بانتظار العثّ

داليا الخميسي وجنى نخّال

عماد قعفراني، سأكون يوماً فراشة، رسم رقمي. 2021

في الذكرى السنوية السادسة والأربعين لرحيل غسان كنفاني، خاطب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، الكاتب الراحل في منشور على فيسبوك كاتباً: “الحكاية التي لا نكتبها، حكايتنا التي لا نكتبها، أتعرف ماذا يكون مصيرها؟ إسمح لي يا غسان، أن أسألك، أسألك من قلبي، فأمامك يمكن أن أصرخ أو أجنّ وألا أحسّ بإحراج، لأنني أحدِّثك أنتَ، لأنك منا؟ هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنها تصبح مُلْكًا لأعدائنا!”[1]

عن الحكايا المنسية، والمَروية:

تقول الحكاية أن العثمانيين أخذوا خطيب جدة صديقتي إلى “السفربرلك” في نهاية القرن التاسع عشر، ورغم احتمال اختفائه وعدم عودته أبداً، لم تستطع جدّتها الزواج من غيره فور مغادرته. كان عليها أن تنتظر سبع سنوات، ولم ينته هذا الانتظار إلّا عندما أكل العث القميص الحريري الذي علقته بعد مغادرته، كما اقتضت العادة آن ذاك. “عثّ القميص”، تقول ابنتها، “وتزوّجت أمّي بأبي، ولم يعد ذلك الشاب حتى اليوم.” كان تعليق القمصان الحريرية خارج منازل الذاهبين الى الحرب تقليداً يُتّبع، حيث اختفى الكثير من الرجال ولم يعودوا، فيما كانت النساء تنتظر.

لا يتم تداول مثل هذه القصص في الخطاب العام والسردية التاريخية المكتوبة، لكن يتم تذكّرها وروايتها شفهياً بين أفراد الأسرة و تناقلها عبر الأجيال، تماماً كقصص الحروب. اذ تظهر قصص الحرب الأهلية اللبنانية مثل المَوْج حين المَدّ، تتمخّض عن أماكن نزورها أو ذكرى لقاء تزامن مع تفجير، أو أصدقاء اختفوا…لا تأتي قصص الحرب وحدها، لا يرويها أصحابها بسهولة، بل يردمونها مع باقي أشياء الحرب، لحين يجبرهم حدث ما على استحضارها، فتطفو حينها على السطح.

يدعم الخطاب الرسمي السائد دفن ذكريات الحرب، حرب لا يتفّق حولها شخصان في لبنان.

لكن، كما لا تصبح الأنقاض أبداً جزءاً من الأرض التي دُفنت فيها، كذلك قصص الحرب، نراها تعاود الظهور بين الحين والآخر سواء في اللقاءات العائلية أو في نشرات الأخبار أو بين طيّات ذكريات من أيام الشباب أو الطفولة أو في حكايا عن حياة الوالدين.

ترشح الحرب من شقوق الجدار المطلي بشكل سيء، جدار ترقد خلفه جثث الموتى وقصص المفقودات\ين.

لقد عمل الخطاب الرسمي بحماسة على إخفاء تلك القصص وبالتالي إقصاء أصحابها وعائلاتهن\م وأحبائهن\م، كما زُرعت بذور فقدان الذاكرة القسري، وأصبح من يختفي “مفقوداً” جزءاً من “روايات الفقدان غير المعلنة”[2]، وفقًا للتسمية التي أطلقها مايكل جيلسينان. تصبح أجسادهم وصيحاتهم مكتومة، مستبعدة من الذاكرة الجماعية، يسكتها المجتمع تفادياً للعار.

لهم أسماؤهم وقصصهم:

رشيد اللداوي، لبناني، كان في الخامسة عشرة من عمره عندما خرج لشراء السجائر بتاريخ ١٠ نيسان (أبريل) ١٩٧٦ ولم يعد إلى المنزل منذ ذلك اليوم. بحثت والدته عنه في كل مكان دون العثور على أي أثر له.  لا يزال مصيره مجهولا حتى هذه اللحظة.

ستافرو أندريوتي، لبناني، كان في السابعة عشر من عمره عندما ذهب في إحدى الأمسيات من شهر تموز (يوليو) ١٩٧٨ في رحلة مع أصدقائه، ولم يعد إلى المنزل منذ ذلك اليوم. لا يزال مصيره مجهولاً حتى هذه اللحظة.

قزحيا شهوان، لبناني، كان يبلغ من العمر ٢٨ عاماً في سنة ١٩٨٠ عندما حضر عناصر من المخابرات السورية إلى مكان عمله. أخذوه للاستجواب، ولم يعد قزحيا إلى منزله في ذلك اليوم أو الأيام التي تلته. كانت زوجته نهيل تبلغ من العمر حينها ٢٥ عامًا ولديهما ٤ أطفال. لا يزال مصيره مجهولاً حتى هذه اللحظة.

آمنة حسن بنات (أم عزيز)، فلسطينية، كانت تتناول الإفطار مع أولادها في ١٦ أيلول (سبتمبر) من العام ١٩٨٢، في شقتها في بيروت، عندما طرق عناصر ميليشيا مسيحية لبنانية بابها وأخذوا أبنائها الأربع، عزيز ٣١ عاماً، وإبراهيم ٢٧ عاماً، منصور ٢٥ عاماً، وأصغرهم أحمد، الذي كان في الثالثة عشر من عمره.

على بعد كيلومترات من منزلها، وفي الوقت عينه كان الفلسطينيون يُذبحون في مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا. وضع المسلحون أبناء أم عزيز في خلفية شاحنة مليئة برجال محتجزين أيضاً واقتادوهم بعيداً عن ديارهم. لم ترَ أم عزيز أبناءها بعد ذلك اليوم أبداً، ولا يزال مصيرهم مجهولاً.

كمال جدع، لبناني. كان عائداً برفقة ابن أخيه سمعان من العمل إلى منزلهما في بيروت في ١٩ آب(أغسطس) عام ١٩٨٥، عندما تم توقيفهما عند نقطة تفتيش ليست بعيدة عن منزلهما. تم اقتيادهما بالقوة، وأخذ المسلحون سيارتهما كذلك. لم يرهما أحد بعد ذلك اليوم. مصيرهما لا يزال مجهولا حتى هذه اللحظة.

تشير تقديرات أهالي الضحايا إلى أن عدد المفقودات\ين في الحرب الأهلية اللبنانية التي دارت رحاها بين عامي ١٩٧٥ و١٩٩٠ بلغ ١٧٠٠٠ شخصاً، مصيرهم لا يزال مجهولاً حتى اليوم. في حين تمكّنت المنظمات غير الحكومية اللبنانية من تقدير أن مئات المخطوفين هم محتجزون في السجون السورية، بينما يُعتقد أن البقية أي الآلاف منهم يرقدون تحت طبقات من الردم في مقابر جماعية تنتشر في جميع أنحاء البلاد.

قد نكون جالسات\ين على مقبرة جماعية الآن. لدينا مبان شُيّدت في بيروت فوق مقابر جماعية وعلى عظام بشرية؛ وليس فقط في بيروت، بل في الشوف، وفي البقاع، وطرابلس، وجبل لبنان ايضاً… في كل مكان من لبنان.

“حيثما ذهبت في لبنان، يمكن للناس أن يزوّدوك بمعلومات عن المقابر الجماعية التي رأوها ويعلمون عنها” يقول الراحل غازي عاد، مؤسس منظمة دعم اللبنانيين في الاعتقال والمنفى (سوليد)، وهي منظمة حقوقية تعمل منذ ما يقارب ثلاثة عقود للكشف عن مصير وأماكن آلاف الأشخاص الذين فُقدوا في لبنان أثناء الحرب الأهلية وبعدها.[3]

يشكّل الاختفاء مصدر قلق للبشر، فهو نهاية وجود شخص ما وبداية حياته كقصة خفيّة. نقطة محورية في التاريخ، لا يخاف فيها الأفراد من الموت بل يخافون شيئاً يبدو صادماً أكثر، وأكثر غموضاً من الموت نفسه: الفقد والنسيان الذي يصاحب اختفاء أحد الأقارب.

أم راشد تشاهد التلفاز في منزلها في طرابلس شمال لبنان وعلى الحائط فوقها، صورة معلقة لابنها رشيد الذي خرج في 10 أبريل 1976 لشراء السجائر ولم يعد إلى المنزل…. يخبرها حدسها بأنه لا يزال على قيد الحياة.
تجلس ماغي أندريوتي في غرفة معيشتها تحت صورة ابنها ستافرو.
كان لماغي  3 أبناء، فقدتهم جميعاً في الحرب الأهلية في لبنان. ستافرو، وهو أكبرهم، كان في السابعة عشر من عمره يوم اختُطف ومازال مصيره مجهولاً. كان عمر ابنها الأوسط 9 سنوات عندما أصابت قنبلة منزلهم في السبعينيات وقتلته. أمّا ابنها الأصغر فقد قضى مختنقاً من دخان الملجأ حيث كانوا يختبئون من القصف. كان عمره حينها سنة واحدة وقد توفي بين ذراعي والدته التي كانت تحتضنه معتقدةً أنه نائم. لا تتحدث ماغي إلّا عن ستافرو، مع أنها تشعر بالحزن على ابنيها الآخرين، لكنّها ما زالت تأمل أن يعود ستافرو إلى المنزل يوماً ما.
 صورة لقزحيا شهوان وزوجته نهيل يوم زفافهما، يظهران وهما جالسين على كرسي داخل المنزل الذي ولد فيه قزحيا ونشأ لم تتزوج  نهيل مرة أخرى، كما لم تعلن عن وفاة زوجها.
تجلس أم عزيز في منزلها تحت صور أبنائها الأربعة الذين اختطفوا عام 1982. تُبقي أم عزيز النافذة فوق سريرها مفتوحة، ترقّباً لعودتهم ذات يوم، لعلهم يتمشّون في الزقاق، تحت النافذة، في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، في ضواحي بيروت. تريد التأكد من رؤيتهم عندما يعودون أخيراً إلى المنزل.
صورة لأبناء أم عزيز الأربعة، عزيز وإبراهيم ومنصور وأحمد، وهم جالسين حول طاولة في غرفة من منزلها في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في ضواحي بيروت.
عايدة تجلس في غرفة المعيشة، بجوار صورة زوجها كمال جدع. اختُطِف  كمال حينما كان عائداً إلى منزله مع ابن أخيه سمعان، المتطوع في الصليب الأحمر والذي كان قد أنهى للتو العمل في المساعدة على نقل ضحايا انفجار في بيروت إلى المستشفيات.

ظهور الدولة:

 لم تبادر الدولة في العمل على ملف المفقودات\ين حتى عام ٢٠٢٠ ، أي بعد ثلاثين عامًاً من انتهاء الحرب الأهلية، وذلك عبر تشكيل لجنة تحقيق وطنية للتحقيق في مصير المفقودين خلال الحرب[4].

في خطوة شكّلت منعطفاً مهماً لأقارب المفقودين، حدّدت اللجنة ثلاثة أماكن جغرافية كمواقع مؤكّدة لمقابر جماعية، لكنها أعلنت أنها – لسبب أو آخر – لم تتمكّن من التأكد من هويات المدفونين في هذه المقابر. كما ذكرت في تقريرها أنه ليس من الممكن اعتبار المفقودين في لبنان أشخاصٌ ما زالوا على قيد الحياة[5]، وأوصت بأن يُعتبر كل مفقود\ة لأكثر من أربع سنوات على الأقل، متوفىً.

على عكس ما كان يحدث في عهد السفربرلك، لم تكلّف الدولة نفسها عناء طلب أن ينتظر الأقارب أن “تعثّث”

القمصان الحريرية للمفقودين.

ولكن، لماذا تهاب الدولة ُ الموتى؟

 في فيلم وثائقي من إعداد قناة الجزيرة الإنكليزية حول المفقودين في لبنان، صرّح رئيس لجنة المفقودين، سليم أبو إسماعيل، إن “التحقيق الذي قاده افتقر إلى إرادة تقديم أي نتيجة وأنه يعتقد أنه لا ينبغي معالجة هذه القضية” …مضيفا”: “ما فائدة التنقيب عن آلاف الجثث في هذه الأماكن وإثارة مشاعر الناس من جديد؟”[6]. وكانت الحكومة اللبنانية قد أصدرت عام ١٩٩١ قانونها الشهير، أي قانون العفو ​​العام، وذلك بعد ١٥ عاماً من الحرب الأهلية. وفي محاولة للحفاظ على رواية شاملة واحدة لم تكتفِ بالعفو عن أولئك الذين شاركوا في الحرب، بل أعفتهم أيضاً من أي التزام بالإدلاء بشهاداتهم أو مشاركتهم التفاصيل حول مصير المفقودين. وهكذا، أصبح ما تبقى قصة مليئة بالثغرات.

تمتلك قصص المفقودين، عندما تُروى أو تُستَذكَر، القدرة على ملء تلك الثغرات وردمها بمجرد استحضار مفقود\ة. يشكّل هذا التنقيب السردي ثقافةً مادية مضادة لخطاب السلطة المهيمن، تلك السلطة التي تعمل جاهدة لعرقلة أي بحث عن البقايا المادية للمفقودين – بقايا جثثهم أو غيرها. ويعيد التنقيب تغذية ذكريات الحرب بمنمنمات المفقودين أنفسهم: المقابر الجماعية، مراكز الاحتجاز السرية، الأماكن التي فُقِد فيها الكثير من الناس…

الموتى الذين يريدون أن يتم العثور عليهم

يقول الناشط والكاتب والناشر الراحل لقمان سليم، مؤسس ورئيس جمعية أُمم للتوثيق والبحوث، والذي اغتيل في جنوب لبنان في ٤ شباط ٢٠٢١، في تقرير وثائقي أعدّه راجح عمر: “أعتقد أن الموتى يقرعون، عن غير قصد، أبوابنا. فكثيراً ما يتمّ العثور على مقبرة جماعية خلال القيام بأعمال حفر لتشييد بناء جديد.” وبينما تتجاهل الحكومة محنة العائلات، تقوم المنظمات غير الحكومية بجمع المعلومات عن المقابر الجماعية المحتملة على الأراضي اللبنانية. “عبر استخدام الروايات التاريخية للمعارك، يتابع سليم في المقابلة “تقوم “أمم” بوضع مخطّط لتحديد المواقع المحتملة لاستخراج المقابر الجماعية في جميع أنحاء البلاد “. وأضاف أنه يستطيع القول بثقة “أن جميع المقابر في لبنان، وتحديداً في بيروت، من المحتمل أن تضم مقابر جماعية صغيرة أو كبيرة …مكبّات اعتادت الميليشيات من الطرفين رمي الجثث فيها.”[7]

كتب وديع أسمر، رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان، في مقال بملحق لل UNDP (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، عن احتمال وجود ما يقدّر بنحو ٤٠٠ مقبرة جماعية منتشرة في جميع أنحاء البلاد. وقد وثّقت جمعية “أمم” حتى عام ٢٠١٧ حوالي ٢٠ موقعاً لمقابر جماعية في لبنان،[8]  في حين لم تسمح الحكومة بعد بالتنقيب عن المقابر الجماعية.

المزيد من قصصهم

 بعد بضعة أشهر من انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان (أبريل) من العام ٢٠٠٥، وللمرة الأولى منذ الحرب، تم اكتشاف مقبرتين جماعيتين، الأولى في عنجر، على بعد حوالي ٥٨ كم شرق لبنان، والثانية في منطقة اليرزة التي تقع على بعد حوالي ١٠ كم فقط شرق بيروت. في عنجر، تم انتشال ٢٥ جثة يعود معظمها لمدنيين، بينما في اليرزة، كانت الجثث الـ ١٢ التي تم العثور عليها في مقر وزارة الدفاع تعود لجنود فقدوا بتاريخ ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ١٩٩٠.[9]

 هذا وتم العثور في تشرين الأول (أكتوبر) عام ٢٠٠٥، أثناء أعمال تنقيب على طريق المطار في الضاحية الجنوبية لبيروت، على رفات عُرفت أنها رفات الكاتب والباحث الفرنسي ميشيل سورا وقد أُعيدت بعد ذلك إلى فرنسا في آذار / مارس من العام ٢٠٠٦.

كان سورا يبلغ من العمر ٣٨ عاماً عندما تم اختطافه مع زميله جان بول كوفمان فور وصولهما إلى العاصمة اللبنانية في عام ١٩٨٥. وأكّد كوفمان، الذي تم إطلاق سراحه مع رهائن آخرين في عام ١٩٨٨، أن سورا توفي جرّاء إصابته بالمرض أثناء فترة أسره في العام التالي لاختطافهم.[10] 

في نفس العام الذي اختُطف فيه سورا، اختطَف مسلحون في آذار (مارس) ١٩٨٥ الصحفي البريطاني أليك كوليت بالقرب من مطار بيروت، عندما كان في مهمة لوكالة الأونروا وذلك لتسليط الضوء على محنة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان. وقد تمّ لاحقاً إطلاق سراح سائقه الذي اختطف معه، لكن كوليت ظل في عداد المفقودين.

في العام التالي، زعمت جماعة فلسطينية مسلّحة تطلق على نفسها اسم “تنظيم أبو نضال” أنها قتلته. وتم نشر مقطع فيديو لرجل مقنّع يتدلى من السقف، قيل إنه كوليت، لكن لم يتم التحقق من هويته أبداً. في السنوات التي تلت ذلك، أُقيم العديد من عمليات البحث للعثور على بقايا كوليت، لكن دون جدوى.[11] وفي نوفمبر ٢٠٠٩، عثر فريق بقيادة خبراء بريطانيين على جثة كوليت بعد 3 أيام من الحفر في عيتا الفخار في سهل البقاع، إلى جانب جثة أخرى، وكذلك تم العثور على جثة رجل مجهول الهوية يرتدي زياً عسكرياً على بعد ٢٠ متراً من مكان جثة كوليت.

أظهرت لقطات بثّتها قناة إل بي سي الإخبارية المحلية حفارة تقوم بحفر التربة بوجود عشرات الرجال في مكان اكتشاف الجثتين، وقد كانتا محاطتين بأكوام من الأنقاض. وقد ذكر تقرير القناة أنه تم أخذ عينات حمض نووي من الجثتين من أجل تحديد إن كانت إحداهما تعود فعلًا لكوليت. [12]

لم تتطرق معظم التقارير المُعدَّة حول البحث عن رفات كوليت إلى موضوع مصير الرجل الثاني. وكان الصحفي اللبناني عفيف دياب- الذي كان في موقع الحفريات- قد ذكر في مقال كتبه حينها[13]، أن الجثة الثانية أعيدت إلى التراب لتُدفن من جديد.

في نيسان / أبريل ٢٠٠٨، أُذيع في وسائل الإعلام اللبنانية عن وجود مقبرة جماعية في منطقة حالات، على بعد ٣٢ كلم شمال بيروت. وأظهرت لقطات اخذتها قناة OTV أثناء تغطيتها المحلية للحدث، حفاراً يحفر تجويفاً بعمق مترين في خندق إسفلتي ضيق يبلغ طوله حوالي 30 متراً ووصف الصحفي الحفريات[14] بأنها ضيقة جداً بحيث لا يمكن حساب أي هامش خطأ أثناء الحفر. وقد أفاد السكان المحليون أن عرض الطريق حيث تجري الحفريات كان يبلغ ٤ أمتار أثناء الحرب.

وفقًا لتقرير غازي عاد من جمعية سوليد، لم تكن أعمال التنقيب مطابقة للمعايير الدولية لجهة استخدام المعدات وتأمين محيط البحث وحين لم يتم العثور على جثث، تمّ ردم الحفرة مرة أخرى.

وقد ذكر الصحفي في التقرير ذاته، روايات غير رسمية عن مقاول قام بأعمال حفر في نفس الموقع عام ٢٠٠٢، وقد عثر حينها على أكياس “تفوح منها رائحة كريهة”. ويدّعي المصدر أن الأكياس أعيدت إلى التربة وغطيت بالردم.[15]

بحثاً عن الفراشات الزرقاء

  بينما لا يرى المسؤولون اللبنانيون أي جدوى من التحقيق في مواقع المقابر الجماعية، أو إخراج الجثث إن وجدت وإراحة العائلات من عبء انتظار مفقوديهم قسرياً، تظهر خطوات أخرى ممكنة.

فاستعادة الرفات وكشف تفاصيل المجازر وإحلال العدالة والسلام التي تطالب بها أسر المفقودين، ما هي إلّا أحلام يفرّقنا عنها قرار سياسي واحد.

في البلقان، تعمل عالمة الأنثروبولوجيا والطب الشرعي مارغريت كوكس[16] على تحديد مواقع المقابر الجماعية المشتبه بها وحفرها واستخراج جثث ضحايا القتل الجماعي. كما تعمل جاهدةً لاستعادة أدلّة جلسات الاستماع والمحاكم الدولية، مما يسمح لها بإدانة المسؤولين عن عمليات القتل والإخفاء وكذلك تحديد هوية أصحاب الرفات المستخرجة وتسليمها إلى عائلاتهم. وتسمّي كوكس عودة الرفات ليتم دفنها من قبل الأشخاص الذين تعنيهم هذه الرفات لكي يتمكنوا بعد ذلك من المضي قدمًا في حياتهم”، “نقطة النهاية المنشودة” .

تبحث كوكس في دراستها عن الفراشات الزرقاء التي تتغذّى فقط على زهرة الأرطماسيا (Artemisia vulgaris) وهي زهرة برية تنمو على “الشذوذ الجيوفيزيائي”، والمعروف أكثر باسم “المقابر الجماعية”. 

في عام ١٩٩٩ نمت هذه الزهور بشكل كثيف في كوسوفو بعد الإبادة الجماعية بحق ألبان كوسوفو على يد الصرب. وفي البلقان، كانت سحب من الفراشات الزرقاء تتهادى متطايرةً بمجموعات كبيرة فوق أجمّة من نبات الأرطماسيا التي نمت فجأة في المكان. أدى التغيير في مستويات المغذيات في التربة والاضطراب في مخزون البذور الخاملة إلى ظهور مثل هذه المستعمرات النباتية الكثيفة. 

تمكّنت المقابر الجماعية من إخفاء ضحايا الإبادة الجماعية في كوسوفو في تسعينيات القرن … لكن، ليس من السهل إخفاء الموتى. فهم يتسرّبون إلى التربة، … يغذّون الأعشاب البرية، ويجذبون الفراشات.”[17]

 في لبنان، نعيش في انتظار الفراشات الزرقاء، باحثات\ين عن أدلّة وقصص.

ترجمة: حسين ناصر الدين


[1] الخالدي، عاصف. “في ذكرى اغتياله: هكذا أنقذ غسان كنفاني الحكاية عن فلسطين”، حفريات، 2019.

“الحكاية التي لا نكتبها، حكايتنا التي لا نكتبها، أتعرف ماذا يكون مصيرها؟ اسمح لي يا غسان، أن أسألك، أسألك من قلبي، فأمامك يمكن أن أصرخ أو أجنّ وألا أحسّ بإحراج، لأنني أحدِّثك أنتَ، لأنك منا؟ هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنها تصبح ملْكاً لأعدائنا!”.

https://www.hafryat.com/en/node/10661?language_content_entity=en

[2]جيلسينان، مايكل. Lords of the Lebanese marches: violence and narrative in an Arab society. مطبعة جامعة كاليفورنيا، ١٩٩٦.

[3]   الحلقة الأولى .BBC World Sevice, The Documentary Open Eye  خميسي، داليا وشيستيرون، بينامين.
https://www.bbc.co.uk/sounds/play/p00d0vhb.

المقابلة في وسط بيروت، خيمة أهالي المخفيين قسرياً، سنة 2010.

[4]المفكرة القانونية (٢٠١٤) Lebanon’s Disappeared: Ruling Consecrates Right to the Truth.
https://english.legal-agenda.com/lebanons-disappeared-ruling-consecrates-right-to-the-truth/

[5]المصدر السابق

[6]تقرير راجح عمر –  Lebanon: What lies beneath (تشرين الأول ٢١، ٢٠١٠). Al Jazeera English.

https://www.youtube.com/watch?v=yhoyts-eGXk

[7]المصدر السابق

[8] الأسمر، وديع (نيسان ١، ٢٠١٧)Mass Graves in Lebanon: Remnants of the Past or Challenges for the Future?https://www.salamwakalam.com/articles/challenges/185/mass-graves-in-lebanon-remnants-of-the-past-or-cha/en

[9]الجزيرة (تشرين الثاني، ٤، ٢٠٠٥) العثور على مقابر جماعية في لبنان. 

https://www.aljazeera.com/news/2005/12/4/mass-grave-found-in-lebanon

[10]BBC News. .آذار ٧، ٢٠٠٦) لبنان يعيد بقايا الرهناء) 

http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/4782896.stm.

[11] BBC News. (تشرين الأول ٢٣، ٢٠٠٩).  التعرف على جثة الصحافي اليك كوليت في لبنان.

http://news.bbc.co.uk/2/hi/uk_news/8375263.stm

[12]يوتيوب، رُفع بواسطة قناة Memoryatwork. (كانون الأول ٢٠، ٢٠١١) أليك كوليت.

https://www.youtube.com/watch?v=eZgQYDlF-9g

[13] دياب، عفيف (تشرين الثاني ٢١، ٢٠٠٩)

«الراي» تنشر القصة الكاملة للعثور على رفات الصحافي البريطاني https://www.alraimedia.com/article/150228/خارجيات/كشفلغزاليككوليتبعد-24-عاماعلىخطفهوإعدامهوبيروتتواجهلغزمقبرةجماعيةفيموقعسابقلفتحالمجلسالثوري

[14]يوتيوب، رُفع بواسطة قناة OTV عبر جان عاصي. (نيسان، ١٦، ٢٠٠٨). مقابر حالات الجماعية.

https://www.youtube.com/watch?v=dvxh3H34Ozw

[15]المصدر السابق

[16]  Warner, Harriet. (July 18, 2004) The butterfly hunter.

https://www.independent.co.uk/news/world/africa/the-butterfly-hunter-553266.html?r=3469

[17]وارنر، هاريت. (تموز ١٩،٢٠٠٤)  The butterfly hunter.

https://www.independent.co.uk/news/world/africa/the-butterfly-hunter-553266.html?r=3469