غود قرر الرحيل

سجاد عباس

العمل الفني: سجاد عباس, "بلا عنوان", رسمة, ٢٠٢٢

إنّه يوم الوداع، حزمت حقيبتي ووضعت فيها الهدية التي أعطتني إيّاها سجى، زوجتي، كانت نسخة من رسمٍ لي مثبت على لوحة. مخلوقٌ نصفه جاموس ماء ونصفه الآخر إنسان. أسميته “غود”، لم يكن خيّراً ولا إلهاً… كان كبيراً بحيث قطعت أجزاءً منه ليتّسع في الحقيبة. ودّعت الجميع، لكن الأصعب كان وداع طفلتي التي لم يتجاوز عمرها سنة واحدة، والتي بالكاد بدأت بلفظ كلمة بابا.

كانت مرارة الوداع مؤلمة وموجعة وما تزال حرقتها ترافقني إلى يومنا هذا. أتذكر كيف بكيت عندما حضنتها. بكيت كثيراً ولم أستطع تركها، كلّما حاولت إبعادها عني أنهار من البكاء. خرجت من غرفتي التي كانت في الطابق الأوّل في بيت عائلتي وجلست على السلم. أجبرتني سجى على استجماع قوّتي، حضنتها بقوّة وذهبت، مسرعاً أثناء نزولي السلم كان أبي ينتظرني في الأسفل مكسور القلب، واضعاً يده على حافة الباب. كان يرتدي دشداشة لونها نيليٌّ غامق. ودّعته، بينما كان يخفي مشاعره خلف قناع خلقته الحياة له لجعله أقوى في مواجهتها. عانقت جسمه الكهل وشعرت بروحه النقية.

أخذت سيارة أجرة وتوجّهت الى المستشفى لأودّع أمّي التي كانت ترعى زوجة أخي التي أنجبت للتو. كانت مشاعرها مزيجاً من الحزن والفرح، أخفت عني الحزن تحت عباءتها. بعد هجرة أخي الأكبر إلى ميامي، حان عليّ الدور لكي أسافر بعيداً من أجل صنع حياةٍ كفنان.

أنا أصغر أفراد عائلتي المكوّنة من عشرة أطفال. كان والداي يواجهان صعوبة في تذكر الأسماء مع تقدّمهما بالعمر. كانوا كلّما أرادوا المناداة على أحدٍ منا يأخذون وقتاً ليتذكروا أسماءنا. دائماً ما كانت أمّي تقول لي: “اصنع فنّك هنا. لدينا جامعات ومدارس ولديك عائلتك وباستطاعتنا رؤيتك في أيّ وقت، لم أفكّر بكلامها، بل كنت أفكر كيف يمكنني أن أشرح لها عن الفن وتطوّره أو عن الحياة المتهالكة هنا. بدأ الوقت ينفذ، لم تخرج أمّي معي لتودّعني، باركتُ لشقيقي بمولوده الجديد وذهبت مسرعاً.

كانت الشمس قد بدأت بالانطفاء، خلف أشجار النخيل والبنايات رمادية اللون المتسخة بالأتربة. شعرت بالبرودة وبحرقةٍ في عينيّ من كثرة البكاء. كان الهدوء يسود الجو. كلّ ما كنت أسمعه هو صوت الهواء الذي يتسلّل من نافذة السيارة، وكلّ تفكيري منصبٌ على الطفلة التي تركتها خلفي والزوجة التي تتطلّع إليّ. بعد تفتيشٍ دقيقٍ ركبت الطائرة المتوجّهة إلى قطر ومن بعدها إلى مطار شارل ديغول.       

“اللجوء تجربة خطيرة قادرة على تمزيقك إرباً وتحويل أجزائك إلى غود؟”                      

إنّه الشهر الثالث لي هنا في مدينة ليون، بعيداً عن العالم الذي جئت منه. وضعت سماعات الأذن ولبست جاكيت أسود اشتريته لتحمّل البرد، بعد أن ادّخرت طوال ثلاثة أشهر من الراتب الذي تعطيني إيّاه الحكومة الفرنسيّة، والذي بالكاد يغطي مصاريف الطعام.

مشيت في أنحاء ليون كلّها من دون وجهةٍ محدّدة، وكنت أستمع لأذانٍ كان يبثّ يوميّاً على القناة العراقية الرسمية، ومن ثم إلى شارة بداية مسلسل الرسوم المتحرّكة “سندباد”. فجأةً شعرت بأنّ هناك شخص فوق كتفي، عبارة عن كتلةٍ سوداءٍ مخيفة يحاول السيطرة عليّ، ويحاول السيطرة على جسمي، ويحاول السيطرة على مشاعري. كنت خائفاً وحزيناً وبدأت الألوان تبهت من حولي. وضعت يدي في جيبي وأخرجت هاتفي. كانت الساعة 12 ليلاً، شاهدت الباص الأخير يغادر. اتصلت بصديقي ليث الذي كان يسكن بالقرب مني، وسألته ما إذا كان يوافق على مبيتي في شقّته التي لا تتحمل سوى شخص واحد، وبالفعل وافق، اتّجهت إليه بعد أن كنت قد مشيت 14 كيلومتراً من دون توقف.

كانت ابنتي تتخيّل أنّني أعيش في شاشة الحاسوب. في كلّ اتصالٍ مع العائلة، يتملكني الشعور بالعجز وانعدام القدرة على التعبير عن مشاعري. لم أقدر على سماع بكائها، لأنّني كنت أعرف أنّني غير قادر على المساعدة، وأنّني لن أكون أبداً قادراً على مواساتها. كنت مجبراً على إنهاء سنوات اللجوء، لكنّني لم أقدر أبداً على تقبّل حرماني من رائحة ابنتي، والقدرة على معانقة حبيبتي. كم هو مؤلم ألّا تكون قادراً فعل ذلك، وكم هو مؤلم أن تشاهد أطفالاً يخرجون ليلعبوا في متنزهاتٍ مثاليّة وابنتك محرومةٌ من ذلك، وكم هو مؤلم أن تشاهد الأطفال يخرجون من المدارس المهيئة بكلّ أسباب الراحة وأنت تفكر في مستقبلها هناك.

كم هو مؤلمٌ أن تحزن على نفسك، وأن تشعر بأنّ الحنين يستنزفك إلى الأرض المنبسطة والشمس الحارقة.

في ديرٍ للقساوسة كان آخر محطة لي في فرنسا، وفي التنقل من مسكنٍ إلى آخر من برنامج إيواء اللاجئين التابع للكنيسة، أخذت حقيبةً من أحد الأصدقاء بعد اهتراء حقيبتي، هذه الحقيبة كانت أصغر، مع ذلك وضعت جميع أغراضي، لكن بقي الشعار الذي أهدتني إيّاه سجى “غود” والذي لم يسع في الحقيبة. ذهبت إلى القبو الخاص بالدير وقطعت منه مرّة ثانية ليساع في الحقيبة، هل من الممكن اجتزاء تفاصيل منك لتتسع في حقيبة السفر؟

انتقلت من مسكنٍ إلى آخر مع برنامج إيواء اللاجئين التابع للكنيسة. في ديرٍ للقساوسة كان المحطة الأخيرة لي في فرنسا، أخذت حقيبة من أحد الأصدقاء بعد اهتراء حقيبتي. كانت الحقيبة الجديدة أصغر، لكنّني نجحت بوضع جميع أغراضي فيها، باستثناء “غود”. عندها، ذهبت إلى قبو الدير، وقطعت هدية سجى إلى قطع أصغر.

“أيّاً كان ما سيختاره غود في النهاية، في خضم هذه التساؤلات، يحترق ويحترق كلّ شي معه”

التجربة التي مررت بها غيّرتني تماماً لم أعد أشبه نفسي كأنّني تشظيت، أو كأنّني سافرت عبر ثقب زمني لأجد أن كلّ شيء ما زال على حاله من عداي. لقد كبرت كثيراً صرت كهلاً بالرغم من جسمي الشاب إلّا أنّ روحي قد اهترأت، فقدت الإحساس بالمكان لم أعد هناك ولم أعد هنا.

كنت أشاهد الدخان يتصاعد في سماء بغداد، هناك مظاهرات، والطرق مغلقة، وأريقت الكثير من الدماء. كانت هذه أولى المظاهرات التي أشارك بها، تملّكني شعورٌ غريبٌ وجميلٌ جدّاً، كمّ الحريّة التي شعرت بها يومها لم أشعر به في حياتي، كأنّ حياتي اختصرت بلحظة واحدة ضمّت كلّ شيء: الفرح والحزن، الموت والحياة، الفن والدمار. كنت أهتف حينها متّجهاً للخطوط الأمامية في المظاهرة بعد أن تعبت من إطفاء القنابل الدخانيّة المتّجهة إلى ساحة التحرير. وبعد أن هربت بأعجوبةٍ من قنبلةٍ كانت متّجهةً نحوي، وجدت نفسي في منتصف الجسر. مرّت قنبلةٌ تحت قدمي وعبرت أخرى عالياً وسقطت على رأس مراهقٍ مات في لحظتها. هربت إلى حافة الجسر وسلّمت على صديقٍ لي كان يطفئ القنابل الدخانية. كان يضع على وجهه وشاحاً لكنّني عرفته من شعره الكثيف. جرى كلّ شيء بسرعة.

استشهد صفاء السراي. كنت وقتها في العمل وشاهدت المنشورات على منصّات التواصل الاجتماعي، بكيت كثيراً بالرغم من أنّني لم أعرفه إلّا من خلال شعره ونشاطه السياسي. بكيت على أحلامنا التي تضيع، وعلى هذا العمر الذي يهدر. كتبت منشوراً بعد مدة على بدء المظاهرات أدعوا فيه الفنانين للمشاركة بأعمالٍ فنّيّةٍ في ساحة التظاهر. قمت بتنفيذ أوّل عمل لوجه صفاء السراي في أمكنةٍ عديدة في ساحة التظاهر. وفي اليوم التالي بدأ كلّ الشباب بالمشاركة برسومات في كلّ مكان، ومن ثمّ انتقلت العدوى إلى كلّ ساحات التظاهر في وسط وجنوب العراق.                                

“غود جالسٌ على كرسيّه يتأمّل الفراغ والنار تلتهم جسده من دون أن يعيرها أيّ اهتمام”

لا توجد هناك خطط للمستقبل. نعيش يوماً بيوم، من أجل الساعات القليلة التي لا نستطيع استيعابها، لكن حتّى هذه الساعات لا يمكننا الوثوق بها. نأخذ فقط ما تقدّمه لنا الحياة ونكون ممتنّين لذلك، ليس هنالك وقت لنعترض.توقظك معزوفة العراق كلّ صباح، تنسلّ إلى رأسك وتجبرك على الرقص على أنغامها كمجنون. تمسك برأسك وتضربه بالإسفلت لتخرجها منه، وتكرّر فعل ذلك. توقظك معزوفة العراق كلّ صباح، تنسلّ إلى رأسك وتجبرك على الرقص على أنغامها كمجنون. تضرب رأسك بالإسفلت لتخرجها منه، ثم تكرّر ذلك من جديد… إنّها فوضى عارمة.