمرّد في سجن رومية حيث قام السجناء المطالبون بالعفو العام بتحميل مقطع فيديو ليؤكّدوا أنهم نزلاء المبنى «أ»، لا المبنى «ب» حيث أقام الإسلاميون الأصوليون المسجونون منذ سقوط خلافة «داعش». أحداث يعتدّ بها لكنها لم ترقَ الى مستوى الضربة القاضية التي كانت قد حدثت سابقاً، مؤخّراً. في الميدان، ظلّ بعض الكشافة أو أفراد المجتمع المدني يقومون باستعراض تنظيف القمامة التي خلّفها الآخرون. أمّا قطاع الشباب في الحزب الشيوعي اللبناني فقد عرض فيلم «دكتور سترينجلوف» للمخرج ستانلي كوبريك.
قابلت ثلاثة من معارفي هناك. تمركزوا حول حوض السباحة الفارغ في «قصر الصنوبر» المهجور الذي يقع إلى الغرب من مضمار الخيل. اعتدت أنا ومزنة أن نصادفهم في بار «ميدو» حيث كانوا إما مُعدين بقنوطهم أو ثملين صاخبين، كما كان معظمنا. الآن بدوا كأنهم يحافظون على نبرة دافئة في الكلام، يلقون كلماتهم بسرعة كما لو أنهم يبنون جمل بعضهم البعض، تقريبًا إلى حد الهوس. أمضوا أيامهم في صنع الميمات. عرض لي أحدهم، وهو طاه أرمني، نظريته. قال إن المدينة قد أصابها نوع من العطل في آب وأن قطبيها هما المرفأ وغابة الصنوبر، أضحت مثل منجم مفتوح توقفت فيه الأعمال وغادرته القوى العاملة، قدم إليه سكّان المنطقة القدامى لتقييم تغيّر معالمه بعد عقود من عنف التمدّن الوحشي. قال إنه من المناسب أنه تم إعادة زراعة غابة الصنوبر – وهي آخر قطعة أرض خالية من المباني في المدينة – في التسعينيات بعد أن أبقى الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢ والحروب الأهلية على القليل من الشجر التي أمر بزراعتها الأمير المعنيّ فخر الدين الثاني في القرن السابع عشر لإعادة إحياء غابة قديمة لأشجار الصنوبر الحلبي، كان قد وصفها رئيس الأساقفة والمؤرخ ويليام الصوري في القرن الحادي عشر وتم القضاء عليها تدريجياً بعد قرون من توفير الأخشاب للتجارة والسفن الحربية التي سمحت لبيروت الدخول في نشاط تجاري في ظل الحكم الفينيقي واليوناني والروماني والعربي، وإنه كان هناك تاريخ يجب كتابته في نفس قطعة الأرض هذه، بعد أن هجرت المدينة نصف نفسها بين عشية وضحاها. مزنة، التي كرهت التصورات السامية مثل أي وقت مضى، على الرغم من كل ما حلّ بنا، قالت أن الطاهي ثمل تحت تأثير مخدّر فاقد لعقله.
فيما بعد، جلست أنا ومزنة وسط تشكيل من أطلال أعمدة رومانية، حيث بعض العائلات تشاهد مسلسلات الظهيرة. جاءت امرأة حامل برفقة والديها المسنين وجلسوا بالقرب منا. عرّفت عن نفسها على أنها نيرمين، وسألت عمّا إذا كان بإمكاننا أن نريها المكان. كانت تحمل كرسيًا قابلًا للطي لأنها لم تستطع الجلوس على الأرض في وقت متأخّر من فترة الحمل. تحدّثَت هي ومزنة مطولاً. نيرمين فلسطينية، تركت زوجًا معتدي قبل بضعة أشهر وعادت لتعيش مع والديها. أحضرتهم إلى الحديقة بعد أن ملّوا البقاء داخل المنزل، لكنهم سيعودون إليه في الليل لكي يناموا. في مرحلة ما من المحادثة سألنا والدها من أين أتينا. عندما سميت قرية أبي في عاليه – والتي لم أزرها منذ سنين – سكتت نيرمين. لاحقا أخبرتنا أنها أنجبت جنينا ميّتًا قبل عامين. كان من الصعب أن تدفن الطفل في أي من المقابر الفلسطينية، لذلك رتّب زوجها لدفنه في قطعة أرض ذات مدرّجات زراعية امتلكها صديقه في نفس القرية. قالت إنها لم تزره قط، وإنها كادت أن تقرّر ألّا تحمل مرة أخرى، وعلى الرغم من ذلك، ها هي الان، حاملاً. لم تكن متحمّسة للغاية بشأن ولادة الطفل في الوقت هذا، لكنها كانت تتدبّر أمورها. مرهقة ولكنها لم تكن تعيسة على الإطلاق. اشتكى والداها أن الصوت العربي المُدبلج للشخصية الرئيسية لميس قد تغًيّر في المسلسل التركي الذي كانوا يشاهدونه.
أقام بعض أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي قاعدة مؤقتة في مدرسة «كوليج سانت سوفور» إلى الجهة الشرقية من الميدان. الزوبعة الحمراء المكوّنة من أربع نقاط، الشبيهة بال «السواستيكا» على علمهم الأسود ما زالت تُدبّ الرعب في القلوب، لكن هم ما عادوا يثيرون الذعر كما فعلوا قبل بضع سنوات، حتى في أذهان مشاة شارع الحمرا، حيث يقع معظم مقارهم الرئيسية. لقد وقفوا حينها على أسوار خيالية يصطنعون الدفاع عن أنفسهم، مفارقة تاريخية بين الأحياء. من هم هؤلاء الأشخاص المهذبون الذين ما زالوا ينظرون إلى الخريطة ويفكّرون، بحماسة الاشتراكيين الوطنيين القاتلة، أنّ شعوباً وأراضي قد فصّلت من نفس القماش ويجب خياطتها معًا مرّة أخرى، وأن تلك عقيدة وقضيّة تستحق التبنّي، على عكس رغبات جميع المعنيين تقريبًا؟ هل ورثوا الدافع الايماني من آباء غيّورين؟ «شو برجهن»!؟ كانوا يتدرّبون كل اثنين على عرض عسكري صغير، يرتدون سراويل كاكيّة وقمصانًا سوداء وأحذية مهترئة بشكل واضح. بعضهم أعضاء في «نسور الزوبعة» جناح الحزب المسلح، لكن لم يحملوا أي أسلحة في المسيرة. لم يشاركوا في الأحاديث والمبادلات التي أقيمت في الحرش. معظم الأشخاص الذين أعرفهم في الحرش ببساطة تجاهلوا وجودهم، يمرّون بالمقرّ برزانة حريصين على أن يتحرّكوا بسرعة، أبصارهم خاشعة لا تجول عيونهم نحوه.
بعد أيام قليلة، قابلت شخصًا لم أره قبل ذلك في مكان عام أو في وضح النهار. اسمه جلال. التقيت به العام الماضي عبر تطبيق مواعدة، قبل أن أقرّر الامتناع عن ممارسة الجنس وأصبح عازبًا. كان لديه «فيتيش» أقدام وأحذية بدأ الحديث عنه عند ترتيبه للقاء شخص ما. (هناك إجماع شفهي، على الأقل بين أصدقائي، على أن جزءًا كبيرًا من الرجال المثليين في بيروت لديهم فيتيش القدم، لكنني لم أسمع بعد تفسيراً معقولاً للظاهرة). عندما التقيت به كان يدرس الكيمياء الحيوية في الجامعة اللبنانية ويعمل كفني مختبر. من خلال تصميمات شقّته الداخلية التي ظهرت في الصور التي أرسلها لي، عرفتُ أنه يعيش في شقة مزنة القديمة أسفل مستشفى الجعيتاوي. أعترف أن هذا كان جزءًا كبيرًا من سبب قراري الذهاب إليه، حتى بعد موافقته على دفع مائة دولار. قال إنه استمتع بالدفع وأن الصفقة كانت جزءًا من ال«كينك». وصلتُ إلى عنوانه ووجدته قد خرج من الشقة إلى المبنى المواجه لها. قال إنه لم يترك منزل والديه إلا مؤخرًا، وأنه كان يتقاضى أجرًا لائقًا بمقدار الساعات الإضافية التي كان يعملها. كنت عاطلاً عن العمل بشكل دوري، حتى منذ قبل يوم الخروج وقبل أن أضحى معظم الناس عاطلون عن العمل أيضا. كان عطوفا في حديثه معي، لكنه ظهر كشخص صارم للغاية في حياته الخاصة. استلقى على الأرض تحت طاولة القهوة وطلب مني أن لا أخلع حذائي طوال الوقت، متلقّيا كل قذارة المدينة في مبادلتنا الخاصة، كما لو كان يرغب في تلطيخ لسانه حنقاً على شيء ما.
بعدها بسنة بدا غير مثقل بالأعباء وهو مستلق على الأرض تحت شجرة صنوبر. روى كيف توقّفت أعماله السابقة، مازحًا بأن دفعه لمئة دولار نقدًا مقابل الجنس الآن بات أمرًا محال بعد انهيار العملة.
غادرتُ جلال، اتصلَت مزنة معلنة أن نرمين قد دخلت في المخاض وانه تم نقلها سريعا إلى المستشفى العسكري الميداني المغربي الذي أقيم بجوار المستشفى العسكري اللبناني إلى الشرق من الحرش. لم يطلب المستشفى الميداني أي أوراق، لكنه لم يكن مهيّأ لا بالعدة ولا بالعاملين في قسم الولادة. إحدى الممرضات المغربيات كانت قد تدربت سابقا لتكون داية، وحضرت دايتان أخريان صادف أن كانتا في الحرش للمساعدة. الرمال بدت حمراء في ضوء غروب شمس تشرين الثاني، وحركة المرور على الطريق السريع ميّتة. ظللنا برفقة والدي نيرمين حيث انتظرناها جميعًا. كان من المتوقع أن تمرّ بولادة خالية من التعقيدات، وبعد مرور أربع ساعات تمّ ذلك.
ترجمة: صفا حمزة