صمت الأخضر

كارين ضومط و نور عويضة

يقال أن للأحداث رنين تخترق ذبذباته الأجساد، فتبقى هائمة فيها ولا تتلاشى أبداً.
يقال أن الرنين اللامتناهي يعيق تشكيل الأفكار والذكريات.
يقال أن الكتابة هي محاولات إدراك تلك الاصداء والقبض عليها وتثبيتها.

-١-

نخاف أن تتسلل منا الكتابة وتختفي: لماذا يحصل ذلك دوماً يا نون؟
وهل نقوم فعلاً بكل ما بوسعنا لنحفظ الكلمات ابداً؟
جلسنا في المطبخ الأصفر ذو الشرفة المطلة على بحر بيروت،
وتحدثنا عن ذلك.
سجلنا ما كنا نقوله في تلك اللحظة، خوف أن ننسى.

 وقفت إيڤلين في المطبخ الأبيض حيث وضعها تيد فيندت، صامتة وكأنها تستمع إلينا.

اردت تلك الجملة الممدودة على الجهة السفلى للصورة اعلاه،
ان تكون عنوانا لهذا النص :هل كتبتِ شيئاً في الآونة الأخيرة؟
هو سؤال وجهه أحدهم وهو جالس خارج الحقل البصري
لإيڤلين الواقفة في ذلك المطبخ الأبيض في مدينة فيلادلفيا الأميركية.
السؤال بالإنكليزية وترجمته على الشاشة بالألمانية،
فلقد التقطتُ هذه الصور في أرشيف الأفلام في برلين،
في صيف سنة ٢٠١٩.
الأرشيف مجاور لمقبرة صغيرة،
في مجمع ثقافي إسمه Silent Green أي الأخضر الصامت.
ذكّرني هذا الاسم بما قاله صديق لنا مرّة عن صمت الأشجار عن مآسينا، لامبالاتهم بنا.
ما رأيك بهذه الترجمة إذن: صمت الأخضر!
هل يمكن أن يكون لنص ما عدّة عناوين، بعدد أصواته؟

سُئلت إيڤلين إذن: هل كتبتِ شيئاً في الآونة الأخيرة؟
فسكتت ولم تقل شيئاً.
وبدى لي هذا السؤال موجهاً اليّ،
وأنا جالسة في الغرفة الصغيرة وراء طاولة الستينبك،
في الأرشيف الذي كان محرق قبل عشرات السنين فقط،
مكان كان قد اختار فيه البعض أن يتحولوا إلى رماد.

دوّنت على دفتري الأزرق:
٢١ تموز. لأننا نموت، والأشياء واللحظات تموت،
الأفلام هنا قد ماتت منذ زمن،
أو أنها دفنت حيّة، في علب محفوظة في ذلك المحرق،
والمقبرة المقابلة تسهر عليها.

في مشهد آخر، خرجت إيڤلين برفقة كال إلى المكتبة المجاورة،
وبينما كان هو يتباهى بقراءاته وكتاباته، ينطق بجمل طويلة ومعقدة،
كانت هي تسكن صمتها وتجول فيه وكأنه خلاصها الوحيد.
بعد وقت، أخرج كال إيڤلين عن صمتها الصاخب وسألها:
هل تحتفظين بدفتر مدوّنات؟

في اللحظة التي التقطتُ فيها صمت إيڤلين،
شعرتُ بإمتنان شديد للسينما. هل تفهمين قصدي يا نون؟
ألا تتفاجئين حينما تجدين لنفسك مرآة في شخصٍ آخر،
وهو في عالم مواز لك،
لا يعرف حتى أنكِ التقيتِ به؟

هل تذكرين يا نون أنك أنت أول من رأى إيڤلين؟
  .كان ذلك آخر مرة كنا فيها سوية صيف ٢٠١٩ في مرسيليا
هل كنتِ تعلمين أن إيڤلين هو اسم أول صديقة لي في الطفولة؟
هل رأيتِ يومها في وجه إيڤلين صدى طفولتها وطفولتي معاً؟
هل لهذا السبب ناشدتني أن أشاهد “الفترة الكلاسيكية”
بعد أن كنتِ شاهدته أنتِ في اليوم السابق؟

في ذلك الصباح بعد أن إلتقيتُ بها – يا للذة السينما عند الصباح! –
لم أكتب سوى جملة واحدة على دفتري الأزرق،
جملة كتبتها في العتمة وظهرت في وضح النهار وعرة غير مستقيمة،
مثل خط ولد صغير لا يتقن الكتابة بعد:
13 juillet. Evelyn m’est comme un miroir.

بـعدها، عدتِ أنتِ الى بيروت.
أما أنا، فسافرتُ من مرسيليا إلى برلين حيث حصل أمرٌ لم يكن في الحسبان:
فقد وجدتُ هناك في الأرشيف إيڤلين مرة أخرى!
وعلمت أن تيد فيندت هو مشغّل الأفلام في سينما الأرسنال التابع للأرشيف.
وحين التقيته، كنت لا أريد شيئاً أكثر من أن أسأله عن إيڤلين،
تلك الصديقة الوهمية التي لم تفارقني لحظة.
قال لي تيد أن إيڤلين تسكن في نيويورك،
وهي أيضاً تعمل كمشغّلة أفلام هناك.
رحت أحدث تيد عن كل الأشياء التي أحبها.
تماماّ مثل الأطفال الذين لا يعرفون قوانين الكبار في الكلام والبوح،
صرت أقول له كل هذه الأشياء، لعله ينقل شيئاً منها إلى إيڤلين.
وأخيراً، وقبل أن نفترق، قال لي:
إن إيڤلين مستوحاة من مدوناتي أنا.

كان تيد قد وضع كلماته في فم إيڤلين وصمته على وجهها!
فما الذي سحرني إذاً، هل هو وجه إيڤلين أو هي كلمات تيد؟
انتابني في تلك الليلة وانا أعود الى شقتي الصغيرة المؤقتة،
في ذلك الزمن المعلق حيث كنت أعيش خارج حدود مدينتي،
شعور غريب.
وكأنني وللحظة،
كنت في المكان المناسب في الوقت المناسب.
أسبق أن شعرت انتِ أيضاً بذلك، بهذه الشدة؟

-٢-

في ٤ آب ٢٠١٩،
كنت مستلقية في تلك المقبرة المجاورة للأرشيف،
وكتبتُ على دفتري الأبيض:
٤ آب، مستلقية على الأرض في مقبرة أورنينفريدهوف غيريشتراسي،
منذ أكثر من ساعة، بين الأموات ولكن على قيد الحياة.

أما أنت يا نون، فقُلتِ لي في ٧ كانون الأول ٢٠١٩:
حالة تحول المدينة يا كاف سوف توصف بكل تفاصيلها،
سوف توصف على أنها من زمن الـ مابعد؛ ما بعد الانفجار.
فيلمنا هذا عليه أن يرصد تعدديّة الوقت.
علينا توثيق كل ذلك يا كاف، علينا البحث عن أدوات تمكننا من توثيقه.

خوف من أن أنسى كلماتك، نسختها من دفتر لا أذكر لونه الآن على دفترنا الأخضر،
دفتر فيلمنا الجديد، الذي سوف يروي قصة حديقة سرية انفجرت داخل المدينة،
انفجاراً بعثر نباتاتها في شتى أنحاء المدينة،
مدينة باتت لا تشبه ذاتها.

كيف لنا أحياناً يا نون أن نكون بهذه القدرة على التنبؤ وهذه البراءة معاً؟
ربما يمكن أن يكون للتنبؤات هذه تفسير آخر،
مثلما اقترح أحدهم حين كتب في ١٤ آب ٢٠٢٠،
واصفاً انفجار مرفأ بيروت الذي فجّر معه المدينة:
صداه المُتناسل نحو الماضي والمستقبل معاً وفي آنٍ،
هو حياتنا جميعنا،
حياتنا التي عشناها ونعيشها وسوف نعيشها،
نحن وكثر لم يولدوا بعد.

أما أنا وأنت يا نون، ففعلنا بعد الانفجار ما نفعله دوماً:
جعلنا نوثق كل شيء، ناجيتان وصامتتان،
أنا على دفتري الأحمر أدون،
وأنت تجوبين كل أنحاء المدينة وتصورين ما تبقى منها.
لأننا نحن الإثنتين، وأكتر من أي شيء آخر،
نخاف النسيان.

أما أنا، فكل آونة وأخرى أرصد خللاً ما في ذاكرتي الماضية والحاضرة.
كلمات تُمحى، يختفي أثرها فأجد نفسي أبحث عنها دون جدوى.
قالت لي أحداهن أن ما يحصل من ثقوب في الذات بعد تفجّر كهذا هو أمرٌ طبيعي،
ففعل صدى الصوت العملاق لا يزل يسرح في البدن،
une sorte de réverbération infinie حسب وصفها،
لا يكف عن الارتعاش وبذلك الفعل يعيق تكوين الأفكار،
أو يمحو الذكريات،
في حركة ذهاب واياب متواصلة،
لا يمكن إيقافها إلا من خلال حركات موازية،
ليست معاكسة وإنما مداعبة، مثل الهواء على الأغصان،
حركة لا تمل ولا تتعب، وكأنها تدرك تماماً عناد هذا الصدى بالذات؛
صدى الكارثة حين تقع.

وقالت أحداهن أن لكلّ واحدة منا قدرتها الخاصة على التذكّر،
وأن هذا لا يجب أن يعيقها ابداً،
لأن كل واحدة منا تذكّر الأخرى بالأشياء التي قد تسقط عنها سهواً.
فصمتي يا نون قد يدعوك الى الكلام، وكلامك قد يولد صمتي،
أو صمتنا نحن الاثنتان قد يفسح المجال لكلمات الآخرين أن تتسرب بيننا،
ما قالته ايڤلين لكال مثلاً حين خرجت عن صمتها وعجزها عن الكتابة أخيراً:

ما يجب فعله الآن هو أن أجد موضوعاً.
شيئاً محدداً أركز عليه وأتابع العمل حوله.
إنني الآن مبعثرة في كل مكان.
الليلة الفائتة لم أستطع النوم أبداً…

-٣-

في يوم من أيام صيف ٢٠١٩،
دخلنا أنا وهيلغا حديقة النباتات في دالم،
ومشينا جنباً الى جنب في الممرات بين الأشجار والزهور.
يومها بدى لي أن هيلغا هي عالمة النبات التي وصفناها في دفترنا الأخضر،
دفتر الفيلم الجديد، الذي سوف يروي قصة نهلة وكاميليا،
اللتان تجولان المدينة بحثاً عن وشق ضاع إثر انفجار الحديقة،
ذلك الحيوان الذي وصفته عالمة النبات في مدوناتها قبل أن تختفي.
كنّا أنا وهيلغا في ذلك اليوم في غاية السعادة،
فأخبرتها أن هناك نوع من شجر الحور يسمى في الفرنسية le tremble
أو المرتجف – اسم يحوي فعله، كم هو جميل هذا الاسم! –

ثم أخبرتني هيلغا عن ذلك الفهد الذي انتظرته أياماً وأيام،
إلى أن جاء يوم ووقع ظلّ السجن على جسده الأصفر والأسود،
وأصبح منذ هذه اللحظة بالذات،
مرآة ذاته المسجونة في ذلك القفص وسط حديقة الحيوانات في برلين،
وصورت هيلغا الفهد بصمت.
حين رأيت ذلك الحيوان الجامح الصامت على حيط
غرفة السينما الخاصة بهيلغا في دنكلمانشتراسي ٥١ في شارلوتنبرغ،
لم أكن أسمع سوى تكتكات آلة عرض ال١٦مم
وصوت الشتاء على الزجاج الخارجي.
وفي هذه اللحظة بالذات، وفي صمتنا المشترك،
شعرت أنني في المكان المناسب، في الوقت المناسب.

في آخر النزهة في حديقة دالم، وبينما كانت الشمس قد خفّ بريقها،
تكلمنا أنا وهيلغا عن آخر مشهد من فيلم “الكلمة” لكارل ثيودور دراير، مشهد الأعجوبة.
أنا كذلك أبكي مثل طفلة صغيرة عندما تعود الأم إلى الحياة، قالت هيلغا.
غداً يعرضون فيلم “غيرترود” في سينما الأرسنال، هلّا تذهبين معي إلى السينما في المساء؟

ذهبت معها يا نون، دون أن أعلم أنه سيكون آخر فيلم أشاهده على الشاشة الكبيرة.
جلسنا أنا وهيلغا في الظلام جنباً الى جنب.
لم أجلس بجانب شخص قبل ذلك بهذه الطريقة في صالة سينما،
فصمت هيلغا لا يشبه أي صمت جاورته من قبل،
وكأنها تشاهد طقساً من الطقوس المقدسة.
جلستُ إلى جانب صمت هيلغا التام، غريبة اللغتين،
فالوجوه الخلابة من الأبيض والأسود وكل درجات الرمادي تتكلم الدانمركية،
وعلى أسفل الشاشة الترجمة الألمانية.

بعدما عدت الى بيروت في شهر تشرين الاول ٢٠١٩،
كتبت رسالة طويلة الى هيلغا، رسالة باللغة الفرنسية فيها زمنين:
زمن تلك النزهة الساحرة في حديقة دالم،
وزمني أنا وأنت في الشارع في بيروت.
وضعت في الرسالة إشارة سرية،
عبارة خفية (لمجرد أنها بالعربية) تصفني في الزمنين معاً:
حين رأيت ولأول مرة الفهد الجليل على حائط هيلغا،
وحين أخذنا أنا وأنت يا نون،
وبدافع فردي وجامع معاً، نهتف ونكتب ثورتنا على حيطان بيروت؛
فكتبت بالعربية إلى جانب كلمة tremble: يرتعش مثل ورق الحور الرجراج.

وها هو الآن يا نون يتسلل إليّ عنوان آخر لنصنا هذا،
دونته كي لا أنساه على دفترنا الأخضر بلون العشب:
صدى يرتعش مثل ورق الحور الرجراج.
عنوان، هو وصف وتوصيف لحالتنا الجديدة الآن، لذلك الرنين الهائم في أجسادنا بلا نهاية.

-٤-

سلكنا لأول مرة الطريق نحو المرفأ المنكوب ليلاً، وتوقفنا في زاوية مظلمة وكتبنا (فمن الصعب الكتابة أثناء المشي):
* تبدو المدينة في هذه اللحظة بالذات خالية تماماً من الشجر
** إنها مصنوعة فقط من بحر وباطون
*** أحدهم كتب: البحر أخذ حصته المعتادة من كل مصائبنا، أي ٥٠% من عصف الإنفجار
**** جدار الصوت الذي سبق الانفجار (ذلك الذي أنذرنا فاختبأنا ونجينا) سيظل يسرح ويمرح في أجسادنا 
***** ما من شيء أعنف من الصمت
****** إن المدينة قد أُفرغت من روحها ولكنها لا تهددننا في فراغها، بل تنظر إلينا محنية الرأس خاشعة 
******* كيف نترك الشيء بحاله ونرحل عنه، وهو حزين لا عزاء له؟
******** إن الرحيل لا بداية له ولا نهاية، حركة خفية وظاهرة في آن معاً، شأنه شأن الصدى
********* إن وسط البلد يحوي أرشيفنا، فأصداء ما عشناه مدوّنة على الحيطان
*********** لو كانت صالتا ميتروبوليس ودواوين ما زالتا قائمتين، لكانت القنبلة فجّرتهما
************ إن مدينة من دون صالات عرض هي مدينة من دون “عتمة متشارَكة”، مدينة وحيدة منقطعة عن باقي العوالم
************* كتب محمد سويد عن أول فيلم شاهده في صالة الأمبير في الجميزة:  ففيها شاهدت أول فيلم في حياتي، وبضوئها اغتسلت عتمتي، وفيها كانت قُبلتي الأولى ولم أدرِ أنها كانت قُبلة وداع فقط.
ثم توقفنا عن الكتابة وقلتِ لي: هل تصدقين أننا نعيشُ اليوم في مدينةٍ بلا دور سينما؟

-١-

-٢-

-٣-

-٤-

-٥-


أفلام:
“الفهد”، ٢٠١٢، للمخرجة هليغا فاندرل 
“الفترة الكلاسكية”، ٢٠١٨، للمخرج تيد فيندت

نصوص:
طارق ابي سمرا، “ستستمرّ القنبلة تنفجر” نشر في موقع ميغافون، ١٤ اب، ٢٠٢٠
https://megaphone.news/ستستمر-القنبلة-تنفجر/
محمد سويد. “قبلتي الاولى”، معهد الدراسات الفلسطينية، عدد ١٢٤ (خريف ٢٠٢٠): ١٦١-١٦٧
https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/161.pdf

صور:
لقطات من “الفترة الكلاسكية” ل تيد فيندت- بالاذن من المخرج
كل الصور المتبقية: بالاذن من المؤلفين

عشاء ثنائي لفرد واحد – سارة ساروفيم