ح.ر.ق

ريجين سحاكيان

كتاب الأحلام

ترجمة: حسين ناصر الدين

صورة لريجين سحاكيان

  في صيف عام ٢٠٢٠، بقي سكان  كاليفورنيا، مثلي أنا، محتجزين في منازلهم بسبب الإغلاق القسري في ظل انتشار الوباء والحرائق الغير بعيدة. تغيّر لون السماء، خلال أيام، إلى لون متوهج، خليط بين البرتقالي ولون الوحل، وقد كنت حزينة، كما الكثيرين غيري، على الخسائر في الأرواح والأرض، ومندهشة من التحولات الفيزيائية الهائلة التي أحدثتها ألسنة اللهب.

شارك كاتب مشهور، يقيم في سان فرانسيسكو، وهو ناشط في مجال التغير المناخي على وسائل التواصل الاجتماعي، قصة عن الحرائق وبغداد. اعتقدت للحظة أن الحديث كان عن العلاقة بين التكلفة البيئية الباهظة لشن الحرب وأثرها على الجثث والأرض، وانعكاساتها على المواقع خارج حدود العراق، لكن القصة لم تكن حول حقول النفط المحترقة في العراق، أو الانبعاثات المتصاعدة من  الآليات العسكرية الثقيلة، أو اقتلاع الأشجار وقطعها، أو تعقيدات الأجيال التي يصعب فهمها بسهولة، بل كانت سردًا عن رجل يعيش في الولايات المتحدة وقد شعر بحاجة إلى الخروج على الرغم من ملوثات الهواء الخطرة في الخارج.

لقد شعر هذا الرجل بالحاجة إلى استنشاق الهواء… وما يحصل يشبه تمامًا ما حصل في أيام الغزو المغولي للعراق عندما احترقت مكتبة بغداد العظيمة. قيل إن الحبر السائل وقتها من الكتب صبغ النهر باللون الأسود، وإن السكان شربوا قدر ما استطاعوا من مياهه ليحافظوا على بعض المعرفة. لكن، متى سنشرب نحن من الماء، أو نتنفس الهواء المنبعث  من كل ما احترق في حروبنا الأخيرة في العراق؟ متى سنحتفظ بأي جزء من المعرفة يتساقط أثقل من الرماد المنبعث من حرائق الغابات في حروبنا العالمية؟

أوقف الشتاء الحرائق في كاليفورنيا وسمح لعمتّي الوحيدة أن تأتي لزيارتي. لقد غادرت عمتي العراق بمرارة، عام ٢٠٠٧ بعد أن عايشت الحرب الإيرانية العراقية في مدينة البصرة الحدودية، ونسّقت الزهور في قذائف صاروخية فارغة وزيّنت بها غرفة جلوسها كما قدمت بفخر نبيذّا صنعته من التين.

وقد ذكرت لي ذات صباح أن جدّي احتفظ بكتاب أحلام. كتاب دوّن فيه تفسير وتسجيلات خاصة به بالخط الأرمني وقد حمله معه من يوزغات.

كان جدّي يبلغ الثالثة عشرة من عمره عندما عاد إلى المنزل ليجد أفراد أسرته مقتولين جميعًا، فغادر تركيا سيرًا على الأقدام. وصل أولاً إلى بيروت وبعد فترة وجيزة انتقل إلى بغداد ليقيم في مخيّم للأرمن والآشوريين الناجين. تزوج بعدها، وأنجب أطفالًا، وظلّ يعود من وقت إلى آخر إلى بيروت لتلقي العلاج في مشفىً أقيم أيضًا للناجين، وقد ظل على هذه الحال مدّة  خمسة عشر عامًا، قبل أن أولد في نفس المشفى. التُقطت إحدى هاتين الصورتين اللتين أملكهما له في حديقة المشفى.

أرتني عمتي الصورتين في نفس اليوم الذي أخبرتني فيه عن الكتاب، وعن عناء السفر الذي كانوا يتكبدونه لزيارته، من بغداد، إلى بيروت، وعن الرسائل التي كان يكتبها لهم. رأيت عينيه للمرة الأولى وشعرت في داخلي برهبة. وجهه القاسي وسترته المبطنة الناعمة.

حاولت خلال الفترة القصيرة التي عشتها في بيروت، العثور على ذلك المستشفى. قيل لي أن جدي دفن في مقبرة مجاورة لموقع المستشفى القديم، فطلبت من صديقي الذي شجعني على كتابة هذه القطعة مساعدتي في التنقل في الموقع. لكن جهود بحثنا باءت بالفشل، إذ علمت لاحقًا أني أعطيت اسم المستشفى الخطأ.

لعلّي أجد يومًا المكان الصحيح. ربما سأجده هناك، أو ربما ستكون الرحلة غير مجدية، مثل الثوب الذي ارتديته في رحلتي هذه، فستان أبيض التصق بجسدي جرّاء رطوبة صيف بيروت المزدحم… اختيار أحمق للملابس، تمامًا مثل الرحلة.

ما الذي كنت أفكر به؟ أن أقيم جنازة مرتجلة لرجل لم أعرفه من قبل؟ هل أشار صديقي إلى اسمه، ساحاك، بلغة لم أفهمها؟ وتاريخ عائلي حرم أولاده، مسبقًا، أن يجتمعوا معًا للأبد؟

بعد مائة عام من فرار ساحاك من يوزغات، أشعل حفيده، ابن عمي، بالتعاون مع رجال آخرين حريقًا في سجن تركي كان يُحتجز فيه مهاجرون وفرّوا من المكان.

على عكس ساحاك، لم يكن ابن عمي وحيدًا في ترحاله، فقد هرب من بغداد مع زوجته وابنتيه الصغيرتين ماريا وناتاليا، وهو يحمل ابنه الأصغر على كتفيه في رحلة عكسية الاتجاه، من بغداد إلى يوزغات. وفي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، في ظلّ المعاملة  الوحشية في العراق، كانوا هم أيضًا يسيرون على الأقدام عبر تركيا، في محاولة للهروب من ظلم ضباط الدولة.

وبعد أيام من الانهيارات والنوم خلف الصخور، والتحاقهم بمهاجرين آخرين على طول الطريق، تم إلقاء القبض عليهم، ففُصلت النساء عن الرجال. وزجّ بهم في السجون التي أطلق عليها اسم المخيمات. احتجزوا الرجال أربعة عشر يومًا ثم أضرموا النار في المكان. ركضت  ناتاليا، التي كانت بالكاد في أولى سنوات المراهقة في ذلك الوقت، بسرعة نحو والدها عبر ألسنة اللهب.

صارت ناتاليا اليوم امرأة شابة، وهي تعيد سرد الحادثة كذكرى من ذكريات الطفولة. تقول إنها سعيدة، وتحب تورنتو. لقد كوّنت صداقات حميمة. وأنا أكنّ لها الكثير من الحبّ. أريد أن أعانقها وأن أغلق عينيّ على كل تلك السنين. أتساءل إن كانت قد تعثرت بنفس الصخور التي تعثر بها ساحاك. وأتساءل عما كتبه في كتاب الأحلام ذاك، وإذا كانت تفسيراته تتماشى مع الأوصاف الموجودة بالداخل.

أتساءل ما الذي يحويه كتاب جدّي في طياته، وهل هو مثله، يرقد الآن في بيروت، في شقة إحدى حفيداته (واحدة من بنات عمومي) التي تنتظر هنا، مع عائلات أخرى، للسنة الرابعة على التوالي منذ مغادرتهم بغداد، ليس طلبًا للعلاج في بيروت كما فعل جدّي، ولكن للحصول على أوراق قد تصل أو لا تصل.

هل علم بما سيجري؟ هل رآه؟ هل قتلته الرؤى في ذلك المستشفى؟ أم أنّ الأمر كان أكثر بساطة. جسد أنهكه كل ما شهده، ولازمه المرض طوال حياته، حتى فارق الحياة.

لم أر غير الصورة التي ذكرتها سابقًا سوى صورة واحدة أخرى له، مأخوذة من مسافة بعيدة. كان يجلس القرفصاء على تلة منخفضة، بينما يتمدد حيوان قرب قدميه.

هل كان سيؤلمه أن يرى ما حل بأولاده وأولادهم؟ أم أنه سيشعر بالارتياح لعلمه أنهم غادروا؟ هل أحب تلك المدينة كما أحبّها أولاده؟ تلك المدينة التي مات له فيها ولدان رفضا مغادرتها. هل كشفت له أحلامه يوماً أن بغداد ستهتزّ بالنار مراراً وتكراراً في نوبات من التدمير صنعها الإنسان؟ تدمير يعادل سنوات من البراكين المتواصلة.

كانت التلال تهتز تحت قدمي وأنا أجري عندما كنت في الثالثة عشر. كان ذلك  قبل ولادة ناتاليا بوقت طويل، كنت قد وصلت إلى وجهتي، أميركا، منذ فترة طويلة. وكنت، في شتاء سنة ٩١، أنعم بدفء البطانيات وبأوراق الثبوتية القانونية، وقد حلمت حينها بأضواء تتدفق من سماء خضراء. قصصتُ رؤياي على صديقتي المقربة في اليوم التالي، وبعد أيام قليلة بدأت حرب الخليج. رأيت على شاشة التلفاز نفس تلك الأضواء المتدفقة، والسماء الخضراء نفسها.هرعت صديقتي إليّ في المدرسة، وأخبرتني بحماس أنني يجب أن أكون عرّافة. أمضيت الشهر التالي أشاهد الأضواء الخضراء مرارًا وتكرارًا، كانت الأخبار تحدد أماكن تدفقها بالخرائط، وصار وجه صدام يطبع على شرائط المبيعات الصفراء ولفائف ورق الحمّام. كنت أعلم أنهم يروننا جميعنا مثله.

ذهبت برفقة والدتي إلى بغداد بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الأولى. كنت وأبناء عمومتي نستلقي في الظلام قبل ان ننام، وكنا نتشارك الغرفة سوية، جميع أحفاد ساحاك. همسوا لي يخبرونني عن الليالي التي هزت منازلهم، والانفجارات المتساقطة من السماء. ظنوا أن العالم كله ينهار. لم توقف الأرض اهتزازها أبدًا.

بعد عقد من تلك الليالي، بدأ الغزو الثاني، فلم يعد هناك سرير نستلقي عليه ولم يعد هناك منزل أو أي مكان في الوطن نعود إليه. صار  الوطن كندا أو ألمانيا ونيوزيلندا والسويد. أصبح  شاشة تبث التجمعات، والولادات، وفي كثير من الأحيان ، وفاة شخص ما، بالكاد نتذكره .

كتاب الأحلام مكتوب بلغة لا أستطيع قراءتها. قبل عدة ليال من كتابة هذا النص، حلمت بالجبال والثلج، وأنني وأنا أمشي فوق القمم، صادفت جثة كبيرة لحيوان غريب أمامي. وعندما نظرت عن كثب ، رأيت أنها  لم تكن  الجثة الوحيدة. كانت الجثث  في كل مكان حولي وقد جُمع شعرها وبشرتها وحوافرها الداكنة في حزم متجمدة. رأيت  صديقتي أيضًا، نفس صديقة الطفولة التي أخبرتني قبل ثلاثة عقود أنني يجب أن أكون عرّافة. رأيت الثلج يتساقط ، وأنها تقول لي أننا سنكون على ما يرام، لكننا يجب أن نعود إلى المنزل. واني كنت أعلم أنها كانت مخطئة، وأنها أتت من مكان مختلف. نظرت عبر الليل وأسفل المنحدر العميق، فرأيت  فرو حيوان ضخم، بحجم الجاموس، نصفه مدفون في الجليد المتوهج في عتمة الليل، كان يرقد بلا حراك على بعد أقدام قليلة مني. كأنه كان بحثًا بلا نهاية.  في الأعلى، في السماء، على بعد أميال من الأرض كنا مغمورين بالثلج الرطب، كنا نحترق.

***

يقال إن العراق دولة مبنية فوق محيط من النفط. جفت البحار الضحلة والمخلوقات التي كانت تطفو بداخلها، ودُفنت هناك ثمّ ظهرت على مدى ملايين السنين في السائل الذي سيتحكم  بالمستقبل في نهاية المطاف. حولتها  حرارة الأرض المرتفعة إلى موارد طبيعية، بعد ملايين السنين، أصبحت الكائنات الحية على تلك الأرض أيضًا موردًا لما يسمى التقدم. إن التضحية بالحياة العراقية، التي تم عرضها على الشاشات في جميع أنحاء العالم في عام 1991 وأطلقت عليها الجيوش التي شنّتها  اسم حرب الفضاء الأولى، ستُستخدم لتسجيل جلسات المحاكمة، ولفرض التكنولوجيا التي تتحكم في هذا العصر بالحركة العالمية للمعاملات والتبادل، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) ، الحروب على الإرهاب ،المعلومات المضللة، وتراكم الثروة الناتج عن محاولة إبادة الناس والتجربة البشرية على حدٍ سواء.

يقال إنك إن رميت حجرًا في أغنى آبار النفط في العراق، يمكنك أن ترى الدخان يتصاعد.  يتسرب السائل اللزج، من وقت لآخر، من طبقات الأرض المسامية، مكونًا بركًا سوداء وينابيع على سطحه. ظلّت الآبار تحترق، في ظل الاحتلال، عند دخول قوات التحالف الأمريكي حتى مجيء داعش،  وظل الغاز يلتهب، ويتسرب النفط إلى المنازل، وإلى حناجر الأحياء والأجيال التي لم تولد بعد… ومع ذلك ، هناك طرق أخرى لتوليد الحرارة وعواقبها تعيد تشكيل الحياة.

يكتب إلينا الفنان سجاد عباس من بغداد حيث شهد احتراق السيارات والأجساد والفرص.  يوثق عمله المقاومة المستمرة للطمع واللامبالاة التي تقف وراء الجشع المسبب لحرق بغداد.

استشهد الناشط والشاعر صفاء السراي في بدايات الانتفاضة العراقية الشعبية عام ٢٠١٩، إثر تصويب عبوة غاز مسيل للدموع على رأسه مباشرة.

يواصل الروائي والشاعر والاستاذ غزير الإنتاج سنان أنطون عمله في إلقاء الضوء على شعراء العراق كشكل آخر من أشكال المقاومة في ترجمته للعديد من أعمال الراحل صفاء السراي. يقوم  أنطون بهذا العمل من أجلنا نحن فقط،  لمن عرفه منا كرمز، كواحد من بين كثيرين لن تتاح لهم الفرصة أبدًا لمشاركة كلماتهم مع عالم تم اجتزازهم منه.

في رؤىً واسعة ومؤثرة، وعناية بأدق تفاصيل المشاهد الشخصية والمادية، تأخذ الفنانة جنان العاني التكاثف العنيف للإعلام في العراق وتعكس مساراته عبر تجارب دلالية، في تأثيره على الأرض والحياة. تستحضر صورها، والبحث الطويل الذي يغذيها، التاريخ وبصماته الجسدية، بتوجه واثق ومحب يطرحه استفزاز آسر. 

أمضت الفنانة ريم القاضي سنوات عدة  في عملها البحثي ” حقل مجنون ” ، أحد أكبر حقول النفط المعروفة ، والذي سمي “مجنون” لغزارة إنتاجه.في جنوب العراق ، تلجأ  القاضي إلى استخدام  أسلوب تحويلي حميمي للفهرسة لبناء روايات بديلة عن طبيعة غزارته وسبب تسميته. في تجربة للصورة واللغة، تأخذ من أكثر الوجود ثباتًا في هذا المجال، الشعلة، لتكشف عن موقع ينتج أكثر بكثير من مجرد بدائية مذهلة. تُبرز ريم، في تجربة ترتكز على الصورة واللغة، أكثر سبب لاستمرارية وجوده، الشعلة، للكشف عن موقع ينتج أكثر بكثير من النفط الخام الهائل..

قدم عالم الأنثروبولوجيا الطبية والموسيقي الدكتور عمر ديواشي بحثًا شاملاً وأصليًا حول الآثار المعقدة والواسعة النطاق لحروب العراق على جسم الإنسان وعلاقتها بأنظمة الرعاية الطبية التي تهدف إلى معالجتها. بدءًا من الجرح البسيط  وصولًا إلى الهجرة العميقة، يركز عمل ديواشي  على المواد الأكثر هشاشة والأكثر أهمية في الحرب، ألا وهي لحمنا.

في هذا السياق، يتخذ المساهمون في العمل ثبات اللهب والرغبة في الاحتراق، وما تحتّمه علينا، والتركيبات الجديدة التي تتركها وراءها. في ما يخص العراق، يعيد كل فرد تشكيل هذه القوة، في السياق الثابت للاستخراج من خلال النار ومقاومتها المقابلة في الشكل المادي والمكتوب والمتخيل.