صوت صارخ في البريّة – إلى طارق العريس

هدى بركات

علي شري, من مجموعة "الموت من الداخل", ألوان مائية. ٢٠٢١

أبعد من وحشة البراري

لا أحد يعلم من قصد أشعيا في نبوءته. قال أشعيا إنّه آتٍ، ذلك الصوت الصارخ في البريّة “أعدّوا طريق الربّ. قوّموا في القفر سبيلًا لإلهنا”. لكنّ أشعيا، ككل أنبياء العهد القديم لم يذكر إسمًا.

وتشير بعض الأناجيل الأبوكرافيّة، تلك التي أعدمتها الكنيسة، إلى أن يوحنّا – يحيى المعمداني – الذي كان شرّيد القفار، يلبس وبر الإبل ويقتات الجراد والعسل البرّي، ويقوّم سبل الربّ الإله ويُعدّ صارخًا في الناس طريقه، تشير هذه الأناجيل إلى أن يوحنا فوجئ حين رأى يسوع الناصري في رهط من أتباعه على ضفّة النهر يطلب المعموديّة، إذ كان يعتقد أنّه هو نفسه المسيح المنتظر. وإذ كان يوحنا يعمّد الناس لأجل توبتهم والتكفير عن خطاياهم، إلاّ أنّه عمّد الناصري دون اعتراض أو تحفّظ. ولو كان يعتقد أنّ الناصري هو المسيح، لما وجد له خطايا تستوجب المعموديّة أو التوبة…

الصوت (الصارخ نفسه) والذي حبلت به أمّه العجوز وحيث ظهر الملاك جبريل يبشّر الأب زكريا بذلك الحمل النوراني، ما يشابه كثيرًا تلك البشارة التي جاءت لمريم من جبرائيل نفسه عن حمل نوراني آخر عجائبي حيث سيهدي الطفلُ الخلاص للعالم… فارق العمر بين الولادتين لم يتجاوز ستة أشهر. وإذن كان في طيّ الحكايتين ما يقرّب يوحنا من علامات تخوّله أن يكون هو المسيح… ولمّا طالت إقامته في السجن أرسل إلى الناصري يسأله إن كان نسيه في غياهب سجن هيرودس، بل إنّ يوحنا حمّل تلميذين من تلاميذه رسالة تقول ليسوع: “مهلًا، هل أنت حقًّا المسيح؟ إن كنت ترفع الظلم عن الناس جميعهم فلماذا لا ترفعه عني؟ ألست قريبك إبن صابات؟ بل أقرب الناس إليك وكنتَ تكرز بذلك؟”.

لا ندري ما كان الجواب عن السؤال الذي حمله التلميذان. لكن في إنجيل لوقا ردّ غير واضح البتّة، ويقول بالمختصر إن المسيح يجيب بالأفعال والعجائب وليس بالأقوال !!! 

وستنتهي سيرة يوحنا برأسه مقطوعة مقدّمة على طبق ثمنًا لرقصة غواية شهيرة من ردفي المراهقة سالومي. أمّا جثمانه الذي رُمي في الفلاة فقد عمد تلامذته إلى رفعه ودفنه. هم التلامذة أنفسهم الذين سيعمدون إلى إعلانهم يسوع الناصري مسيحًا لليهود، وسيتبعونه مؤمنين ومبشّرين. لكن بعد سنوات قليلة سيعلن “المعمدانيون” أن يوحنا كان هو المسيح، ولأنّه قُتل قبل الأخير، فقد استغلّ الناصري موته ليبشر بملكوت الرب “أبيه” كما كان يقول. وفئة من هؤلاء، عُرفوا بالـ”مندائيين” ذهبت إلى اعتبار الناصري عدوًّا للمعمدان…

رسامو الكنائس والكاتدرائيات الأوروبيّة أحبوا المعمدان، لكن أيًّا منهم لم يجعله أشقر مثلما فعلوا مع الناصري لتقريبه من الانتماء إلى جنسهم، ورغم معرفتهم بسحنات الناس في فلسطين. أعني لم يجعله أحد منهم في منزلة النسب. بقي أقرب إلى حيث ولد وعاش… أبوه زكريا كان يُصوّر بملابس تركية وهو يتلقّى البشارة السماوية. وحده – من مشاهير المعلّمين – ليونار دافنشي أعطاه تلك الملامح الرائقة والشعر المجعّد لكن المشذّب. كان مبتسمًا بهناء وغواية، مشيرًا بيد أنثوية إلى السماء، لا صارخًا، ومن دون برارٍ تحيط بالبورتريه، من دون شخوص الحكاية، وبالرأس المستقر بنعومة على الرقبة عاري الكتف. فيما كارافاجيو يترك الرأس المقطوع بفم نصف مفتوح عن كلام، عن صراخ كأنّه انقطع، وبعينين مسبلتي الجفنين كأنهما أشاحتا عن الضوء استسلامًا للقوي وقد استتبت قوّتُه…

ويبقى مكان دفن يوحنا غير مؤكّد. أفي يهودا أم في السامرة. لا يعرف أحد له قبرًا لينصت إن كان صراخه ما زال يعلو ليشقَّ أستار الليل. 

في أصل الحكاية التي ينبغي أن تكون هداية للعالمين، وأمثولة للعدالة في الأرض، هناك إذن التباس. ربما تكون اليصابات العجوز قد توفيت قبل قتل ابنها، ولو كانت ما زالت حيّة لذهبت ربّما إلى مريم نسيبتها وأم الآخر، وربما لم تفعل وقعدت في بيتها تتفكّر وتقول لنفسها إنّها لم تحذّره بما يكفي من وحشة الأنبياء، إنّه ربّما ما كان على ابنها أن يصرخ هكذا في البراري حتى صار ذلك “الصوت الصارخ في البريّة”.

ليست البراري منتهى الوحشة يا يحيى.

***

 في بئر يوسف

يوسف كما موسى من أبناء يعقوب. لهما بين الصحراء والماء حكايتان.

استوحش موسى من قومه وانفرد عنهم حين وجدهم في الصحراء وقد انفضّوا عنه وعن رسالته إلى عبادة عجل الذهب. وشكا موسى أمر قومه إلى الربّ صارخًا إليه أنهم لا يريدون السير وراءه أو معه إلى أرض الميعاد. وهم قالوا إنّهم لا يريدون القتال مع سكّان تلك البقاع الخضراء. قالوا لموسى إذهب وقاتلهم لوحدك. نحن سنبقى هنا. وسأل موسى الرب كيف أفعل وأنا لوحدي؟ فجاء القضاء بالحكم بأربعين سنة من التيه في صحراء سيناء، حيث مات موسى دون أن يرى الوعد… ربما لم يفهم موسى كيف أن من شقّ له الماء ليهرب وقومه من الفرعون لم يلتفت إلى استغاثته، كيف من حمله ماء النهر رضيعًا في قصعة من قش إلى بيت الفرعون سيتخلّى عنه تاركا إيّاه في وحشه الفلاة وأمام عينيه قصاص العجل. ليعيد حكم الربّ موسى، من غير ذنب ارتكبه، إلى الصحراء التي هي القصاص المبرم.

يوسف سار به إخوته في الصحراء. وفي الصحراء واتتهم أفكار الحسد اللعين. وفيها تآمروا عليه وألقوه في بئر. لم يقتل الإخوة يوسف، ولا وحشة البئر قتلته. ربما تكون رطوبة أو مياه في قعر تلك البئر ما كسر وحش العطش فأنساه كره إخوته له. إذ كره الإخوة هو الصحراء لا رملها الحارق. وفي هذا القعر قد يكون يوسف رأى مجدّدًا أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر ساجدين له، فنسي إخوته. ونسيان الأذية رحمة، لكنّها رحمة لا تدوم، بل إنها قد تنقلب سمًّا قاتلًا. من يستطيع أن ينسى؟ القادر أم الضعيف؟

في تشابه السحنات، سحنات الشر، واستقرارها على الوسط العادي منها، ألفة وحرارة الاندماج والخلط وميوعة الحدود الفاصلة. نوع من بركة الكثرة. لكن يوسف كان جميلًا، أي شاذًّا عن تلك الكثرة. مرتفعًا عنها ومكشوفًا للأذية. كان لا بدّ متشاوفًا بجماله، عنجهيًّا ومتكبّرًا. حتّى إنّ أباه كان يفضّله عنوة وعلنًا على إخوته جميعهم. والنفس تعرف أنّ اكتمال الجمال هو قتل صريح لكلّ ما ومَن عداه. فهل صفن يوسف وتفكّر في تلك البئر، حيث الوحشة حبل الحكمة؟ هل فهم حسد الإخوة ليرتّب عفوه المقبل عنهم؟ هل كان يوسف يكبر في بئره حتى سامح إخوته؟ أم أنّه كان من بطش قوّته أن أعطاهم ما كانوا يطلبونه من عزيز مصر كي  يتخلّص من إخوته بنفيهم إلى النسيان؟ 

أولا يكون النسيان بحدّ ذاته أملًا في الخروج من البريّة؟ لم نسمع عن محاسبة للإخوة المجرمين على ذنبهم العظيم. هل سامحهم يوسف من أجلهم، حبًّا بهم ومقدرة من كِبَر نفسه؟ أم أنّه سامحهم لينساهم، ليطوي صفحة تلك الرابطة، وليخرج من البئر ومن البريّة؟

***

في توحّش الصوت

قد ينسى الرجل البالغ موت صوت الطفل فيه. قد يودّعه إلى غير رجعة. أحيانًا بشيء من الشجن، وأحيانًا أخرى من دونه.

يشبه خروج ذلك الصوت من الطبقات العالية، بفعل استبداد هورمونات الذكورة، إلى القفر، أي إلى عالم البالغين الموحش. إلى القفر. وعليه إذّاك أن يتغوّل في بلاد الغيلان، وأن يتوحّش في بلاد الوحوش، كما تعلّم استعدادًا لعمره المقبل، لكن، وفي الوقت نفسه، وكما تعلّم أيضًا، عليه أن يشيع فكرة العدالة، والرحمة والدفاع عن الحقّ وعن الضعيف…

عليه أن ينسى نصف عمره الأوّل. عليه أن يقبل وداع الطفل ليكون من القوّة الذئبيّة بحيث لا تأكله الذئاب وأن يحمل الرحمة وأفكار الحق والعدالة التي لا تعرفها الذئاب. أي أن الذئب الذي سيعوي جوعه في الليل وحيدًا عليه أن يخترع في عوائه ثغاء النعجة.

يتغير زئير اللبوة وينزل في نوطات منخفضة وهي تطرد الشبل الغرير وتبعده عنها، عن ثدييها وعن حمايتها. فهو وقد اشتدّ عوده لم يعد بحاجة إلى أمّ… وهي تفعل ذلك أيضًا لو رأت شبلها جريحًا، وشمّت منه رائحة موته القريب. تفعل اللبوة القوية ذلك خوفًا على أشبالها الأصحّاء ولن يشفع به مواؤه الضعيف. وهي لن تلحس جروحه ولن تقترب لإرضاعه مهما اشتكى.

كيف نعترف بصعوبة اقتناء الحنجرة الملائمة للمواء والزئير معًا؟

نحن، السلالات العاطفيّة التي لا تحبّ فجاجة الواقع وتفضّل خرافات الندب والبكاء على الأطلال، لا تشبه حكاياتُنا حكايات السلالات الأخرى. في حكايات الأطفال، من السلالة الجرمانيّة أو السلتية مثلًا، تبدأ الحكاية بتخلّي الأهل عن الأولاد، بطردهم إلى الغابة. إمّا بسبب الفقر(“الإصبع الصغير”، “هانسل وغريتيل”)، وإمّا في نزوع الأب – أو الخالة – إلى التعدّي على الطفل حدّ النشاز أو ارتكاب المعصية – الأب الذي يريد الزواج من ابنته في “جلد الحمار” مثلًا إلخ… في هذه الحكايات تشكّل عيوب الأهل من البالغين توطئة لاحتمالات عالم القسوة، كأنّها تمهيد لضربات محتملة، أو أكيدة، مقبلة. هكذا يسير أطفال الحكاية في الغابة وحيدين، معرّضين للوحش المتربّص، قبل مواجهته صراحة. شيء يشبه التمرين لا أعتقد أن لدينا ما يشبهه في القصص المأخوذة من عوالم ألف ليلة وليلة والسيرة الهلاليّة، وهي أصلًا قصص للكبار والبالغين.

***

كيف نخرج من البئر إلى إخوتنا، من رأس يحيى إلى الأناجيل المعتمدة؟ من الطريدة إلى الوحش الكاسر؟ من القفار إلى الواحات الإنسانيّة التي تموج بالخضرة؟

بالنسيان؟

لا يكفي النسيان. ينبغي الذهاب إلى ما بعد النسيان، إلى التأليف. التأليف للموالفة، وللتوليف وللتآلف أيضًا. ينبغي لنا أن نؤلّف، أي أن نخترع ونجعل من الإنشاء عالمًا ناجزًا. ثمّ نُعمل كافة أدوات العقل لنصدّق، ولنكون سويّة، مع بعضنا، بعيدًا عن وحشة التفرّد، مستأنسين في تقارب أجسادنا وفي أوهامنا، لننجو من وحشة القفر…

كأن يلحّ أب القاتل على المطالبة بالعدالة، ويلحّ أب القتيل على المطالبة بالعدالة إيّاها، جنبًا إلى جنب وبصوت واحد، وعلى منصّة الكراهيّة الواحدة.  ونكون من أجل ذلك معًا، في لحمة وطنية قويّة أبديّة. جبلًا وساحلًا، برًّا وبحرًا.

والبر، هو اليباب وهو البريّة، ذلك الذي ينتهي عند حدّ الماء، ذلك الذي يستحضر البحر بقوة. كبحر بيروت الذي انفجر وغدا قفرًا. بحر قفر. لكنّه ممنوع من الموت رغم تكدّس الجثث في لججه. إذ يبقى الأمل في الإرادة. أنظر في اخضرار القمح النابت على أكياس النترات.

كأن ترسل مصانع الشعراء والمغنّين الأنشودة نفسها في أنّ حب الوطن هو برفض موته. مشكوك في ذلك الموت مهما تكرّر. ذلك الرفض لموت المدينة سيخلّص ضمائرنا من مسؤولية الضلوع في القتل. بين المسلسل التركي وعجائب القدّيسين تلزمنا البراءة لنكون معًا في احتمال قسوة الحياة. وصكّ البراءة هو في ارتفاع العويل على القتيل وأيضًا في المطالبة بالحق وبالعدالة من قاتله. تلزمنا البراءة ويلزمنا إنشاء الفجيعة من أجل قتل الموت الذي يقتلنا، من جديد.

ممنوع الموت، لأنّنا إن تركنا البلاد تموت فسيتوجّب علينا أن ننظر وأن نفكّر في ما يتطلبه الانبعاث إلى الحياة من جديد. ولا طاقة لنا على ذلك. ممنوع اليأس ومفروض علينا الأمل. يسمّون ذلك في المستشفيات ربط الميت إلى الحياة بالقوّة. منعه من الركون إلى استحضار ملاك الموت. منتهى القسوة.

كان القتلى ما زالوا تحت الركام في اللحظات القليلة التي تتيح الوعي المضمحل. كانوا يسمعون الصراخ على رؤوسهم بأن انهضوا. انهضوا. وكأنّ باستطاعتهم ذلك. وكأنّهم في موتهم مذنبون ويقتلون أنفسهم. مذنبون بتركنا في الشقاء لوحدنا. مذنبون في خسارتنا التي لا تُحتمل. هكذا يبدو الأمل قصاصًا ونفيًا. 

في ساحات الحروب، حين تنتهي المعارك، كان هناك جندي البوق. لا يهم إن كان من الرابحين أو الخاسرين، الغالبين أو المغلوبين، كان يبقى في ساحة المشهد الأخير ليرسل من بوقه لحنًا حزينًا، حدادًا على القتلى من الطرفين، وأيضًا وداعًا للجرحى المتروكين إلى موتهم القريب. ليعلموا ربما بهذا الموت ويستعدّوا له. وكانت النادبات ينتظرن أن يُسجّى الميت على سرير أو محفّة الموت بعد مراسم تهيئة الجثمان ليبدأن البكاء والعويل والأناشيد الجنائزية… نحن لم نفعل ذلك. نحن لا جنديَّ ولا لحنَ جنائزيًّا لنا. لا برزخَ لعبورنا. نحن نردم الفراغات كلّها من أجل ما نسمّيه الأمل، الأمل بالأمل، من أجل أن يكون لنا أمل. أمل بالسراب، أمل بقوة السراب. ماء الصحارى البديع.

نحن هربنا إلى التأليف. نحن أقوى شعوب الأرض في التأليف. تأليف فوري من الفراغ وبالفراغ، من نفسه وبنفسه. وها نحن نوكل أنفسنا رغم ظروفنا الصعبة بتجديد وتحديث مزامير داوود واحدًا واحدًا، بإعادة تأليفها، شعرًا ونثرًا وأغاني وفنونًا، على أساس داتا جديدة بالكامل… انهضوا. انهضوا لئلا نعيد النظر. انهضوا لنستعيد الكراهية والحروب. فورًا.

قال المذيع الألمعي، العاطفي والمفجوع، قال للمرأة التي قتلوا إبنها “لكنّ déjà ينبغي القول، الاعتراف، بأنّ العدالة فكرة مجرّدة، قيمة مطلقة. إنّها كالحقيقة، من لدن الآلهة. ونحن لسنا سوى بشر. So هذه ورقة بيضاء. لا تموت قضيّة وراؤها مُطالب. اكتبي، ارفعي مطلبك المحقّ إلى السماء… So اطلبي من السماء. اصرخي في البريّة تسمعك السماء. هل لك سوى السماء؟”.

يا لتلك السماء التي صارت منفانا القسري. أقسى الصحارى وأقصى البراري. هذه مقصلة القداسة  والقدر معًا. سقف لمن لا بيت له، جواب “نهائي” لكافة أنواع الأسئلة… 

تبقى بيروت قفرًا ببرّها وبحرها، وفي الهواء الفاسد الرومنطيقي. هي التي ابتُليت بكارثة السجع والاستسهال الفظيع. بيروت ما بتموت. بيروت البيوت إلخ إلخ مما يتناسب مع “وووت”… لا نحتمل الصمت ولو رمزيًّا، ذلك الذي أفردوا له من الوقت دقيقة. فالصمت هو العراء. والعراء يستدعي التفكير. لنا مثال في أسفار الأنبياء وارتحالهم وعزلتهم في الصحراء.

والأنبياء، شفعاؤنا، رأوا من صحارى الغيب أن الربّ حين يغضب يرسل الكوارث والأوبئة لنتّعظ. صارت المخلوقات تصرخ في الزحمة الخانقة. لا تلمسني. لا تلمسني، أنت تلمسني باستمرار. قال الذئب اتركوا لي فضاء صغيرًا مربّعًا بمساحة دفتر لأعوي قليلًا قبالة القمر. لكنّنا لا نتّعظ. نزل الذئب إلى المدن الفارغة بفعل الوباء، وراح يمشي في ساحات المخازن الكبرى وتحت نيون الإعلانات التي فاتت تواريخها. لكننا لم نتّعظ. رحنا ننوح نواحَ الثكالى ونقول المسني. أرجوك أن تلمسني… فأنا وحيد وبريء ولا طاقة لي على التوحّش كمستذئب. لم أشرب منقوع المخالب، ولم أنم تحت نور القمر البدر، وفعلت بما أوصى به قدامى الكهنة. أشفق عليّ أيّها الذئب، يا أخي…

 الآن، وفي ما عدا ذلك رحنا إلى الفيسبوك. صار لنا ضد وحشتنا آلاف الأصدقاء. 

خذني إلى صفحتك. عدّدني إلى ما لانهاية. أنت لا تعرفني. أنا لا أعرفك لكننا سنتعاضد. خلّصني من صحرائي اللامتناهية، وتعالَ نصرخ في البريّة. معًا…

أدركنا يا أشعيا!