على خط النار يا ابن أمي

عمر الديوه چي

صورة لعمر الديوه جي: جسر الجمهورية، بغداد، خلال الاحتجاجات الشعبية ٢٠١٩

ما لا يشفيه الدواء تشفيه السكين . مالا تشفيه السكين يشفيه الكَي، وما لا يشفى بالكَي فهو غير قابل للعلاج.

_ أبقراط

 تلقينا اتصالًا من العيادة الخارجية لإبلاغنا بإدخال مريضٍ إلى قسم الجراحة.

“حالة حرق” قال المتّصل ملخّصاً الحالة، وتابع: “نجوى عبد الهادي، أنثى، في أوائل الثلاثينيات من عمرها، تمّ نقلها من مستشفى محلي مصابة بحروق تغطّي قرابة ٩٠٪ من جسدها إثر انفجار دبة غاز في منزلها”.

هرعنا، أنا ومحمد،  المقيمان الدوريان في الطابق، إلى الجانب الآخر من الجناح نحو مصاعد الخدمة وانتظرنا بفارغ الصبر والتوتر استقبال الحالة الجديدة. لم يكن قد مرّ أكثر من بضعة أيام منذ أن بدأنا، كلانا، بالمناوبة في قسم الجراحة في الطابق الثاني من مستشفى بغداد التعليمي، وهو أكبر مستشفى إحالة ومجمع طبي في العراق. أنهينا دراستنا الطبية قبل شهر واحد من الحادثة، في شهر أيّار 1997، وكانت هذه أوّل مهمة لنا كأطباء “حقيقيين”. لكن على عكس محمد الذي درس في كلية طب أخرى، كنت قد أمضيت السنوات الست الماضية من تدريبي في هذا المجمع الطبي التعليمي، ومع ذلك، كان هذا مضماراً جديداً بالنسبة لي، إذ لم أعد طالبا. كانت هذه ليلتي الأولى كـ”طبيب مناوب”، فشعرت ببعض القلق.

اعتاد الكثيرون منّا، من عايشوا حرب الخليج الأولى، مشهد الجثث المحترقة، حيث بات “الحرق” صورة شبيهة لتلك الحرب. أحد هذه الصور الشبيهة كان لجثّة الجندي العراقي المتفحمة، فيما عُرف بمجزرة “طريق الموت ” – حيث تعرّضت قوافل تقلّ آلاف الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت للهجوم من قبل الجيش الأمريكي بأسلحة اليورانيوم المخصب (DU).

صُمّم سلاح اليورانيوم المخصّب، وهو سلاح تمّ تطويره في الولايات المتحدة خلال حقبة الحرب الباردة، وتمّت تجربته لأوّل مرّة في ساحات القتال خلال حرب العراق، ليستعمل لحرق وإذابة الأسطح المعدنية السميكة للدبّابات والعربات المدرّعة المحصنة.

تمّ تصنيع رؤوس المدفعية من اليورانيوم المخصّب وطوّر لحرق سبائك الاليات السميكة من الداخل والخارج عند الاصطدام بها. صورةٌ أخرى من صور تلك الحرب، والتي شاهدتها بنفسي، كانت لبقايا هياكل عظمية متفحمة على الجدران الخرسانية داخل ملجأ العامرية الشهير، حيث قُتل ٤٠٨ شخص بعد قصف الملجأ باستخدام “القنابل الذكية”.

أطلق الطيارون الأمريكيون لقب “المطرقة” على هذه القنابل، وذلك لقدراتها التدميرية واسعة النطاق ولقوّة انفجارها. زرت ملجأ العامرية سنة ١٩٩١ بعد توقّف عملية القصف، وأذكر أنّني ترحمت على نعمة الموت السريع لضحايا الملجأ، حتى لا يتحملوا آثار النجاة من هذه المحنة الوحشية.

علاقة الطب باللحم المحروق علاقةٌ متعدّدة الأوجه. فالحرق هو علم من علوم الأمراض وتقنية شفاء في آن معا. يهتمّ الأطباء بجروح الحروق وقد طوّروا تخصّصات حول علاجاتها. من ناحية أخرى فإن استخدام الكي، كتقنية علاجية، هو أسلوبٌ قديمٌ يعود تاريخه إلى الإغريق ويستخدم على نطاق واسع في تقاليد العلاج المحليّة مثل الطب الغالينيكي والعربي، وكذلك في الجراحة الحديثة، إذ يتمّ استخدام تيارات كهربائية عالية تصعق بانتظام الأوعية الدموية أثناء العمليات للسيطرة على النزيف وإيقافه. كما تُستخدم تقنيات الكيّ الحراري أيضاً في علاج السرطان، جنباً إلى جنب مع العلاج الإشعاعي الذي يُطلق على الأنسجة لقتل الخلايا السرطانية والسماح للخلايا وللأعضاء بتجديد نفسها. يمكن للأطباء حالياً إدخال قسطرة رفيعة جداً عبر نظام الأوعية الدموية في الجسم، وتوجيهها إلى موقع الأورام الخبيثة الموضعية. بعد ذلك، يطلق أخصائي الأشعة كرات نانوية صغيرة عبر الأوعية الدقيقة “لحرق” الأنسجة السرطانية الموضعية بأقصى درجات الدقة. وقد وصف لي أحد أطباء العملية بأنّها أشبه بوضع “قنبلة نووية” صغيرة على الأنسجة المصابة.

يحتاج ضحايا الحروق إلى رعاية خاصة، فالجلد هو أكبر عضو في الجسم. وهو المسؤول عن تنظيم درجة حرارة الجسم وحمايته من العوامل الخارجية مثل المواد الكيميائية والبكتيريا. فالحرق مثل الجرح ، هو انفتاح محفوف بالمخاطر على العالم الخارجي. يتعرّض ضحايا الحروق الشديدة لخطر الإصابة بالجفاف، حيث يبدأ الجسم في فقدان المزيد من السوائل التي ترشح من خلال الجلد المصاب.

قد تنتقل العدوى عندما يصبح الجسم مكشوفاً. تمّ تصميم وحدات الحروق بأعلى المعايير الصحية للحفاظ على بيئة واقية، وتزويد المريض بالسوائل الوريدية، وتطبيق تقنيات مختلفةٍ للعناية بالحروق للحفاظ على نظافة الأجزاء المصابة.

يمكن أن تتحوّل الحروق الشديدة إلى ندوب وتقلصات، ويؤدّي قصور الجلد والعضلات إلى تشوّهات وتصلّب في حركة المفاصل، لذا يختار الأطباء زرع العضلات والجلد من أجزاء أخرى من الجسم لتسهيل استعادة القدرة الوظيفية والجمالية للجسد.

كان يوماً حاراً على غير المعتاد في حزيران. كنّا ما نزال على بعد أسابيع من أكثر شهور السنة حرارةً في العراق، والذي يسميه سكان بغداد ب آب اللهاب، حيث تصل درجات الحرارة إلى ٥٠ درجة مئوية احيانا. ومع اشتداد شمس الظهيرة يصبح الطابق خانقاً بشدّة في غياب التهوية والتبريد . وقد تمّ إيقاف نظام التكييف منذ ما يقارب السبع سنوات، إذ كان التكييف أحد ضحايا “عاصفة الصحراء” الأمريكية في العام ١٩٩١ وما تبعها من عقوبات الحصار.

يسعى المرضى ومن يرافقهم وطاقم المستشفى جاهدين للحصول على نسمة هواء من نوافذ الطابق المفتوحة لكن من دون جدوى. أحضرت عائلة أبو علي في الغرفة رقم ٥ “بنكه”، مروحة كهربائية خاصة بهم، بينما حوّلت شقيقة سعاد في الغرفة رقم ٧ ملفّات المستشفى إلى مروحة يدوية. لطالما شعرت في مثل هذه الأيام، أنّني أريد أن أخلع ثوبي الطبي وأقوم بجولاتي من دونه. وأنّي سألجأ في فترة الاستراحة إلى الابتكار العراقي، تماشياً مع انعدام الموارد في ظل العقوبات، وأن أشتري كمية ضخمة من الثلج، لأفراغها في خزانات المياه الموجودة على سطح المستشفى، وأغطس فيها لساعات، مستذكراً نكتة رائجة تقول: “بحرارة مثل هذه لا عجب أنّ العراقيين لا يخشون نار جهنم!”.

فُتح الباب، فرأيت فرحان، العامل الذي يشغل المصعد المهترئ بالمستشفى يدويّا، يحاول بمساعدة ممرّض الطوارئ عدنان تحريك “السدية”، نقالة المرضى، من باب المصعد من دون الاصطدام بجانبيه. كان الممرّضون في غرفة الطوارئ قد حولوا الشرشف الى خيمةً فوق جسدها لحماية جلدها المتضرر. بدى الشرشف بلونه الأبيض الباهت وبقعه الصفراء غير نظيفا على الرغم من أنّ رائحة مسحوق الغسيل الرخيص المستعمل لا تزال تفوح منه، كان من الواضح أنّ مدّة صلاحية هذه الملاءة قد انتهت.

لم تكن المستشفى تحتوي على وحدة حروق متخصصة، فهذه الوحدات حسّاسةٌ للغاية لناحية تشغيلها وصيانتها. وبالنظر إلى ما آلت إليه حالة الرعاية الصحية في العراق، أصبح المستشفى بأكمله بيئة تنطوي على مخاطر كبيرة للمرضى. صارت معظم معدّات الحجر الصحي والتعقيم والتطهير غير فعالة أو توقّفت عن العمل. كان الأطباء يعيدون استخدام القفازات والإبر أُحادية الاستعمال ولم يكن لدينا مياه نظيفة ولا مطهرات كافية. وكبديل عن غياب قسم مخصّصٍ للحروق، اختار طبيب الدخول عزل نجوى في طابقنا “العادي”. في وقت كانت كلّ غرفةٍ في الطابق تستوعب ٦ مرضى في العادة، كانت نجوى “محظوظةً” لعزلها في غرفة بمفردها.

استغرقني الأمر بعض الوقت للتكيّف مع مشهد الجسد المحروق من الرأس إلى أخمص القدمين، تم كشط طبقة من بشرة نجوى السمراء، تاركة غلفها بقع حمراء وسوداء من الجلد المحترق بلون الرمان المتعفّن. كان يصعب التعرّف على وجهها لشدّة تشوّهه. التهمت النيران معظم شعرها، بما في ذلك شعر الحاجبين.

حاولنا أنا ومحمد عبثاً على مدى أسبوعين التعامل مع حروق نجوى وتخفيف آلامها. نادراً ما تحدّثت نجوى إلينا، كانت قلقة ومعذّبة طوال الوقت، وفي حالة مستمرّة من الشكوى والصراخ من شدّة الألم والغضب، وكانت أحياناً تعبّر عن نفسها من خلال كلمات غير متماسكة ولا مفهومة. وكآنها تحاول إخبارنا قصة لم يفهمها أحدٌ منا، أو ربّما لم يكن أحد منّا مهتماً بالاستماع اليها. كنا مهتمين بشكل أساسي بإبقائها حيّة ومخدّرة وبإبقاء جلدها رطبا ونظيفا.

تناوبنا أنا ومحمد على العناية بجسدها يومياً وغسله بالماء والصابون، وتغيير الضمادات، واستبدال الخط الوريدي حالما تظهر عوارض الالتهاب على الجلد المحيط بالإبرة. استخدمنا كلّ مضادٍ حيوي تمكّنا من الحصول عليه لتعزيز قدرة جسدها على المقاومة.

لم يزر نجوى أحد سوى شقيقها أحمد. علمت أنّ لديها ثلاثة أطفال، غير أنّني لم أرهم قط، ولم أقابل زوجها كذلك. كان أحمد صيدلانيّاً وكان يزور القسم ويخرج منه كل يوم. كان مفجوعا، يقضي ساعات بجانب أخته. لم يكن يغادر سوى ليحضر لها الدواء ويعود. دأب أحمد على تأمين مستلزمات علاجها يوميّاً رغم ندرة المستلزمات الطبية في المستشفى، إذ كان يأتي كلّ صباح ومعه كيس مليئا بالأدوية والمستلزمات الطبية والتي كان يحضرها من صيدليته الخاصة أو يشتريها من السوق السوداء.

وصلت صباحاً إلى المستشفى لأستلم المناوبة عن محمد الذي كان مناوباً في الليلة السابقة، فوجدته وقد أنهى جولاته التفقدية الصباحية. مشينا معاً وأخذ يطلعني بآخر المستجدات. قال: “ماتت نجوى الليلة الماضية” بصوتٍ حزين.

كان وقع الخبر ثقيلاً عليّ لكنّه لم يكن صادماً إذ كنّا نتوقّع حتميته. عانت نجوى من حمى لا يمكن السيطرة عليها خلال الأيام الثلاثة الماضية. وقد بذلنا، كلانا، الكثير من الجهد لرعايتها. كانت هذه العلاقة سريعة الزوال مع المرضى شيئاً اعتدنا عليه كأطباء بشكل عام، وكممارسين للمهنة يعملون في مثل هذا المكان الشحيح بالموارد والمستلزمات بشكل خاص.

صادفت محمد بعد أسبوع في الممر، فاستحضر ذكرى نجوى للمرة الأخيرة: “هل تعلم أن حروق نجوى لم تكن بسبب حادث؟”، سألني وهو يحدق بي بفضول، ثمّ تابع: “لقد أحرقت نفسها، حاولت الانتحار!”. فجأة أصبح كلّ شيءٍ منطقيّا. كان حرق النفس طريقةً شائعةً جدّاً للانتحار في العراق، خاصةً بين النساء. تابع محمد: “لو علمت بذلك حينها، لما بذلت كلّ هذا الجهد لعلاجها. ما فعلته مناف لشرع الله ومخالف لمشيئته… هذا حرام!”.

كنت أعلم أنّ محمد هو شخص ملتزمٌ دينيّاً، لكنّ وقع كلماته عليّ كان اشبه بالقنابل التي قصفت الملجأ بلا رحمة. خضنا جدالاً محتدماً ، ولم نتوصل إلى أيّ نوع من التفاهم آو أن نجد نقطة التقاء في مواقفنا المتعارضة.

كان دوري في المناوبة ليلتها، فقمت بجولاتي التفقدية وأخذت استراحة لتناول العشاء، ثمّ عدت إلى غرفتي في الطابق.

في تلك الليلة، نمت مثل الأطفال.

* مقتطفات من مخطوطة كتاب بعنوان “عندما تسافر الجراح: بيئات الحرب والرعاية الصحية شرق المتوسط”


“أن أخنُقَ الشمس” لعمر الديوه چي
مستوحاة من كتاب “يوم القيامة العربي” الشعري لإيتيل عدنان
أُديّت وسُجّلت مرّة واحدة في ٢٨ حزيران ٢٠٢٢
صوت: راوية الشاب. ماسترينغ: زياد مكرزل