ق.ل.ق

رشا السلطي

فكّ الغموض: الفصل الأوّل (توزيع المشاهد)

[شاشة سوداء: تعليق صوتي]

لا لُبس في فرادة دعوة المساهمة، أو في الحماسة التي شعرت بها لدعوتي؛ ولكن، عندما تلقّيتُ البريد الإلكترونيّ الموجّه إليّ من قبل أحمد وهايغ، والذي حدّد كلمة “قلق” موضوعًا لمساهمتي، كدت أستشيط غضبًا.

وصلتني الرسالة الإلكترونيّة خلال الإغلاق الثاني. في إطار هذا الحاضر المُمَدّ له المتداعي في زمنيّةٍ دائريّة مربكة، بدا   من المستحيل التفكير بشكل سويّ ونقديّ وشاعريّ بمفهوم أو شعور اجتاح وعيي ووعيي الباطني، ونهش في الساعات وأفسدها وغمّها. كان من المستحيل التنبّؤ بما كانت تُخبّئه الأشهر القليلة المقبلة، أكان إغلاقًا ثالثًا، أم الخلاص الناتج من تلقيح عالمي. كما لو أنّ الصديقين العزيزين طلبا منّي تفكيك الوحش وهو يُمسك بي بين براثنه ويهمّ بافتراسي.  

عجزت عن ردّ الدعوة. ففي نهاية المطاف، شكّل الأمر ملهاة، أو لربّما هروبًا، من قبضة العزلة القاتمة.

أغرتني فكرة مصارعة الوحش شيئًا فشيئًا. بدأت الكلمات والصور والرموز توضِّح وتحدِّد وتروِّض… الفاتورةَ المزدوجة المثيرة للقلق الشديد الناتجة من جائحة فيروس كوفيد ١٩ العالميّة، ومن انهيار الميثاق اللبناني ما بعد الحرب.

لم يكن الترويض بالأمر السهل – لم تخنّي الكلمات، بل خانتني قدرتي على صياغة الجمل والفقرات. كنت أسيرة فاتورة القلق المزدوجة، أتحدّث بلغات غير مفهومة ومجرّدة من أي معنى لغير المطّلعين على حقائق الانهيار اللبناني وعلى الخطاب الكارثي للمنظّرين الأوروبيّين الذين كانت أصواتهم تصدح في وسائل الإعلام اليساريّة التقليديّة. 

قرّرت التمثّل بأحد أشهر المنجّمين في الإعلام اللبناني. وكما تصله رؤى يجسّدها بمشاهد، نظّمتُ أنا نصّي أدناه وفقًا لمشاهد سيناريو غير مكتمل. تتمازج المشاهد بين “الماقبل” و”المابعد”، في محاولة يائسة لسرد الانحلال المزدوج الذي أشهده، وأعانيه، وأواجهه.  

[المشهد ٢٤: بيروت. داخلي (صباح)، توضيب الأمتعة]

في زمن القلق المتمادي، وزمن الاضطراب المكثّف، وغياب الاستقرار الزاحف، يُصبح كلّ شيء معظّمًا في ميدان اللامنطق. طقطقة المفروشات تذكّر بشكل مثير للريبة بمحاولة دخول سارق إلى منزل؛ ويُشبه هدير سيّارة يخرق صمت الليل المخيف المغلق بسبب كوفيد صوت مُسيّرة إسرائيليّة تطير على علوّ منخفض أكثر من المعتاد، سابرة الليل عن كثب، قبل اللقاء المعهود بعد منتصف الليل. في زمن القلق المتمادي، يكتسي أيّ حدث تافه رمزيّةً ما. ينذر احتراق لمبة وتحوّلها إلى شظايا بكارثة وشيكة، ويصبح هبوط طائر طنّان على غصن جهنّميّة دليلًا على نعيم قريب. توسّع التعابير المجازيّة والرموز مدى المهارات والتدفقات الموحى بها بوتيرة أكبر عند تفسير الأحداث، في تعاملنا مع الواقع، وردّنا على الاتّصالات الهاتفيّة، وكتابتنا الرسائل الإلكترونيّة، وتحليل الأخبار – بين وقائع وأكاذيب وأضاليل.  

[المشهد ٣: برلين. خارجي، تقاطع طرقات، الانتظار في الصف لدخول المتجر]

كُتب هذا السيناريو وفُكّك مرارًا وتكرارًا بين بيروت وبرلين. على مستوى الحدس، يرتبط القلق المستشري بالعيش في بيروت، ولكنّي أحمله معي في خبايا ساعات حياتي اليوميّة في برلين. متى تحوّلت الحياة في بيروت من مستوى القلق المنخفض إلى القلق المستشري؟ السؤال ليس بضروري، إذ لا يهمّ حقًّا متى بدأ الانحطاط. الفكرة هي أنّ هذا الزمن بدأ مسيرة على شكل رمز اللانهاية، أو كعك البريتزيل. لا أنفكّ أقول لنفسي (وللآخرين) إنّها مجرّد مرحلة ستمرّ، كغيرها من المراحل المرعبة الكثيرة التي عصفت بالبلاد، ولكنّ مجرّد ذكر تلك المراحل الأخرى يعيد إحياء طيفها. لا يُشبه تدهور الليرة اللبنانيّة في ثمانينيّات القرن الماضي تمامًا، ما يحدث منذ بداية العام ٢٠٢٠، إذ إنّ الآليّات مختلفة، شأنها شأن الرهانات السياسيّة؛ كما أنّ القعر الذي وصل إليه البلد بات أعمق. أو أنّ الأمر يبدو كذلك لأنّها المرّة الثانية التي أختبر فيها الظرف في حياتي. ما زال بعض الفاعلين السياسيّين من أرباب التفكيك الممنهج للبلد خلال الثمانينيات، وغيرها من الأحداث الدمويّة، موجودًا، مع أنّه يقوم بأدوار مختلفة – ولو إسميًّا. إلّا أنّ الفرق الأساسي هو في من تولّى المسؤوليّة على رأس المصرف المركزي. ففي حين اتّخذ إدمون نعيم تدابير صارمة من أجل حماية ما بدا أنّه الدعامة الوحيدة المتبقّية للدولة اللبنانيّة (ومعها المليارات الخمسة من الاحتياطي سنة ١٩٨٧)، تندرج إجراءات رياض سلامة أكثر في إطار الفساد. فقد تضمّنت دراية رياض سلامة النيوليبيراليّة تسخيرَ الخزينة العامّة لصالح أمراء الحرب الطائفيّين ومصرفيّين ماكرين، وتسهيل الطريق نحو غياب المحاسبة بفضل ملاذات ضريبيّة خارجيّة. ما لم يتغيّر هو كيف أنّ المجتمع أو مختلف الطوائف التي تكوّن شعب الجمهوريّة هذه، كان، ولا يزال، يدفع ثمن هذه الممارسات. هل يمكن لدافع ثمن هذه الممارسات أن يتحوّل إلى فئة سياسيّة؟ كم هو مقدار جهلنا، ماضيًا، وحاضرًا؟

[المشهد ١: بيروت. داخلي، شقّة. (بعدالظهر)]

٩ أو ١٠ آب/أغسطس ٢٠٢٠ (لا أذكر التاريخ بالتحديد). بعد أيّام قليلة على الانفجار المدمّر في مرفأ بيروت، يغطّي تقرير تلفزيوني إخباري تشييد مستشفى عسكري ميداني سيؤمّن العلاج المباشر لضحايا الانفجار. شكّل المستشفى هبة من المملكة المغربيّة، واتّخذ من منطقة واقعة بين برج حمّود والنبعة مقرًّا له. الموقع بحسب شريط الأخبار في أسفل الشاشة هو تلّ الزعتر، وهي منطقة جرى محوها من جغرافيا المدينة سنة ١٩٧٧. لم يكن الصحافي الممسك بالميكروفون قد أبصر النور بعد، عندما جرت محاصرة مخيّم اللاجئين وتسويته بالأرض، ولكنّ الأطياف التي أعيد إحياؤها بمجرّد ظهور الاسم قطعت أنفاسي.

[المشهد ١٨: بيروت. داخلي، شقّة، شرفة.]

يحمل الشتاء هذه السنة جميع علامات الاحترار المناخي. نحن في كانون الثاني/ يناير، والشمس ساطعة في السماء، ودرجات الحرارة معتدلة، والنباتات على شرفتي تزهر كما لو حلّ فصل الربيع. منذ بضعة أيّام، بين التاسعة والتاسعة والربع صباحًا، يحطّ طير صغير بمنقار طويل معكوف وريش أسود يعكس تدرّجات اللون الأزرق في أشعّة الشمس على أحد الأغصان الملتفّة على بعضها لشجرة الجهنّميّة ويستطرد بالزقزقة. كنت جالسة على طاولة غرفة الطعام، التي تحوّلت إلى مكتبي المؤقّت، فحدّقت به من دون أن أحرّك ساكنًا، تفاديًا لإخافته بحركة مفاجئة منّي. في غضون دقائق، حطّ طير آخر من الفصيلة عينها، وشرع الاثنان بما يشبه في نقاش دام لدقائق ومن ثمّ طارا. من الرفرفة السريعة لأجنحتهما الصغيرة، وبعد القيام ببعض الأبحاث، اكتشفت أنّ زائريّ كانا من فصيلة الطير الطنّان. لم أرَ أبدًا طير طنّان في بيروت. طوال هذا الشهر، باستثناء أيّام المطر القليلة، زارني الطائران كلّ صباح في الساعة عينها، كما لو ضربا موعدًا. بدأت النهوض باكرًا كي لا أفوّت على نفسي زيارتهما.

انتهى بي الأمر بالاعتقاد أنّهما لم يكونا يزوران الزهور، بل يزورانني أنا. بتُّ أعتقد أنّهما تقمُّصٌ لأصدقاء فقدتهم بسبب تمزّق شراييني، أو سرطان قاتل، أو انفجار سيّارة. بتُّ أعتقد أنّهما كانا سمير (قصير)، وعمر (أميرلاي)، وييتي (ينسن)، وإقبال (أحمد). 

[المشهد ١٤: برلين. داخلي، شقّة، نور فجر شتائي يدخل من النافذة]

خلال النور الصباحي الشتائي في برلين، على طاولة غرفة الطعام، (مكتبي المؤقّت)، يرقد “كتاب اللاطمأنينة” لفرناندو بيسوا بانتظار أن يُعاد فتحه، يَعِدُ بانفراج لبصيرة عميقة – إمكانيّة أن أكتشف أنّ اللاطمأنينة التي جسّدها بيسوا (التي تضخّمت لتصبح همًّا في عملي “هنا والآن”) هي ميزة القرن العشرين، إرث قد يكون في طور الانتهاء الآن. الحداثة والتحديث – النظريّة، والعقيدة، والأيديولوجيّة، والسياسات – متحابكة وجوديًّا باللاطمأنينة. باتت اللاطمأنينة – الخاصّة ببيسوا، ومونش، وحكمت، وغيرهم – والتي كانت في بداية القرن الماضي حكرًا على نباهة الشعراء – مفهومًا مبتذلًا كثير التداول بعد الحرب العالميّة الثانية. فإذا ما استُخدم هذا المفهوم بالمقادير الصحيحة، أنتج جمالًا؛ أمّا إذا استُخدم بإفراط، ولّد فظاعات – رهاب الأجانب، ومخيّمات الاعتقال، وسياسات مبنيّة على التمييز. 

[المشهد ١٨: بيروت، خارجي، شارع عبدالعزيز]

أمشي غارقة في أحلام اليقظة. نحن اللبنانيّين، نستحقّ الأمر. كنّا نعلم بوقوع الانفجار العظيم، وبعدم قدرة النظام على الاستمرار، وأنّ الطبقة السياسيّة لم تكن أبديّةً، مع أنّها تمهّد الطريق أمام الأبناء والأصهار. هل كنت شريكة في استمراريّة النظام؟ من دون أدنى شك.

نحن، سكّان الأرض أجمعين، نستحقّ الجائحة. لا تعزّز ثقافة اللامبالاة النرسيسيّة التي تروّج لها الأيديولوجيّة النيوليبيراليّة استمراريّة الحياة. كان علينا أن نأخذ على محمل الجدّ التفشّي السابق لسارس، وميرس، وإيبولا؛ وكان علينا اعتبار الجنود الأطفال المجنّدين في حروب الميليشيات في الكونغو، وجمهوريّة إفريقيا الوسطى، وغيرهما من المناطق، بمثابة أطفالنا؛ كما كان علينا مقاربة القضاء على غابات الأمازون، كما لو كان الأمر يحدث في أرضنا. كلّها أثّرت فينا، وغيّرت حياتنا تغييرًا جذريًّا، وزادت من الكوارث التي تعانيها البشريّة والكرة الأرضيّة. ومن خلال الإبقاء على عجلات التجارة العالميّة قائمةً، كنت أنا أيضًا شريكةً، من دون أدنى شكّ.

[المشهد ٢٥: بيروت. داخلي، بنك بيبلوس، جالسة على مقعد بانتظار موظّف المصرف]

قبل رواج بطاقات السحب المصرفيّة، وانتقال الممارسة شيئًا فشيئًا إلى الطبقة الوسطى، كنت أنظّم رحلات إلى المصرف خلال أيّام الأسبوع خارج ساعات الذروة تفاديًا لمناقشة وضعي المالي غير المنتظم (مداخيل عاملة مستقلّة) على مسمع آخرين. لم يتردّد الموظّفون المصرفيّون، وبشكل خاص أولئك الذين بتُّ على معرفة بهم، والذين كانوا مؤهّلين نفسيًّا للقيام بتوبيخ “أخوي” لعوب، عن التعليق على كون حساباتي مكشوفة، أو على كونها أصبحت مليئة بسبب تحويل مالي ذي شأن. بعد تدهور الليرة اللبنانيّة وانتشار فيروس كوفيد، اختلفت تجربة الذهاب إلى المصرف اختلافًا جذريًّا. وُضع موظّفو المصارف في الخطوط الأماميّة للخيانة. اختفت جميع مظاهر الودّ والألفة والتعاطف. حرص المدراء المتنقّلون على كبح أيّ مشاعر. وأصبح العملاء مصدر خطر محتمل، قادرين على نوبات غضب لا يمكن التحكّم بها بسبب الكبت الناتج من التدابير العقابيّة المتجدّدة ضدّ المودعين. نُشر الحرّاس داخل المبنى، متسلّحين بميزان حرارة وبتجهّم دائم حمايةً لموظّفي المصرف من العملاء.  

تتحكّم أشكال إنتاج رأسماليّة وعلاقات اجتماعيّة رأسماليّة بالقلق. بالنسبة إلى الماركسيّين والمنظّرين من مختلف أطياف اليسار، إنّ العائد الحيوي والديناميكي هو الذي يكفل تماسك الانتظام الاجتماعي، ويرسم الذات، ويحدّد المكانة، ويفرض الانصياع. من العامل في خطّ إنتاج وفقًا للنموذج الفوردي، أسير السلعة أو الشيء الذي يصنعه، إلى الطبقات العاملة والمتوسّطة رهينة الاستدانة الإضافيّة، أو الخائفة من فقدان المكانة الاجتماعيّة، يشكّل القلق المخدّر الذي يتغلغل في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسيّة، مهجّرًا الزمن. 

[المشهد ٢٧: برلين. داخلي، نهار (نور الربيع)، غرفة الطعام]

أنتمي إلى مجموعة أشخاص على هذا الكوكب يعتقدون أنّ جائحة كوفيد ١٩ هي نتيجة خندقة مختلف مراحل الرأسماليّة النيوليبيراليّة حول العالم، بالتوازي مع انتصار أيديولوجيّة الأنثروبوسين التي تطلقها. تتأتّى معضلتنا الحاليّة من عولمة الإنتاج في ظلّ سوق غير منظّمة ونظام قيم قرّرت كلّ حكومات العالم الدفاع عنه على ما يبدو. إنّها نتيجة الازدراء النظامي المستدام القائم لرفاهيّة أشكال الحياة والمنظومات غير البشريّة، وسحب الاستثمارات من الخدمات العامّة (مثل الرعاية الصحّية)، والتغاضي عن الضرر البيئي، وعدم الاكتراث للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الصاعق، والاحتقار للأسس التي تشجّع على التعاضد والتكافل. على مستوى الحسنات، أعطت الجائحة صورةً عمّا يمكن أن يحدث في حال تراجع الإنتاج الاقتصادي والتجارة والاكتفاء بتأمين الأساسيّات – أي النقيض الكلّي للرأسماليّة النيوليبراليّة.

ينتج التباين السائد ما بعد حالة الطوارئ من اختلاف في المقاربة: إذ يرى معسكرٌ في الجائحة خللًا، في حين يرى المعسكر الآخر فيها فشلًا ذريعًا للنظام الذي لم يعد صالحًا. يسعى مناصرو “الخلل” إلى العودة إلى ما يُسمّى “بالحياة الطبيعيّة” بعد إنجاز مناعة القطيع بواسطة التلقيح. يعترف أصحاب هذا المعسكر بأنّ بعض التدابير التصحيحيّة قد يكون مفيدًا إلى حينه. فبهدف التخفيف من التدهور في جميع المؤشّرات الاقتصاديّة (الإنتاجيّة، إجمالي الناتج المحلّي، النمو)، لجأت غالبيّة الحكومات إلى تحفيزات ماليّة كينيزيّة زائفة واسعة النطاق. ولكنّ هذه السياسات لا تبشّر أبدًا بالعودة إلى ما يُدعى بالدولة الراعية، بل تهدف إلى إنقاذ الرأسماليّة النيوليبراليّة من مأزق أوجدته هي في المقام الأوّل. على مشارف نظام يتهاوى، يفتقر المدافعون عنه إلى أفكار، وحلول، وطاقة. بالنسبة إليهم، تشكّل الجائحة ديستوبيا، ولكن ما يطلقون عليه اسم التطوّر، والنمو، والازدهار قد أنهك الناس وأضرّ بالبيئة الطبيعيّة التي يتقاسمونها مع أنواع أخرى.   

أنتمي إلى المعسكر المقابل وأرى في تجارب الجائحة فرصة نادرة للانتقال من فلسفة اقتصاديّة مبنيّة على النمو إلى فلسفة تقليص النمو، والتوزيع العادل للثروات، وإصلاح الضرر اللاحق بالبيئة وعكسه (إذا أمكن)، والأهم، تعزيز قدرات الشعوب وإعادة رسم الجسم السياسي. يجب صقل ذوات جديدة، وهو فعليًّا الميدان الذي يمكن للفنّ، والشعر، والأداء، والموسيقى، والأفلام، أن تساهم فيه. وفي حين جرى محو إرث الانفلونزا الإسبانيّة وذاكرتها، يمكننا ببساطة العودة إلى جائحة فيروس نقص المناعة البشريّة من أجل تقييم الدور الرائد للفنون في نزع الوصم عن المقاربات الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة التي همّشت حاملي الفيروس.

[المشهد ٣٢: برلين. داخلي، الفجر (شتاء)، غرفة الطعام]

هل أجرؤ على التفكير بأنّ دورنا قد حان؟ نحن؟ نعم، نحن العائشين مع خدمات عامّة منهوبة؛ المفتقدون ضمانًا صحّيًّا أو راتبًا تقاعديًّا؛ المثقلين بالديون؛ المهدّدين بالبطالة، والطرد، والإفلاس، والتمييز؛ المعرّضين باستمرار للأمراض بسبب التلوّث وأغذية معدّلة جينيًّا وأطعمة فائقة المعالجة؛ المتعطّشين إلى مياه نظيفة وخالية من المواد البلاستيكيّة. في استعانة بمفهوم من علم النفس السريري، بدت الجائحة ومعها الإغلاقات العامّة المتعدّدة، على الرغم من ثقلها المقلق ووقعها الضخم على معظم العاملين والعاطلين من العمل، “كفترة صحو”، سقوط مؤقّت لغياب المنطق، ومواجهة مع واقع الرأسماليّة النيوليبراليّة. متى سيتجسّد الإقدام على الفعل وكيف؟ 

ترجمة: برونو برمكي