ذكّرنا أحمد فارس الشدياق قبل قرن ونصف من الزمن بأنّ الكلمات العربية تشكلت استنادًا إلى مفهوم الاشتقاق والقلب والإبدال، إذ تعود الكلمات بأصلها إلى كلمات أخرى، وتنبثق بأجمعها من جذرٍ مشتركٍ تتصل معه باتصالٍ مفاهميّ. وعليه يكون التفكير في الكلمات بهذه الطريقة شبيهًا برسم خريطة غير محدودة لشبكة العلاقات التي تربط الكلمات ببعضها البعض. وفي ذلك نوعٌ من جنون الارتياب في فكرة أنْ اللغة تُحدثنا أكثر مما نتحدّثها نحن. ولشرح الفكرة سنطرح فيما يلي مثالًا نسعى من خلاله إلى رسم صلة بين أصل كلمة “رقم” والنظام المالي. فلنستعرض ونفند سويًا طريقة تفكير الشدياق فيما يخص كلمة الرقم.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـٰبَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُوا۟ مِنْ ءَايَـٰتِنَا عَجَبًا} ١٨:٩
ترد في هذه الآية من سورة الكهف في القرآن الكريم صيغة من إثنين لجذر كلمة “رقم” وهي “الرقيم.” وقد تُرجمت كلمة “الرقيم” في أغلب المصادر بكلمة تدلّ على نقش أو لوحة، ما يكشف عن معنًى منسي لم يعد يُتداول منذ زمن بعيد لكلمة “رقم” بمعناها الحالي.
لم ترتبط معاني كلمة “رقم” دائمًا ولا في الأصل بالترقيم والمحاسبة، ولكنها اندرجت ضمن هذا السياق مع انتشار الكتابة والاكتتاب. ويؤرخ قاموس الدوحة التاريخي للّغة العربية أنّ أقدم سجل معروف لجذر الكلمة يعود إلى عام 75 قبل الهجرة (549 م) ومعناه “الوَشيُ الَّذي يُزيَّن بِهِ الثَّوْبُ وَنحْوُه.”. كما ترمز هذه العملية من الزخرفة، أي الترقيم، إلى تنقيط الحروف في مخطوطة ما لجعلها أكثر وضوحًا.[1] ثمّ ارتبطت من بعدها الكلمة ارتباطها المعاصر بالترقيم العددي وصولًا إلى استخدامها في نهاية المطاف لتسجيل الأسعار على السلع، كما نقرأ:
وكّذَلِكَ إذا أخذه المُشْتري بِرَقمِهِ، ولوْ لم يعلم ما هو ثمّ علِمَ ما رَقْمُهُ، فَهوَ بالخِيارِ: إن شاءَ أخَذَهُ وإن شاءَ تركَهُ.[2]
نستنتج من هذا المقاربة في المعنى كيف يؤدي تغيير طفيف إلى اختلاف كبير وكيف تنشأ اختلافات طفيفة من قاسم مشترك، ليتضح لنا أنّ الرقم يرتبط بطبيعته بنظام المعرفة، أيّ العِلم.
أطلال مالية
صار من الشائع ومن غير المبالغ به الحديث عن لبنان بلغة الأطلال، بل أكثر من ذلك، فإن قراءة التناقضات المتأصلة في النسيج الاجتماعي للبلاد قد أصبحت أمرًا لا يُحتمل.
أن تكون لبنانيًا اليوم هو أن تكون مشكلة يجب أن يوجد لها حل: أن تكون لبنانيًا يعني أن تعيش حياةً لا طعم لها ولا معنى، تتخللها ومضات من السعادة الباهتة في وطئتها لتجعلها قابلةً للعيش – وكأن جراح الحياة المنكوبة من ثقل الرزوح تحت النظام الرأسمالي هي جراح لبنانية الهويّة، بل أسوأ من ذلك، وكأن تعدد الهويات والانتماءات والتوجهات وتنوعها هو أمرٌ يخصنا وحدنا، ويتحتم علينا التعايش معه كما لو كان مصيرنا وحدنا أن نعاني منه.
بتنا أمة غير متبلورة تجتمع فيها التناقضات، فصرنا نتحدى ونطالب العمومية في آنٍ معًا، وبطريقة متوقعة، واعتبرنا الأمر نعمةً ونقمةً على حدّ سواء، دون أدنى مقاومة للرغبة في إعادة إنتاج هذه الكليشيهات الثقافية.
قمنا في سعينا لمعرفة أنفسنا بإعادة تشكيل نسخٍ متعددةٍ لأنفسنا ومن بعضنا البعض لنزيد من الارتباك الذي كان يتوجب علينا حله، ذاك الحل الذي ظل متعذّرًا، بعد خمسة عشر عامًا من الحرب الأهلية. هذا، أكثر من أي شيء آخر، هو الوهم الذي يسمى لبنان.
لعلّ لا شيء يجمعنا سويًا، سواءً اعترفنا بذلك أم لا، أكثر من ربط الدولار بالليرة. فقد سمح لنا هذا الربط الثابت منذ العام ١٩٩٧ أن نتناقش في السياسة، مهما كانت هذه المناقشات زائفة ومتقلبة، كما أتاح لنا أن يكون لدينا ما يشبه الاقتصاد، رغم أنّ هذا النظام الاقتصادي كان يتسم بعدم التكافؤ والعقاب بشكل متزايد إلّا أنّه مكننا من فهم المجال السياسي والاقتصادي خلال فترة من وفرة الإنتاج الثقافي المتنامي، بغض النظر عن صيرورة هذه المساحات وتحولها لمساحاتٍ متخصصةٍ.
تحوّل هذا الربط إلى إقرار وتسليم. صار الارتباط بالدولار بمثابة هوية رسمية ومجردة يمكن للجميع الحصول عليها ومشاركتها، وهذا ما جعلنا نشعر بالارتباط بالنظام المالي العالمي والتزامنا به. غير أنّ هوية السعر والأرقام هذه كانت هوية وهمية تمامًا مثل محاولاتنا “لمعرفة أنفسنا”.
كانت هويتنا المالية وسيادتنا مجرد وهم مثل خيال ديمقراطيتنا الطائفية. وقد شعرنا، مع ذلك، بالارتياح لكون آثار هذه الأوهام حقيقية للغاية: دينٌ عام لا يمكن تذليله وتتحكم به المصارف ويضع الناس في لبنان، من مواطنين وغير مواطنين على حدٍّ سواء، في حالة من الخطر والتداعي وفقدان الأمن الوظيفي. ويكمن ما هو أسوأ من ذلك، في أنّنا محكومون من قبل أولئك الذين تكمن قوتهم في لامبالاتهم الصلبة. لقد أثبت الاقتصاد اللبناني أنّه اقتصاد على حساب الشعب، وليس اقتصادًا للشعب.
أصبح نسيجنا الاجتماعي الآن، في خضم تداعيات الانهيار المالي، في خطر محدق، وفيما فهرَسَتْ أطلال الحرب الأهلية الماضي المنطوي والمكبوت، ها هي الأطلال المالية الآن، تُفهرِسُ في تضاد متمايز، العقود الآجلة.
بنّد الراحل راندي مارتن خمس عواقب للانهيار في أعقاب الأزمة المالية العالمية الحاصلة عام ٢٠٠٨ وهي:
- تعطيل التواصل بين المعرفة والتسعير.
- انهيار النماذج التنبؤيّة.
- انعدام الثقة في حكم الخبراء.
- عدم تقييد الاقتصاد كمجال بالمعرفة.
- تحوّل في العلاقة بين المعرفة واللامعرفة.
نرزح الآن ولفترة من الزمن في وسط المجهول. تخطيّنا الاقتصاد كطريقة عامة لمعرفة المجتمع وحكمه وبلغنا نظام مالي يعتمد على مخاطرة المجتمع من أجل الربح.
كشفت أزمات العام ونصف العام المنصرمين في لبنان رحلتنا من اقتصاد قائم على المعرفة بالربط الثابت، والأسعار الثابتة، والأرقام الثابتة، إلى اقتصاد قائم على عدم المعرفة[3] وعلى إعادة كتابة الأرقام باستمرار التي من خلالها كنّا نعرف أنفسنا.
الرقم والسعر واللامعرفة
يُستمد فهمنا الحديث لكلمة اقتصاد (economy) من كلمة oeconomia اليونانية التي تعني إدارة الموارد والأشخاص وحكمهم، حيث يُستلهم هذا الحكم من القوانين الطبيعية التي من خلالها يحكم الله العالم. تأتي كلمة اقتصاد في اللغة العربية أيضًا، للدلالة على عملية إدارة شؤون الأسرة بكفاءة وبشكل معتدل، وعلى نطاق أوسع ” إدارة شؤون الأمة.”[4]
يظهر الاقتصاد في عصرنا الحديث كإسم لنظام السوق الذي يستند على المعرفة من أجل تحديد وترقيم الأسعار. ليست إدارة الاقتصاد المعاصر إذًا، سوى علم دقيق يمكن التنبؤ به من خلال الأرقام.
تجسّد قصة فرح أنطون الرمزية “المدن الثلاث: الدين والعلم والمال” (نشرت عام ١٩٠٣) المواجهة بين هذا الثالوث العظيم للمجتمع. تتناول القصة مسألة الحكم الاقتصادي الصحيح من خلال سلسلة من المناقشات التي تدور بين رجال العلم ورجال الدين وأصحاب رأس المال والعمال.
يستند النص إلى افتراضين. الأول هو افتراض العناية الإلهية بأن ” الله موجود، وكل شيء في الطبيعة يدل على وجود الله ويشير إليه.”[5] ويشير الثاني، وهو اعتبار زمني، وبالتالي علماني، أن الزمن يتغير، ومعه تتغيّر أحكام التشكيلات الاجتماعية: “الوفاق في بلادنا بين عناصرنا لا يمكن إلا بمراعاة الوسط الجديد الذي صرنا فيه؛ لأن الوسط الماضي قد تغيَّر عمليًا ودينيًا واجتماعيٍّا وسياسيٍّا، وهذا الوسط لا بدّ أن تجتمع فيه جميع المذاهب والآراء والمبادئ والأفكار”.
يقدم لنا أنطون في القصة، الوصفة الوردية أو السحرية للمضي قدمًا، لكن الأمور تنتهي بمشهد كارثيّ حيث تتآمر السماء والأرض على المدن الثلاث، مما يؤدي إلى تدميرها والفتك بسكانها. في النهاية تقوم النساء بإنقاذ أبطال الرواية الذكور ليتزوجوا بعضهم بطبيعة الأمر، وهنا، تتكرر الحلقات الدينية من الدمار الإبداعي على مثال سدوم وعمورة، ولكن بدون سفاح القربى.
يحلّ فرح أنطون مشكلة النسيج الاجتماعي المنحل بحدثٍ مدمرٍ يغيّر السياق الأساسي جذريا ويسمح لأبطاله بكتابة مستقبل مختلف، في حين أننا قد لا نكون محظوظين بهذا القدر لإحداث مثل هذا التدمير الإبداعي، بيد أنّنا لم نكن حتى الآن، مرارًا وتكرارًا، إلّا في الطرف المتلقي للعنف كأداة بوجه التغيير وإصلاح الوضع الراهن – يمكننا أن نتعلم من رحلة أنطون العنيفة الخيالية، ونستخلص من رمزيتها ما يسميه إيلي عياش بـ “كتابة السوق.”[6]
ما يميّز السوق المالي بالنسبة لعياش، هو كتابة السعر، وهو ما قد نترجمه إلى العربية من خلال نبش وإعادة تأهيل الكلمة القديمة للتسعير المذكورة سابقا: “الترقيم.” كما يقول عيّاش: يظهر السوق كالحالة الوحيدة (كحالة المتفرّد أو المعجزة) الذي يتّخذ التاريخ واحداثه شكل الأرقام.[7]
يميّز عياش بين المحتمل والعرضيّ: فالأول يعتمد على مجموعة من المعرفة المفهرسة بالفعل، والموجودة في سياق واحد، في حين أن الأخير، هو حدثٌ مثل المعجزات الإلهية وحدث قصة فرح أنطون المروّع، إنّه حالة “تغيير السياق”[8].
يتبع سهيل مالك خطى عياش في رؤية التمويل كوسيط للعرضيّ بامتياز، وتتمثل مساهمة مالك في قراءة المنطق الزمني في مفهوم “الاختلاف” عند جاك دريدا وإسقاط هذا المفهوم على سوق المشتقات. بهذا يعيد مالك كتابة دريدا بنفس الطريقة التي يعيد فيها عياش كتابة نسيم طالب، وبنفس الطريقة التي يعيد بيار مينار كتابة دون كيشوت. أودّ هنا أن اقترح أيضًا إعادة كتابة خاصة بي، عن فكرة “الترقيم”، على أمل أن يكون ذلك ممكنًا، وأن تعمل هذه الكلمة مثل “كلمة دودية” في نصوص مالك وعيّاش ودريدا. بناء على ذلك نكتب: “في إعادة تشكيل نفسها، وفي انقسامها الديناميكيّ، يمكننا أن نسمّي الفترة الزمنية (التي تشكل العقد الاشتقاقي) بالترقيم [مالك يكتب “التسعير” ودريدا يكتب “التباعد”]. وبهذه العملية يصبح الزمن مسعّرًا والسعر يصبح زمنيًا.”[9]
فالترقيم ما هو إلا كتابة للمستقبل تنتج واقعًا جديدًا في الوقت الحاضر، وهذا هو منطق الاشتقاق.
الاشتقاق والطلل المالي
يجب التنبّه إلى ماهية الاشتقاق، وعدم الخلط بينه وبين التكرار الضيق له في عبارة “سوق المشتق.” فالاشتقاق يسمي ويصف المنطق الاجتماعي السائد للعالم المالي. تشير المشتقات إلى “انتقال قيمة ما من مصدر إلى شيء آخر، أو قد تكون إحدى سمات تعبير أصلي التي يمكن دمجها مع تعابير مشابهة، أو عامل متغيّر يمكن أن يتحرك في انسجام أو في تنافر مع عوامل أخرى”[10]. ومع ذلك، فإن سمة المشتق الأساسية تكمن في الانعدام الشديد لليقين، إذ لا تتأكد الوجهة ولا حقيقة الحركة.
عندما يتسلل منطق المشتقات في الاقتصاد، تظهر ثلاثة آثار صارت الآن مألوفة لكل شخص في لبنان: نبدأ أولًا بالتشرذم المترابط، فنحن منتشرون بقوة في جيوب طائفية ومجتمعات تعيش باستمرار في علاقة عبثية مع داخل حدود الوطن، وهذا الأخير لا يوجد إلا في خيالنا القومي. ثانيًا نجد التقلبات، إذ نصارع كل يوم لننجو من التقلبات اليومية لكلّ من أسعار الصرف والمزاجات والآراء والمخاطر المالية. وثالثًا وأخيرًا نواجه المراجحة حيث تؤدي التغييرات الصغيرة إلى اختلافات كبيرة، على غرار كيفية تكاثر المعاني من خلال اشتقاق الكلمات باللغة العربية، أو كيف يمكن للزيادات الضريبية الصغيرة أن تؤدي إلى ثورة.
يحيط بنا منطق الاشتقاق، لذا، من الأفضل أن نبحث عنه ونحتويه في سياساتنا وحركاتنا.
من الصعب ترجمة العبارة الاسبانية “derivar a otro lugar” إلى العربية، حيث تعني في آن الانحراف والإنشقاق إلى مكان آخر، والتواصل مع شخصٍ آخر أثناء هذا العمل الانحرافي الانشقاقي. هذه العبارة هي استعارة تأسيسية لـمجموعة “Precarias a la Deriva”، وهي مجموعة بحثية راديكالية مقرها مدريد، تستوحي ممارستها الاشتقاقية من مقال جي ديبورد المعنون “نظرية الانحراف.”[11]
يعرّف ديبورد الاشتقاق (dérive) بأنه “أسلوب المرور السريع عبر أجواء متنوعة تتضمن وعيًا نفسيًا وجغرافيًا.” ويقول ديبورد “خلال الاشتقاق يتخلّى الفرد أو الأفراد عن علاقاتهم وعملهم وأنشطتهم الترفيهية وجميع دوافعهم المعتادة الأخرى للحركة والعمل.” عبر هذه العملية يصبحون مُقادين عبر اللقاءات أكثر مما هم مقادون إليها.
تطبق مجموعة Precarias a la Deriva المنطق الاجتماعي للاشتقاق في ممارسة رعائية يقظة، تحت مبدأ مفاده: “إذا قسّم رأسُ المال النظامَ الاجتماعي بغية استخراج القيمة، يتوجب علينا أن نتحد معًا لرفعه ونقله نحو أماكن أخرى.”[12]
ينتشر التشرذم الناتج عن المشتقات في جميع أنحاء المجال الاجتماعي، بحيث “لا تكون الهشاشة سمة من سمات أفقر العمال فقط.[13]” فكل شخص معرض للخطر في هذا العالم المالي يصبح مديون وقائم على أسس هشّة.
تولي سياسة الرعاية الانتباه إلى المنطق الاجتماعي للاشتقاق وتجعله مصدرًا للتحرك الجماعي، بدلًا من السعي نحو سياسات كليّة واستهلاكية وعمومية. ومن خلال هذا التحرّك الجماعي المشتق، نرفض كلّ ما يُطلب حول ضرورة وجود أهداف واضحة وقادة بارزين، ونبغض نقاء اليسارية الطفولية، ونستقبح التمييز بين الأصدقاء والأعداء، ونستبعد التسلسل الهرمي بين المحترفين والهواة، ونعارض الشعارات القومية الإثنية. نشهد مثال لهذه الحركة في الفرحة التي تعترينا عند رقص الدبكة.
تتحرك رقصة الدبكة في خطواتها التصميمية بشكل جانبي، وتسمح بنشوء علاقات اجتماعية لا توجد عادةً في الأماكن عامّة[14]، في المطاعم والمقاهي وحفلات الزفاف والساحات العامة، تدعو الدبكة الغرباء أن يشبكوا أيدي بعضهم البعض وأن يتحركوا بشكل جانبي في نفس الاتجاه حول مركز متحرك، وهي تنطوي على ثلاث حركات أساسية بسيطة تزيد أو تخف شدتها وفقًا لإيقاع الموسيقى. إن بساطة الدبكة تجعل تعلمها وحفظ خطواتها سهلًا، وتتيح للناس ارتجال التعقيد في نمطها الأساسي. يصف أنطون شماس في روايته “أرابيسك” الدبكة عندما يؤديها القرويون الفلسطينيون ونرى بها مثال لمنطق الاشتقاق.
وهكذا وقفوا، جنود جيش اليهود من جهة وسكان فسوطة من جهة أخرى، وعلا من مكان ما صوت مجوز، واصتفّ الرجال الذين عادوا من الحقول في نصف دائرة، وأقدامهم تخبط الأرض بحركة تلقائية بانسجام مع إيقاع اللحن. لقد اقتحموا “الدبكة الشمالية”. دبكة الجليل الجامحة، التي تنطوي على شيء من فرحة أولئك الذين نجوا من مرسومٍ قاتل، وشيء من متعة الخضوع من قبل الضعفاء، وشيء من التملق أمام الغريب، وشيء من براعة القروي الذي يتسلّح بالأسلحة غير المتوقعة في اللحظات غير المتوقعة. كما كانت تتضمن النزوة والرعونة، بطريقة أو بأخرى. وفي الوقت الذي هدأت فيه الأقدام المتعبة من الرقص وتلاشت نزوات المهزومين، كان الغبار قد غطّى وجوه جميع الحاضرين في الحفل بطبقة بيضاء رقيقة، وكما هو الحال دائمًا، لم يميز هذا الغبار بين جندي محتل وقروي قد احتُلّ. وبعد ذلك بدأ الجزء الرسمي من الحفل، وأُمر المحتفلون بلطف أن يسلموا الجيش أي أسلحة في حوزتهم، بما في ذلك الأسلحة المخفية في أكوام التبن وتلك المخبأة في الحقول.”[15]
تشمل الدبكة هنا صيغ متعددة من الوجود والمعرفة، من الناجين والضعفاء والغرباء والمستسلمين والقروي “الذي يبرز الأسلحة غير المتوقعة في اللحظات غير المتوقعة.” يفرض هذا السلاح غير المتوقع في أكثر اللحظات غير المتوقعة تمزقًا في الانقسام الاجتماعي القائم، ويعيد ترتيب العلاقة بين ” جندي محتل وقروي قد احتُلّ ” بطريقة لا تمكننا التمييز بينهم. لقد تمكنت فرقة الرقص من تغيير الواقع أمام فرقة من الجيش، وتُفتحت آفاق الإحتمالات الجديدة المتعددة من أنقاض الحاضر.
فلعلّه قد حان الآن وقت الرقص لنتمكن من كتابة وترقيم مستقبلنا.
ترجمة: حسين ناصر الدين
[1] .كتاب مَرْقُوم أي قد بُيِّنتْ حروفه بعلاماتها من التنقيط
[2] .محمّد بن الحسن الشّيبانيّ، تح: محمد بوينوكالن، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ٢٠١٢ م. ٤٦٢/٢. من موقع: https://www.dohadictionary.org/dictionary
[3] راندي مارتن ، Knowledge LTD: Toward a Social Logic of the Derivative (فيلادلفيا ، مطبعة جامعة تمبل ، ٢٠١٥) ، ٢٣
[4] لفهم “علم أنساب أكمل للاستخدام اللاهوتي والأرسطي” لـ oikonomia ، ننصح بقراءة كتاب “جورجيو أغامبين The Kingdom and the” Glory: For a Theological Genealogy of Economy and Government ، وخاصة الملحق ، الذي يتتبع فيه أغامبين “الروابط الجوفية التي تربط الاقتصاديات الحديثة بنموذج oikonomia اللاهوتي والحكومة الإلهية للعالم “(278) ويوضح كيف يتم تشكيل الانضباط الحديث لـ” الاقتصاد السياسي ، بمعنى آخر ، كعقلنة اجتماعية لـ Providence oikonomia “(282
[5] . فرح أنطون، كاتب روائي، ” أدونيس العكره”، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر ، ١٩٧٩)
[6] . إيلي عياش، “كتابة السوق” ،المجلد الثامن- روبن ماكاي (Falmouth: Urbanomic, ، ٢٠١٤) ، ٥١٧-٦٠٢.
[7] المرجع نفسه، ٥٣٠. هل يمكن للسوق أن يحل محل المجتمع؟ عندما يتم تمويل الحياة اليومية، وتنتصر حرب الليبرالية الجديدة ضد العمل ، يتراجع المجتمع ويصبح كل جانب من جوانب المجتمع سوقًا قائمًا بذاته.
[8] راجع مجلد إيلي عياش، The Blank Swan: The End of Probability (John Wiley & Sons, ٢٠١٠), ٥-١٠.
[9] سهيل مالك،“The Ontology of Finance” المجلد8 -روبن ماكاي (Falmouth: Urbanomic ، ٢٠١٤) ، ٦٩١.
[10] راندي مارتن، المعرفة، 51.
[11] قد نختار ترجمة بديلة هنا، ونقول، نظرية التهاوي، أو نظرية الانجراف، أو نظرية الإشتقاق. بأي حال، المعنى اللغويّ يتأرجح ويتحول مع النقل بين لغة واخرى.
[12] انظر Precarias a la Deriva “A Very Careful Strike – Four Hypotheses,” في The Commoner (العدد١١، ربيع ٢٠١٦)، ٣٦.
[13] المصدر نفسه، ٣٩.
[14] استنادًا إلى قراءة راندي مارتن للمنطق الاجتماعي للاشتقاق في تصميم رقصات الهيب هوب والرياضات المتطرفة والتزلج على الألواح، وكلها جزء مما يسميه الحركية الاجتماعية اللامركزية. راجع الفصل الثالث من Knowledge LTD: نحو منطق اجتماعي للاشتقاق (فيلادلفيا، مطبعة جامعة تمبل ، ٢٠١٥).
[15] أنطون شماس، أرابيسك ، ترجمة فيفيان إيدن (مطبعة جامعة كاليفورنيا ، ٢٠٠١) ، ١٢١-١٢٢.