استصلاح الأراضي البحرية، والرّدم والنفايات: قراءة استقلابية للتمدّن اللبناني.

اريك فردي

عماد قعفراني، إنسان، حيوان، نبات، رسم رقمي. 2021

لجأت الحكومة اللبنانية، منذ اندلاع أزمة النفايات في بيروت وضواحيها في عام ٢٠١٥، إلى حلول مؤقتة كانت خلاصتها رمي النفايات في المطامر الساحلية، كمطمر برج حمود، والجديدة، والكوستا برافا. واللافت أن هذه الحلول، التي تبدو مؤقتة، ليست بالجديدة، بل هي محض تكرار للإجراءات التي اعتُمدت في فترة الحرب الأهلية في عدد من المناطق الساحلية اللبنانية مثل صيدا وطرابلس، اللتان تجمعهما خصائص مشتركة. [1] غالبًا ما تتم عمليات استصلاح الأراضي البحرية في المناطق التي تضمّنت في تخطيطات مدنية وضعت ولم تنفذ منذ الخمسينات والستينات، وتصبح هذه الاستصلاحات مصدراً مهماً للأشغال العامة ومحرّكي الأسواق العقارية المرتبطين بالزعماء اللبنانيين، وذلك بهدف تحصيل أرباح خيالية. وفي بعض الأحيان، يهدف الاستصلاح إلى احتكار إيجارات الأراضي المستحصل عليها من خلال المشاريع القائمة عليه. تنبثق المواد التي تعطي هذه المطامر حقيقتها، في لحظات يصلح أن نسمّيها الإضطرابات الأيضية أو الإستقلابية، أي عندما تؤدي مشكلة حضريّة مفاجئة إلى تدفّق في المواد التي تنتج عن الأزمات المدينية، والتي يجب أن تخزّن في أماكن محدّدة (مواد مثل النفايات، والردم). تشكّل آليات التمدّن هذه مثالاً واضحاً لمفهوم الأنثروبوسين، إذ أنها تشكل  طبقة جيولوجية جديدة تم استحداثها بالكامل عبر النشاط البشري.

 الاستقلاب المديني: الاستهلاك، والإفراز، وإعادة التدوير.

 يتيح لنا مفهوم الاستقلاب المديني النظر إلى مشاريع التمدّن والاستصلاح على طول الساحل اللبناني، من عدسة تداول المواد وتحويل المواد التي تمنح المدينة تناسقها.  وإذا استخدمنا تشبيهاً جسديّاً للمدينة، نخلص إلى التفكير في أنها الطعام الذي أكله أسلافنا، وبالتالي السماد الذي خصبوا حقولهم به.

لا ينطبق  هذا التفكير الدوري العضوي على الأماكن التي تملؤها أنقاض المباني المهدمة آنيّاً، والتربة المحفورة، ونفايات البلدية، إذ أن ما ينبع منها ما هوإلّا تربة غير خصبة مغمّسة بسوائل سامة، تسمّم الثروة البحرية والنباتية والحيوانية، وكل من يجرؤ على السباحة في مياه البحر القريب منها. وسأسعى في هذا النص لتقديم لمحة توضيحية عن البيئة السياسية الحضرية كما يتصوّرها الجغرافي “إريك سوينجدو” وزملاؤه في كتاب “في طبيعة المدن[2]. عند استخدام تشبيه الإستقلاب المذكور آنفاً -وهو تشبيه يفيد ويساعد في زيادة الوعي للأهمية المادية للتدفّقات التي تشكّل المدينة- علينا أن لا ننسى الطبيعة السياسية المحضة لعمليات النقل والتحوّل هذه، باعتبارها عمليات  تشارك في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات القوة، لا سيما عبر آليات تداول رأس المال غير المتكافئة. تطرح هذه العمليات إذاً، مسألة الفساد ودوره في إعادة إنتاج النخبة السياسية في لبنان، من خلال إنشاء نظام الاحتكارات. ويتعلّق البعد السياسي الأساسي الآخر فيها  بتمثيل مستقبل المجتمع والمدن اللبنانية، من خلال ما أسميته في مقال آخر “التخيّل التخطيطي”،[3] وهو مجموعة المعايير والتصوّرات أو الرؤى التي ظهرت في سياسات التنمية والتخطيط المديني للعاصمة اللبنانية. ولدت هذه الرؤى ومثيلاتها  من تفاعل  السياسيين واللاعبين الأساسيين والمخطّطين النخبويين  الذين عادةً ما يكونون مرتبطين بهم أو تابعين لهم. وبدقّة أكبر، تستبين هذه الرؤى مناطق محددة للتدخّل وإنشاء المشاريع السياسية والاجتماعية، والتي تكون في أغلب الأحيان على الساحل. لا يمكن فهم الخطوط الساحلية الجديدة لمدينة بيروت إلا على أنها نتاج مشترك لتداخل الخيال السياسي والمالي، كما يظهر في المشاريع الناتجة، والمواد التي تعطيها شكلًا.

سوليدير وأرضها المستصلحة

يمثّل وسط مدينة بيروت الحالي مثالاً جليًّا على التمدد، في ما يسمّى غالباً  باسم (بيال) BIEL، ويمتدّ على مساحة أرض تفوق الـ ٦٠ هكتاراً من الأراضي المفرزة والتي تتضمّن مركزاً للمؤتمرات والمعارض. نتج هذا الامتداد في البحر عن سلسلة من المشاريع والمبادرات التي يعود تاريخ طرحها إلى الستينيات، ومنها مشاريع  كانت  تهدف إلى زيادة أرضٍ ساحلية عبر بناء جسر يربط كورنيش عين المريسة بالطريق السريع عند المخرج الشرقي لبيروت. خلقت سنوات الحرب الأهلية  الخمسة عشر والاضطراب الاستقلابي الذي نتج عن تخزين النفايات المنزلية، الفرصة المثلى لملء خليج النورماندي بهذه النفايات، وتحويله بذلك إلى مطمر في عام ١٩٧٨. يكتب  فؤاد عواضة، وهو مخطّط حضري  وعضو سابق في فريق المخطّط التوجيهي  للتنمية والتخطيط العمراني في منطقة بيروت الحضرية في الثمانينيات ما يلي:

“يذكرنا أولئك الذين يتكلّمون بالسوء عن المشروع أنّ هذا السد المقام على خليج النورماندي، والذي أفسد أحد أجمل المواقع في بيروت، لم يكن”عفوياً” أو “اضطراريًّا”  كما يُزعم.  فالمسؤول عن المطمر قام  بالتخطيط له منذ أوائل الستينيات، عندما كان مديراً عاماً للتخطيط المدني، وكان يحلم بتمرير طريق سريع عبر عرض الخليج، “لإغلاق” الطريق الدائري حول بيروت. وقد حصل على تأكيدات بأن هذا التمدّد سيُستخدم في تشييد المباني، بينما تعتزم الإدارة الحالية تحويله إلى مدينة ملاهي مركزية كبيرة.[4]

في بداية سنة ١٩٨٣ بدأت جرافات شركة أوجيه لبنان -التي وضعها رفيق الحريري آنذاك  تحت تصرّف الحكومة مجاناً- بهدم وجرف المباني والأحياء التي اعتُبرت غير قابلة للترميم، وكان أبرزها مباني أسواق بيروت. جاءت هذه  المبادرة  على عجل، ودون دراسة وتخطيط، فأثارت احتجاجات الرأي العام وسخطه. ومن المعروف أن أعمال إعادة الإعمار في منطقة وسط المدينة، والتي امتدّت من عام ١٩٩١ إلى عام ١٩٩٨، زادت من عمليات الهدم، إذ بلغت ٨٠٪ من المباني القائمة في المنطقة. تم إلقاء هذه الأنقاض الجديدة، بدورها، في مكب نفايات النورماندي ممّا زاد حجمه بشكل كبير.

ظلّ مكب النورماندي  يتمدّد ويتوسّع  طوال هذه الفترة، ومن ناحية أخرى، كانت الخطط المستقبلية لبناء ناطحات السحاب على هذا الردم  تتطلّب تعزيزات قوية (أي أن يقدر الردم على تحمّل أمواج عالية كالتسونامي، وتمتين التربة لتتحمل مبانٍ شاهقة، وغيرها من الشروط…)، وبالتالي كان لابد من احتساب تكلفة إضافية تصل إلى عدة مئات الملايين من الدولارات لتنظيف الموقع من محتواه وتوفير مواد ردم مناسبة جديدة. وبما أنه لم يكن بمقدور الدولة  دفع هذه التكلفة الباهظة، فقد عرضت الأرض (مع بدل إشغال مرتفع) على سوليدير كمساهمة عينية، وبذلك يكون المخططون للمشروع قد حقّقوا الأرباح المرجوّة والتي خططوا لكسبها -هم وداعميهم من السياسيين والزعماء- تلقائياً عندما بدأوا بعملية ردم البحر.

أرض فارغة في المشروع  الاستصلاحي BIEL-Solidere في عام ٢٠١٥ الصورة لـ :  إيريك فيرداي

يشير تمدّد المساحات في وسط المدينة إلى أن الخطط الأولى لردم البحر نتجت عن خطة وُضعت للتخلص من الكميات غير المتوقعة من النفايات والركام الناتجة عن الجرف وإزالة الردم من وسط المدينة. تطوّر بعد ذلك مخطط الكسب المالي للمخططين لمكب النفايات وتحوّل إلى فرصة للربح،  فلم يكتفوا  بتوسيع مساحة الردم فحسب، بل فرضوا أيضاً أعمال تدعيم للأرضية، شكّلت مصدراً إضافيًّا لأرباح كبيرة.

الاستصلاح في المتن الشمالي:

تم اقتراح العديد من الخطط لاستصلاح الأراضي على طول خط ساحل المتن الشمالي، حيث تنتشر الضواحي بشكل عشوائي منذ الستينيات. وكان المُخطط العمراني غبريال شار قد وضع رؤية لتوسيع مرفأ بيروت في عام ١٩٧٤ لكنها لم تبصر النور.  وفي عام ١٩٨١، أطلق النائب عن المتن أمين الجميل دراسة أعدّتها دار الهندسة لإنشاء امتداد بطول ثمانية كيلومترات بدءاً من برج حمود وصولاً إلى  ضبية معلناً أن المشروع يهدف إلى إعادة هيكلة التوسع المديني وتنظيمه وهو كان قد تفاقم  مع الحرب الأهلية. وكانت الخطة تَعدُ بإنشاء عناصر بنية تحتية مفقودة مثل طريق بحري جديد، ومحطة معالجة لمياه الصرف الصحي، ومناطق تجارية وصناعية خفيفة، فضلاً عن مشاريع لتطوير القطاع العقاري والسياحي  حول الموانئ الموجودة في المنطقة. وبمجرد انتخابه رئيساً، باشر الجميل تنفيذ المشروع بدعم من رفيق الحريري ورجل الأعمال جوزيف خوري المتخصص في الأعمال البحرية، وهو مالك مقلع نهر الموت الكبير الذي كان قادراً على توفير مواد الردم المطلوبة.

هكذا، تحوّلت منطقة برج حمود إلى مكبّ للنفايات، يشبه إلى حد كبير مكب خليج النورماندي فيما أولى الجميّل وخوري الاهتمام لمنطقة الضبية، كونها ذات طبيعة ضحلة، مما عنى أن العمل على المشاريع التطويرية فيها كان أسهل. قام حينها المهندس المعماري ريكاردو بوفيل بوضع خطة للعمل، وبدأت الأعمال على الفور ببناء سد وقائي في المنطقة، ثمّ تبين لاحقاً  أن المواد التي تم جلبها من مقلع نهر الموت لم تكن كافية، وكانت مكلفة للغاية، إضافة إلى أنّ استخدام النفايات كان قد أفسد الموقع. فتوقّف المشروع، ليتم إعادة  إحياؤه في التسعينيات، حيث وُضعت خطة تمويلية لمنطقة الضبية وقد عُهد بإنجاز المشروع  مرة أخرى إلى جوزيف خوري الذي  مُنِح ثلث الأرض مقابل خدماته. تم بيع المشروع لاحقاً  للمستثمر الإماراتي “مجموعة ماجد الفطيم”، ويشكّل المشروع الآن واجهة بيروت البحرية ( The Waterfront City) وهو ميناء يطلّ عليه مجمّع سكني فاخر.

بالتوازي مع إعادة إحياء مشاريع الضبية، أعاد مجلس الإنماء والإعمار (CDR) إطلاق الدراسات الخاصة بإنجاز مشاريع ردم لاستصلاح الأراضي بين برج حمود وأنطلياس، تحت اسم لينور، وهي شركة عقارية شبيهة بشركة سوليدير، وقد اندلعت منافسة شرسة بين العديد من المستثمرين المحتملين وزعماء الحرب الأهلية ورئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري، ووزير الداخلية  ميشال المر، ورجال أعمال محليين آخرين، وكان الهدف المتنازع عليه يكمن في الاستيلاء على الأراضي المردومة مستقبلاً.

أدّى المشروع كذلك إلى ظهور جبهات معارضة، من جانب بلديات مثل بلدية برج حمود خصوصاً، إذ كانت تخشى النتائج السلبية التي  ستنجم عن إنشاء محطة معالجة مياه صرف صحي، ومن  الزيادة الملحوظة في تراكم النفايات في شمال المنطقة. أصبح “جبل النفايات” ركيزة أساسية لنشوء مكب النفايات الذي تفاقم بين العامين ١٩٩١ و ١٩٩٧ في برج حمود، وقد امتد إلى البحر على مساحة تقارب ٤٠ هكتاراً، وبلغ ارتفاعه ٤٢ متراً.

نشرت عمليات الحرق المزمن والمتكرّر للنفايات أبخرةً ضارة وسامة ورائحة كريهة في المنطقة، وكوّنت هذه الكومة من النفايات شكلاً جديداً من أشكال الاضطراب الإستقلابي، وخلقت بالتالي فرصةً مثالية لكي تبدأ  شركة لينور للبدء بتنفيذ مشاريعها، غير أن عملية تمتين التربة وإعادة معالجتها كان سيزيد من تكاليف المشروع ، لا سيما في ظل تواجد المنحدرات الشديدة للوادي البحري الذي يشكل الجزء الحدودي لنهر بيروت بالقرب من المنطقة. ومع تراجع سوق العقارات في عام ١٩٩٦-١٩٩٧، ووصول الرئيس لحود إلى سدّة رئاسة الجمهورية، تم التخلي عن المشروع.  يظهر لنا هذا التسلسل، أن الاضطرابات الاستقلابية -المتمثلة في فيضان الأنقاض والنفايات- التي توفر فرصاً للتنمية المدنية قد لا تبلغ جدواها، إذ تظلّ مقيّدة ومرتبطة بسوق العقارات وتداول رأس المال المديني.

الأرض الفارغة في مشروع استصلاح الضبية عام ٢٠١٧ (Photo Eric Verdeil)

التحضر المتسارع ، الاستهلاك المحموم ، انتشار مطامر النفايات

شهدت الفترة الواقعة بين تسعينيات القرن الماضي ويومنا هذا في لبنان نمواً مدينياً غير مسبوق، بلغ زيادة بنسبة ٨٠٪ بين عامي ١٩٩٤ و ٢٠١٤، بمعدل يتجاوز النمو السكاني بأشواط.[5] يترافق هذا الامتداد العمراني مع استنزاف كبير للموارد الطبيعية بغية استعمالها في صناعة مواد البناء، إذ يتم استخراجها بكميات كبيرة من الجبال المحيطة ببيروت.  وتجدر الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من أعمال المحاجر والمرامل والكسارات يُعتبر غير قانوني، ولكن لطالما تم التغاضي عنه، وذلك ليس لأن مساهمة قطاع البناء في الاقتصاد اللبناني تعتبر ضرورية فقط، بل أيضاً لأن أصحابها محميون من قبل البنية السياسية الفاسدة، إذ يمكّنهم هذا الغطاء من الحفاظ على أعمالهم غير المشروعة.

أدّت عمليات الهدم المتزايدة للمباني القديمة وحفر مواقع البناء الجديدة إلى تراكم  أنقاض كان لا بد من التخلص منها. وفي عام ٢٠٠٦ ، دمّرت القنابل الإسرائيلية ٢٢٠ مبنى دماراً شاملاً  في حي سكني مساحته 32 هكتاراً في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. وبما أن مخلّفات الدمار تمثّل فرصة للنمو داخل هذا النظام، فقد جُمع الردم على واجهة بحرية جديدة ، في منطقة تسمّى الكوستا برافا، جنوب المطار.

بالتوازي مع الارتفاع في معدل البناء، شهد لبنان أيضاً طفرة استثنائية في الاستهلاك، ممّا تسبّب في زيادة كبيرة في كمية النفايات. عكس هذا الارتفاع في كمية النفايات -غير العضوية على وجه الخصوص – عادات الاستهلاك المتغيّرة للسكان الخاضعين لنمط العولمة والتمدّن المفرط،  والمنقسمين طبقياً نتيجةً لتزايد غياب  التكافؤ الاجتماعي بين طبقات المجتمع؛ إذ تم الاعتماد بشكل شبه كليّ على استيراد معظم السلع المصنعة في الخارج، من المواد الغذائية وغيرها من المنتجات الاستهلاكية. وبالتالي، زادت كمية النفايات التي تجمعها البلدية بنسبة ٤٢٪ في منطقة بيروت وجبل لبنان، بين عامي ١٩٩٩ و ٢٠١٣، وهي نسبة أعلى بكثير من معدل النمو السكاني. أدّى هذا التزايد في كمية النفايات البلدية الناتجة عن استهلاك السلع وما يرتبط بها من أعمال للتخلص منها إلى بروز مشاريع مطامر نفايات ساحلية جديدة. ثم تفاقمت أزمة النفايات في عام ٢٠١٥ بسبب عدم التوصل إلى حل بديل لمعالجة النفايات البلدية، ممّا أجبر الحكومة على إيجاد أماكن لرميها أو طمرها  تزامناً مع إعادة إحياء مشروع لينور الذي كان خامداً لمدة ١٧ عاماً.  وقد سعى حينها  وزير البيئة أكرم شهيّب إلى إنشاء مكب نفايات بمساحة ٣٣.٣ هكتار بين برج حمود والجديدة.  تتكون تربة هذا الموقع من خليط من الرمل والردم ومخلفاتٍ من جبل النفايات القريب الذي يعتبر الآن -في مفارقة غريبة- غير مُلوِث بعد أن كان قد  نشر تلوّثه في الهواء والماء والتربة لسنوات طويلة.[6] ومن اللافت أن شهيّب، الذي أعطى اسمه للخطة، كان أيضاً وزير البيئة في عام ١٩٩٧ وقد أشرف حينها على إغلاق مكب برج حمود والفتح المؤقت لمكب الناعمة. وهكذا، تعيدنا أزمة ٢٠١٥ للتنقيب في ذاكرة المشاريع المعلّقة.

مكب نفايات برج حمود ( صورة من موقع غوغل ٢٠٢١)

تضمّنت خطة شهيب أيضاّ في بنودها  تحويل موقع كوستا برافا، حيث تمّ رمي الرّدم والأنقاض لأول مرة في عام ٢٠٠٦، إلى مكبّ نفايات جديد.[7] وعلى الرغم من البعد النسبي للموقع عن الأحياء السكنية، فقد كان المكبّ محل نزاع شديد بين البلديات في المنطقة. كما لاقى كذلك اعتراضاً من قبل المجموعات البيئية بشكل عام. تجدر الإشارة كذلك إلى أن إنشاء هذين المطمرين الجديدين بشكل طارئ أدّى إلى نشوء العديد من المخالفات القانونية وتفاقم تلوّث مياه البحر، حيث بدأت عملية نقل النفايات إليه قبل الانتهاء من بناء السدود الواقية وتركيب الأغشية العازلة كما اقتضت الخطة للحد من التسربات.



أعمال مكبات نفايات واستصلاح أراضٍ في كوستا برافا وصيدا عام ٢٠٢١ (صور من موقع غوغل)

إذا ما حلّلنا مشاريع الردم الكبيرة المُقامة في بيروت الكبرى وصيدا، نتوصّل إلى وجود ارتباط قوي بين دوافع ثلاث، إذ يمكننا أولاً أن نرى كيف استُثمرت أفكار الحداثة والتجديد في استصلاح أراضٍ جديدة على البحر كما في المخطّطات المدينية المبكرة. ثانياً، نرى كيف يدفع توقّع ارتفاع قيمة الأراضي المساعي إلى شراء الأراضي الساحلية المناسبة، وأخيراً، كيف توفّر حالات الاضطراب الإستقلابي المواد اللازمة لردم البحر في المواقع المختارة. ورغم ذلك، تؤدّي الفترات الزمنية المتغيّرة لهذه النبضات الإستقلابية إلى فكرة التمييز بين الصدمات المفاجئة (كالتدمير العنيف كما في حالة الهجوم الإسرائيلي عام ٢٠٠٦، وفائض النفايات في عام ٢٠١٥) وبين التسارع المستمر في البناء المديني والاستهلاك المُنتجين لتدفق المواد المستخرجة والمستدامة على مدى طويل. وعليه، خلال هذين النوعين من الفترات الزمنية المتفاوتة، يرتبط تكثيف الاستهلاك ورمي المخلفات (إنتاج الأنقاض) إرتباطاً مباشراً بتداول رأس المال الذي يأتي، في السياق اللبناني، أساساً من الخارج (حوالات الاغتراب، والاستثمارات الأجنبية) ويغذّي قدرة الاستهلاك وسوق العقارات مباشرة. يمكننا نهايةً أن نلاحظ أن نقل الركام الناتج عن تدمير المباني وأعمال الحفر باتجاه الأطراف المدينية وإلى شاطئ البحر في العديد من المدن الكبرى سريعة التغير -لا سيما في آسيا- يشكّل سمة من سمات الأنثروبوسين.[8]

لم تعد المدن تنمو على أنقاضها ، كما كان الحال لقرون مضت، بل صارت تُصدّر أنقاضها إلى الأطراف.  وفي لبنان ، تتسارع هذه الحركة بسبب عدم القدرة على تنظيم تدفّق النفايات والتحكم بها من خلال سياسات تقليل حجم الاستهلاك وإعادة التدوير.

أدّت الحلول المطروحة لحل أزمة النفايات في السنوات الأخيرة، إلى إنشاء مكبّات ومطامر للنفايات على أراضٍ لم يعد بالإمكان الاستفادة منها في المستقبل المنظور لأية غايات أخرى.  ولم يؤد نموذج التمدّن في مكبّات النفايات الساحلية إلا إلى نشوء تلال مهجورة وجبال جديدة من النفايات تطلّ على البحر، إضافةً إلى هدر الموارد الطبيعية وإغفال المبادئ الأساسية للتوسع المديني.

ترجمة: حسين ناصر الدين


[1] هذا النص هو توليف وتحديث على مقال منشور سابقًا بعنوان: Verdeil, É. (2017) ‘Des déchets aux remblais: imaginaire aménageur, corruption et dérèglements métaboliques à Beyrouth’, جدلية

http://www.jadaliyya.com/pages/index/26876/des-d%C3%A9chets-aux-remblais_imaginaire-am%C3%A9nageur-corr.

[2] Heynen، Nik، Maria Kaika، and Erik Swyngedouw، eds. في طبيعة المدن: البيئة السياسية الحضرية وسياسة التمثيل الغذائي الحضري. المجلد. 3. تايلور وفرانسيس ، 2006.

[3] فيردياي ، إريك. Beyrouth et ses Urbanistes: une ville en plans) (1946-1975).بيروت والحضر: مدينة على المخطوطات .بيروت: 2011. متاح على: http://books.openedition.org/ifpo/2101.

[4] عواضة ، فؤاد. إدارة الخدمات الحضرية في بيروت أثناء الحرب: 1975-1985. Talence: CEGET (الممارسات الحضرية (Talence) ، ISSN 0992-3845 ؛ 5) ، ص 120 ، (1998)

[5] لا يمكن الاعتماد بالكامل على إحصائيات السكان المتضاربة في لبنان، نظراً لعدم الإجماع عليها. وقد قدّرت اللجنة المركزية للإحصائيات عدد سكان لبنان في ١٩٩٧ ب ٤.٥ مليون نسمة، و ٤،٧ مليون نسمة في ٢٠١٧ (من دون الأخذ بعين الإعتبار تدفّق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في عام ٢٠١٢.

[6]منصور، فضل “From Trash Dump to Dreamland: An Entangled History of Toxicity and Capital”، جدلية. ٢٠١٨. الرابط:  https://www.jadaliyya.com/Details/38158/From-Trash-to-Dreamland-An-Entangled-History-of-Toxicity-and-Capital.

[7] بخلاف جميع المطامر الأخرى، لا معلومات لدي عن أي مشاريع عقارية في مكب الكوستا برافا.

[8]زالسيفيك، جان، واترز، كولين ووليامز، مارك، “City-Strata of the Anthropocene”. Annales. التاريخ والعلوم الاجتماعية – النسخة الإنكليزية. ٧٢ (٢)، ص.٢٢٥-٢٤٥، (٢٠١٧). doi: 10.1017/ahsse.2019.11.