ليس المكانُ بالمكان

هنا سليمان مع بيزا جيرما

العمل الفني: ألين ديشامب، "عاملتان منزليتان سابقتان من سيراليون تتسكعان في منزلهما المشترك في طريق الجديدة (بيروت، لبنان). أكثر من عشرين امرأة يعشن في هذه الشقة الصغيرة - حيث يواصلن الترحيب بـ «الأخوات» الأخريات من بلدانهن الأصلية اللائي هربن من الانتهاكات أو تركَهُنّ أرباب العمل في الشارع، وسط جائحة وانهيار اقتصادي في البلاد". تصوير فوتوغرافي، 2020

ترجمة: حسين ناصر الدين

انبثق هذا النصّ من محادثة انطلقت بشكل غير رسمي منذ عشر سنوات طوال أيام وليالٍ في بيروت، غير أنّها حدثت بشكل رسمي في أيار (مايو) ٢٠٢٢ خارج بيروت، بيني، وقد كنت في برلين، ألمانيا، وبين بيزا جيرما في هواسا، إثيوبيا.

من وحي ثيمة محور “ب.ش.ر”[1] ناقشنا المدن المتعدّدة لبيروت والبشر المتنقّلين فيها: كيف يتحرّكون، ما هي الشروخ في مساراتهم، وكيف يتعرّج طريقهم ذهاباً وإياباً بأشكالٍ غير متوقّعة.

بينما يشقّ عليّ الحديث عن حاضري الشخصي، كان هذا النصّ هو الأصعب على الإطلاق لسببَيْن. أوّلهما- وهو مشترك مع كثيرين على ما أظنّ- هو أنّني نسيت كلّ شيءٍ ما عدا لغة الكليشيهات في الحديث عن بيروت. ثانيهما هو ضيق صدري من القوّة غير المتكافئة في حديثنا.

بيزا وأنا التقينا لسنواتٍ خلت، وكنّا نقضي صباحات الأحد في المنزل، نطبخ ونتحدّث. الكثير من أحاديثنا كانت حولنا، كنساءٍ في بيروت، والطرق المتعدّدة التي نسكن بها المكان. صحيح أنّ القمع واقعٌ على اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، إلّا أنّه لا يقارن بنظام الكفالة الذي يتحكّم بحيوات مجتمعات العمّال المهاجرين في لبنان. نظراً لمواقعنا البنيوية الفرديّة كلاجئة فلسطينية من الطبقة الوسطى وعاملة أثيوبية مهاجرة، دائماً ما كنت أتردّد في التعبير عن شكاواي. وبالمثل، فقد تردّدت في أن أضع تجربتينا جنباً إلى جنب في النصّ، خشية أن أشير سهواً إلى ديناميكيات السلطة بيننا، بالمقابل، لم يقيّد ذلك حواراتنا البتّة، ولم يمنع انخراطنا في تأمّلاتٍ تتقاطع ما بين الشخصي والسياسي.

وبهذه الروحيّة كتبت هذا النص: محاولة لرواية كيف سكنّا بيروت، معاً وكلاً على حدة، وما حملناه معنا ونحن نمضي قدماً. إنّه ينطلق من المحادثة التي أجريناها في أيار (مايو) ويشتبك في الأسئلة والأفكار التي أثّرت علينا لأكثر من عقد من الزمن.

البلد ما بتكرهك بصراحة، بيكرهوك الناس يلي بيعيشوا فيها’.

لماذا نحبّ الأماكن التي تمارس القمع علينا؟ ظلّ هذا السؤال يلحّ عليّ أثناء حديثي مع بيزا جيرما. على الرغم من عيشها أكثر من عقد في ظل نظام الكفالة، إلّا أنّ بيزا غدت أكثر ولعاً بلبنان. عندما اضطرَت إلى المغادرة منذ أكثر من عام، شعرَت، مثل الكثيرين منّا – مواطنين ولاجئين ومهاجرين – بالخراب. تتوق إلى الحياة في شارع الحمرا، حياة الصداقة والعشرة المنزلية التي أنشأتها ورفيقاتها بالدم والعرق والدموع.

قَصّت بيزا عليّ قِصة شابة تبلغ النضج في بيروت. لم يكن الأمر متعلّقاً بالكفالة وأهوالها، ولا العيش في عبوديّةٍ منعزلة (بالرغم من تشبّع قصصها بهذه التجارب). روت بيزا قصّة امرأة إثيوبية تشقّ طريقها في العالم. كان الأمر يتعلّق بالإثارة والانهيارات العاطفية في العشرينات من عمرها، والانتقال إلى مراحل مختلفة من البلوغ، ومسألة ما إذا كان يجب إنجاب (المزيد) من الأطفال، وكيفية إصلاح علاقة المرأة بوالدتها، وقبل كلّ شيء، قصّةٌ عن كيف أنّ الصداقات بين النساء هي ملح الحياة وطعمها.

لنصل إلى هذه القصة، لا بدّ أن نبدأ بها من نهايتها.

في العام ٢٠٢١، وبعد عقدٍ في بيروت، عادت بيزا إلى موطنها في هواسا، أثيوبيا، لتضع مولودتها الثانية. كانت قد تركت مولودها الأوّل مع أختها حين سافرت للمرّة الأولى كمراهِقة إلى بيروت، وأرادت تجربة مختلفة لابنتها الثانية. لم تستطع أن تتخيل إنجاب طفلة سمراء في بيروت، ولا أن تتحمّل الحياة في أعقاب العاصفة التي اجتاحت لبنان ابتداءً من العام ٢٠١٩: ثورة وانهيار مالي وانفجار. على الرغم من أنّها سردت العديد من القصص عن العنف العنصري الوحشي، إلّا أنّ هذه الأشياء لم تكسر عزيمتها. كان العنف المعيشي المستمرّ هو الذي يجرّ نحو الحضيض.

روت لي عن أوّل موعد طبي لها في التصوير الصوتي في مستشفى في بيروت، حين أخبرها التقني أنّها حامل: «انتِ منّك جاي لتحبلي، انتِ جاي لتشتغلي». قبل بضعة أشهر، كانت قد واجهت صاحب عملها بشأن زيادة الأجور: ببساطة، ٢٥٠ دولارًا (بالشهر) مقابل ١٢ ساعة عمل يومياً لا تكفي نظراً للأزمة الاقتصادية في لبنان. «قولي الحمدالله أنّك عايشة»، قال، «ابن البلد وما عم يشتغل».«هي الكلمة كسرتني، انكسرت أنا بهي الكلمة»، قالت، «لو عشتي عشرين سنة وطول عمرك عندهن، انتِ بتضلي أنه واحد غريب… انكسرت».[3]  كانت بيزا منفعلة وهي تسرد ​​هذه القصص، مثلما كان حالها حين روت كيف أنّها كعاملة منزلية، وبعد إزالة كيسٍ من صدرها، عادت إلى العمل بعد ساعتين والدم يسيل من ضلوعها.

بعد أن رفض صاحب العمل زيادة أجرها، قرّرت أن تغادر، وأن تنجب طفلة مع شريكها والعودة لتربيتها في هواسا. وصفَت بيزا الاستحالة المطلقة لتربية “أولاد سود” في لبنان. روت قصصاً عن أولياء أمور لبنانيين يطلبون أن يجلس طفل إثيوبي بعيداً عن أطفالهم، وعن أطفال إثيوبيين-لبنانيين يتمّ نقلهم إلى مدارس أخرى، بل وحتّى إرسالهم إلى مدرسة في إثيوبيا لتجنيبهم الرعب. تقول بيزا، “لو هلق أنا بدي بدي فل بتركها وبفل… أنا غصبن عني تقبّلت وتعوّدت وصرت عايشة مع هاد الشي، هي بعدها صغيرة شو بدها تعرف”. لكن لماذا تحبّ بيزا بلداً على هذا القدر من العنف؟ بلد لا يمكنها البتّة أن تربي مولودتها فيه؟ بلد يكرهها؟ «بعدني بحب لبنان». تضيف، “أنا راسي اتغيّر، نفسياً اتغيرت، جسدياً تغيرت… عرفت كتير اشيا… فأنا كتير بحبها، هيك، الناس”.

 «البلد ما بتكرهك بصراحة، بيكرهوك الناس يلي بيعيشو فيها».

والعكس أيضاً صحيح: الأماكن لا تحبّك – الناس يحبّونك. وصفت بيزا الصداقات القليلة التي غيّرت وجهة نظرها حول «الناس البيض» (في إشارة إلى اللبنانيين والعرب الآخرين على الأرجح)، النساء اللواتي عملَت معهن، وتفاعلنَ كصديقات، كأشخاصٍ ينتمون إلى مكان ما، على قدم المساواة. لذا فالأمر استثنائي بقدر ما هو فاضح. نحن نعيش في المدينة ذاتها، ومع ذلك نادراً ما نتعامل مع مجتمعات العمال المهاجرين خارج إطار تقديم الخدمات أو التضامن السياسي. نادراً -وربّما أبداً- ما ننخرط كأصدقاء أو جيران أو غرباء فضوليين مع أناسٍ يمكن أن تنشأ معهم خصومات وحميميات غير متوقعة. هذا بالطبع أمر طبقي وجندري بالإضافة إلى كونه عنصريّاً، لكنّه أمرٌ مخزٍ وغير مبرّر. إنّه جزء من العنف المعيشي اليومي الذي نمارسه جميعاً ضدّ العمّال المهاجرين.

على الرغم من الاختلافات العرقية التي وصفتها بيزا، فإنّ الجالية النسائية الأثيوبية هي التي جعلت من بيروت موطنها. المرأة التي استقبلتها بعد أن هربت من منزل صاحب عملها ووجدت أوّل وظيفة «مستقلّة» لها. النساء السبع اللواتي تقاسمت معهن شقة من ثلاث غرف نوم، طَهَون معاً وتشاجرن وتواسين، وبنين أُسرةً ومنزلًا. قالت “[4] ما حدا بكون جوعان إذا واحد بيشتغل”. لكنّ البيت مفهومٌ شائك. «[5] في قانون عليكي غير… أنا بدفع الاجار البيت بس أنا مني حر اسمع موسيقى متل ما بدي… إذا لا تلفون واحد بجيبولك ١١٢ (الشرطة) عالبيت… اجا ١١٢ انت رحتي على السجن، ما في رحمة، ما فيكي تحكي معه شي”. قالت إنّهن يحمين أنفسهنّ من خلال المراقبة الذاتيّة المستمرّة. “شو ما عملت برّا بعمل بس بالبيت بنتبه كتير”. المنزل هو في الخارج، الساعات القليلة في اليوم التي لا تعمل فيها أو تنام. لحظات الفرح العابرة التي تجعل حياة المرء جديرةً بالتذكّر واحتمال المشقة.[6]  لماذا إذن سيبقى المرء هنا؟

نحن الجميلون، وليس المخيَّم.[2]

في منزلها في هواسا، لا تتابع بيزا الأخبار الإثيوبية البتّة. تستمع فقط للأخبار اللبنانية. إنّها غير قادرةٍ على التواصل مع المجتمع الذي عادت إليه ولا ترى فائدةً تذكر من بناء حياة كاملة هناك. «بضل مع ولد اختي مع بنتي، ابني كلّ النهار بالمدرسة. وعم بعمل علاقة جديدة مع امي… فتحت متل كافيه صغير وعم بشتغل». لكنّها تقول إنّ الأمر صعب.

قالت لي صديقتي فرات مؤخّراً أنّها كلّما انتقلت إلى مدينةٍ جديدةٍ يتطلّب الأمر منها سنتين كي تتصالح مع المدينة السابقة. من أجل إنهاء الأمور العالقة، وفقدان الأمل وقتل الحنين، من أجل بتر آخر الروابط. سألت بيزا إن كان هذا يلقى صدى في نفسها، فقلبَتْ السؤال ببساطة، “انتِ بشو بتحسي؟ انتِ عندك كل شي، بس انتِ بعد اكيد عندك شي (برجعك) عن لبنان صح؟”.

إنّه تقدّم والديّ في العمر، قلت لها. كما كلّ الفلسطينيّين، عرفتُ أنّه يتوجب عليّ الخروج في وقت ما إن كان مقدّراً لي أن أصنع حياة.

قررت أن أبتر ذلك الرابط في العام ٢٠١٨، بعد سلسلة من الخيبات العاطفية والاضطرابات «البيروقراطية». أنجزت المهمة بنجاح (أو ظننت أنّني فعلت) صيف العام ٢٠١٩. بعد انتفاضة المخيّمات، وقبل «الثورة الحقّة». كان سقوط انتفاضة المخيّمات من سرديّة الثورة اللبنانية القشة التي قصمت ظهر البعير، لكنّي سأعود إلى ذلك بعد قليل.

“إنّهم لا يريدوننا. لا يحبون الفلسطينيين”. قلت لها (حتّى لو أنّ كثيرين منهم يحبّون فلسطين. يمتلك لبنان ماركته المسجّلة المشؤومة في معاداة الفلسطينيين، سواءً في المجال العام، أو في المساحات البديلة).

صورة لأحد جدران مخيم نهر البارد من حساب ناستوبيا (Facebook) تصوير: مروى لوباني
غرافيتي: مخيّم نهر البارد، الصورة لمروى لوباني، على صفحة ناستوبيا على فيسبوك

“شفتي؟ انتِ بعدك بدك شي منن”، قالت بيزا. من ناحيةٍ أخرى، هي لا تنتظر منهم اعترافاً بها. “أنا مني لبنانية، أنا إثيوبية. لو شو صار، لو ظلم أو أيّ شي صار أنا رح عيش بهيدا البلد متل ما أنا. ما رح انطر واحد لبناني لحتّى يفكرني متله. هيدا شي أنا حطّيتها براسي عشان هيك يمكن ما حدا بيقدر يأذيني… لإلك صعب بعرف أنّه أهلك بعدن هونيك، حتّى انتِ من جواتك بدك تعيشي مطرح تربيتي”.

بعد بعض المماحكات الدفاعية اعترَفْت. “معك حق. بدي شي منهن. للأسف”.

أريد تصريح عمل. الحق في التملّك. قضاء وقتٍ أقلّ في قاعات ومكاتب الوزارات. توظيف وسائط واستدعاء خدماتٍ أقل. البيروقراطية هي الدائرة العاشرة من الجحيم للاجئين، وهي طبقة من الوجود البشري يجهلها كثيرون (لحسن الحظ). على مدار ٧٤ عاماً، فصّلت الدولة على قياسنا ترسانة من القوانين الإقصائية والممارسات التعسّفية التي تحكم حياتنا. كيف يمكن للمرء أن يبني حياة كريمة من دون أن يكون له الحقّ في العمل أو امتلاك منزل؟

أريد للجدار المحيط بعين الحلوة أن يختفي. لمعاملة المخيّمات كغيتو والتعاطي الأمني معها أن ينتهيا. كنت أريد لنهر البارد ألّا يتدمّر، أن يتصرّف بعض «الرفاق» كما لو كانوا رفاقاً بحق. هذا إلى حدٍّ بعيد هو أكثر المواضيع حرمةً على الفلسطينيين في لبنان. يوماً ما، سنتكلّم حول هذا الأمر. أريد لهذا اليوم أن يأتي اليوم قبل الغد. 

أريد أن تكون احتجاجات عيد العمال التي تجمع اللاجئين والمهاجرين والمواطنين أكثر من مجرد احتفالٍ سنوي للفولكلور التقدمي. أريد إجراء محادثةٍ حقيقية بين غير المواطنين، ربّما حتّى (تجرّأت أن أحلم يوماً ما) إنشاء حركة جامعةٍ لنا. أريد أن تكون دوائرنا أقلّ تلوّثاً، وأقلّ شوفينية، وأقل رهاباً للمثليين، وأقلّ كرهاً للنساء، وأقلّ شلليّة. أريد أن تكون المدينة أقلّ عنفاً ووحشية.

أريد لانتفاضة المخيمات في العام ٢٠١٩ أن تكون مرئيّة. لكي تكون جزءاً من رواية الثورة، مهما كانت هذه الرواية (إذا كان من الممكن محو الاحتجاجات العماليّة الفلسطينية بسهولة، فأيّ أملٍ يمتلكه المهاجرون؟).

قبل ثلاث سنوات بالضبط، كانت المخيمات الفلسطينية في لبنان تغلي باحتجاجات شعبية تطالب بالحق في العمل. اندلعت انتفاضة المخيمات في ١٥ تمّوز (يوليو) ٢٠١٩ واستمرّت لثلاثة أشهر فتزامنت مع بداية ثورة تشرين الأوّل اللبنانية. من الملفت للنظر أنّ معظم التحليلات عن الثورة في لبنان تؤرخ الأحداث ابتداءً من تشرين الأول (أكتوبر)، ممّا أدى إلى طمس الاحتجاجات الجماهيرية في ١٢ مخيّماً فلسطينياً وفي بعض المدن اللبنانية.[3] الملفت للنظر أكثر هو حذف الأسس العمالية والطبقية لثورة المخيّمات عند تحليل الجذور الاقتصادية للثورة اللبنانية.

يمكن للمرء أن يجادل بأنّ الأزمة في المخيّمات كانت بمثابة إنذار مبكر لوصول لبنان بشكل نهائي إلى نقطة الانهيار، لأنّ أولئك القابعين في الأسفل هم الذين يشعرون بالأزمة بشكلٍ أكثر حدة. من بين المجتمعات العديدة الموجودة في القاع – الفقراء اللبنانيون واللاجئون السوريون ومجتمعات العمّال المهاجرين وغيرهم – كان الفلسطينيون أوّل من أطلق شرارة الاحتجاج. وأكثر من ذلك، فإن انتفاضة المخيّمات لم تكن مجرّد إنذارٍ مبكرٍ للأزمة، بل كانت أيضاً الشرارة الأولى للثورة ضدّ الأوضاع المزرية. إنّ غياب هذا عن معظم التحليلات لثورة أكتوبر يقول لنا ما يقوله عن الطبيعة اللبنانية القومية والمواطنية للخطاب الدائر حول هذه الثورة – لكن هذه قصة ليوم آخر.

الكثير من سكان لبنان انسحقوا تحت وطأة الأزمة. لكنّني لست مهتمّةً بالكثرة. أنا مهتمّةٌ بالقلّة. نحن الذين نزلنا إلى الشارع في أكتوبر ٢٠١٩، على الرغم من الشوفينية السائدة، وقلوبنا تقفز من صدورنا حبّاً واعتزازاً. نحن الذين عملنا بجدّ، كلّ صباحٍ قبل النزول إلى الشوارع، لإسكات هذا الصوت في داخلنا. اليقين بعدم الانتماء، وبأنّ كفاحنا لا يهم، وبأنّ مطالبنا لن يتمّ التعبير عنها، وبأنّنا لن نكون من المكان أبداً. يمكننا فقط أن نكون فيه.

لن نكون من المكان أبداً، يمكننا فقط أن نكون فيه. لماذا إذن نحبّ المكان؟ لخّص نصري حجاج الأمر ببلاغة: «لم يكن في المخيّم ما هو جميل غيرنا. نحن الجميلون، وليس المخيّم»[4].

رسم لأمل كعوش: عمل كوميكس عن عين الحلوة والحبق )بموافقة الفنانة(
رسم لأمل كعوش: عمل كوميكس عن عين الحلوة والحبق (بموافقة الفنانة)

المكان ليس جميلاً. نحن نسقط جمالنا على المكان. نحن نسقط عليه حيواتنا – تناقضاتها الحلوة المرّة، الحبّ والضحك والأمان الذي عشناه، الذكريات الأساسية التي نحتت ذواتنا. نحن نجعل المكان جميلاً. نوع من الجمال يفلت من أنظار معظم الناس. جمال منطقة الدورة عصر يوم الأحد. جمال عين الحلوة من شرفتنا عند غروب الشمس. لحظات عابرةٌ من الصفاء والسموّ تعترض سنوات من العنف البنيوي.

في مقالٍ عن انتفاضة المخيمات، كتبت معيدة صياغة أودري لورد، موني مكاوي، “أولئك الذين يعيشون في منزل الأسياد يعرفون عن كثب شبكة القوى التي تحدّد الشروط المادية لحيواتهم اليومية. عند الحدود الفاصلة بين القلق والغبن، يعرف الفلسطينيون أكثر من غيرهم المطالبة بهذه القوى وإعادة تشكيلها”[5].

في حين يعيش الفلسطينيون والسوريون في منزل الأسياد الرمزي، فإن عاملات المنازل المهاجرات هنّ من يسكنّ حرفيّاً في هذا المنزل، وتوفّر تجاربهم نظرةً ثاقبةً عن الشوارع والمكاتب والمنازل على طول جغرافية البلاد. هل اهتممنا بما رأينه؟ هل نظرنا في تلك المرآة لنرى انعكاسنا في أعينهنّ؟ إنّه لأمر مخيف أن نفكّر في مدى قبحنا.

كيف سنرى أنفسنا إذا استمعنا إلى قصص العديد من سكان لبنان – مواطنين، ولاجئين، ومهاجرين، ومكتومي القيد؟ ماذا لو فكّرنا في هذه القصص لا كمرآةٍ أو عدسةٍ لرؤية المجتمع اللبناني، ولكن باعتبارها الخيوط التي تشكّل نسيجه؟ طرحي هذا ليس قراءةً متعدّدة الثقافات للبنان عكس نسيجه القومي. كمّا أنّه ليس انتقالاً من الهامش إلى المركز في محاولة لاستعادة الأصوات التي تمّ محوها من السرد التاريخي.

على العكس من ذلك، إنّها دعوةٌ للتصالح مع ما نحن عليه. للتصالح مع المكان الذي خلقناه بشكل جماعي.

المكان هو نحن. إنّه لا يكرهنا. إنّه ليس جميلاً. إنّه نحن، وفي بعض الأحيان، نحن الجميلون.


[1]  في مقدمتها الافتتاحية لفصل ب.ش.ر في العدد الثالث من المشتق، كتبت سمية قاسم علي أنّ النصوص بدأت بالاستفزاز التأملي، «ماذا سيكون رأيك إن التقينا في بيروت تسمح لنا بمعاملة بعضنا البعض كبشر؟». بالإضافة إلى التوجيهات التحريرية لسمية، فقد أوجدَت المساحة التي دارت فيها هذه المحادثة مع بيزا والتي امتدت عقداً من الزمن. هذا النصّ يسترشد بشكل كبير برؤيتها الشخصية وعملها الأكاديمي.

[2] إعادة صياغة لقصيدة نصري الحجاج أتذكّر، الواردة أدناه.

[3] لمزيد من المعلومات حول الثورة، انظر:

مكاوي، منى. “قرارك وقرارنا”: الضربات الفلسطينية في لبنان والحقوق الحضرية المعاصرة. العمران العربيّ، 14 آب / أغسطس 2020 [إنجليزي] www.araburbanism.com/magazine/your-decision-and-ours

هنا سليمان وإسلام الخطيب. “حراك المخيّمات الفلسطينية في لبنان: محاولة جديدة للخروج من الهامش.” 7iber حبر ، 9 أغسطس 2019 [عربي] حراك المخيّمات الفلسطينية في لبنان: محاولة جديدة للخروج من الهامش – 7 iber | حبر

[4] حجاج ، نصري (1951-2021). “أتذكّر”. لبنان: غير مؤرّخ. نشرت أصلا على صفحة المؤلف الراحل على الفيسبوك https://www.facebook.com/nasri.hajjaj.3

أتذكّر

المخيم ليس جميلاً
لا شيء فيه
يدعو إلى زعزعة الروح سحراً
ولا حتى دوالي العنب
وأشجار التين
والحواكير الصغيرة الفخورة
بالبصل والنعناع
والفجل والمردقوش
والحبق سارق انتباه الأنوف
والشهوات
المخيم لعنة
كنا نعتقد بأنها مؤقتة
لكنها استوطنت أرواحنا
فرحنا نبحث عن الجماليّ في
أزقتها وسقوفها الهشة
غافلين عن الجمال الخفيّ،
لم يكن في المخيم
ما هو جميل
غيرنا
نحن الجميلون
وليس المخيم

– نصري حجاج

[5] مكاوي ، م.